(ولا من سيئة يستعتبون): استعتبته أي طلبت رضاه.
(فمن أشعر قلبه التقوى ): خوف الله ومراقبته في جميع أحواله.
(برز مهله): أي ظهر انتظاره الموت واستعدَّ لهجومه عليه، من الاستمهال: وهو الانتظار.
(وفاز عمله): الفوز: الظفر والنجاة؛ أي نجا بعمله وظفر بجزائه.
(فاهتبلوا هَبَلَها): الضمير للتقوى المذكور أولاً، وأراد فاغتنموا غنمها .
(واعملوا للجنة عملها): الذي يحق لها ويكون صالحاً؛ لأن تكون جزاءً له.
(فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام): لتسكنوا فيها، وتقيمون عليها.
(بل خلقت مجازاً): المجاز مفعل وهو ها هنا إما مصدر، أي خلقت من أجل تغريبكم عنها، وإما مكان أي خلقت مكاناً تجوزون منه إلى الآخرة.
(لتزوَّدوا منها الأعمال): لتأخذوا في زمانها ما ينجيكم من الأعمال الصالحة.
(إلى دارالقرار): وهي الجنة؛ لأنها موضع لا ينتقل عنه.
(فكونوا منها على أوفاز): الوفز: العجلة، والجمع أوفاز، قال الراجز:
أسوقُ عِيْراً مائل الجِهَازِ
صعباً يُنَزِّيني على أَوْفَازِ
(وقربوا الظهور للزيال): للانتقال عنها، وأراد بتقريب الظهور، سرعة الانتقال عنها، والظهر : الركاب الذي ينقل عليه الأثقال.
فانظر هذه الخطبة كيف اشتملت على جزل اللفظ ورقيقه، وبديع المعنى وغريبه، وهو باب من علوم البيان، أعني جزالة اللفظ لا يشق غباره، ولا تحصى محامده وآثاره، وأكثر القرآن مختص بما ذكرناه، ومنه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }[البقرة:179]، وقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }[البقرة:194]، وقوله: {فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }[البقرة:193].
ومن أحسن ماقيل في الجزالة قول بشار :
إذا ما غَضِبْنَا غضبةً مُضريَّةً
هتكنا حجابَ الشمس أومطرت دما
إذاما أعزي سيداً من قبيلةٍ
ذرا منبرٍ صلَّى علينا وسلَّما
(124) ومن خطبة له عليه السلام
(وانقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها): يريد إما انقاد من فيهما لعزته بالخضوع والذلة، وإما أن يكون الانقياد كناية عن نفوذ الأمروسرعة الإجابة، كما قال تعالى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهاً }[فصلت:11].
(وقذفت إليه السماوات والأرضون مقاليدها): أي بمقاليد خزائنها، والمقاليد جمع مقلاد وهو: المفتاح.
(وسجدت له بالغدو والآصال الأشجار الناضرة): الغدو هو: أول النهار، والآصال: جمع أصيل وهو: ما بين العصر إلى غروب الشمس، والنضارة هي: الحسن، وأراد بالسجود للأشجار، إما نفوذ الأمر فيها وانقيادها لأمره بمنزلة من يسجد خضوعاً وتذللاً، وإما أن يريد بسجودها هو تحركها وميلانها عند هبوب الريح بكرة وعشياً.
(وقدحت له من قضبانها النيران المضيئة): القدح هو: ظهور النار من العيدان، والقضبان: جمع قضيب وهوالشمراخ، وهذا من باهرالقدرة وعجيبها، الجمع بين النار والماء في هذه الأعواد كلها، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}[يس:80].
(وآتت أُكُلَها بكلماته الثمار اليانعة): الأُكُلُ بالضم مايؤكل، كما قال تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ }[إبراهيم:25] وأراد بكلماته؛ إما بأوامره، وإما بأسمائه التامة الحسنة.
(وكتاب الله بين أظهركم): يقال: هو نازل بين ظهريهم، وظهرانيهم بفتح النون، ولا يقال بكسرها، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنكم لاتعملون بأحكامه، ولا تعولون عليه أخذاً من قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }[آل عمران:187].
وثانيهما: أن يريد أنه غائب عنكم لا ترونه، بمنزلة ما يكون على الظهر، فأنتم لا ترون له حقاً لغيبته عنكم.
(ناطق لا يعيا لسانه): عيَّ في منطقه إذا لم يبين كلامه، وعيَّ في أمره إذا لم يهتد لوجهه، وفي المثل: هو أعيا من باقل .
(وبيت لا تهدم أركانه): جوانبه، والتهديم: التخريب.
(وعز لاتهزم أعوانه): الأعوان جمع عون ، وأراد أن كل من كان القرآن في صفِّه فإنه لا يهزم ولا ينكسر.
(أرسله على حين فترة من الرسل): يحكى أن الفترة التي كانت بين آدم ونوح ألفان ومائتان وأربعون سنة، ومن نوح إلى إبراهيم أربعمائة وست وثمانون سنة، ومن إبراهيم إلى موسى أربعمائة وست وثلاثون سنة، ومن موسى إلى عيسى ألف وسبعمائة وثلاث وسبعون سنة، وقد تقدمت رواية غير هذه في حال عيسى وموسى، وكان عمر آدم عليه السلام تسعمائة وثلاثين سنة، وعمر نو ح ألف وأربعمائة وخمسين سنة، وعمر إبراهيم مائة وخمسة وخمسين سنة، وعمر موسى مائة وستة وعشرين سنة، وعمرعيسى إلى أن رفعه الله ثلاثة وستين سنة، وعمر نبينا صلى الله عليه وآله ثلاثاً وستين سنة .
(وتنازع من الألسن): أراد إما اختلاف الشرائع؛ لأن كل شريعة إنما تكون بلسان ذلك النبي المرسل إلى قومه، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }[إبراهيم:4] ليفهموا عنه ما يقول لهم، وإما أن يكون مراده اختلاف اللغات، واختلافها في الفصاحة والبلاغة، فكان القرآن هو الغاية والنهاية.
(قفَّى به الرسل): أي ختم به الرسالة، وجعله منتهاها وغايتها.
(وختم به الوحي): فلا يكون وحي بعده.
(فجاهد في الله حق جهاده): الاجتهاد الذي يكون منه رضاءً له، وهوتدمير أعدائه وإظهار دينه، كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }[الحج:78].
(المدبرين عنه): المخالفين لدينه، والمتولين عن أوامره.
(والعادلين به): إلى غيره، إما إلىشريعة أخرى كأهل الكتابين من اليهود والنصارى، وإما إلى غير شريعة ولا كتاب نحو مشركي العرب وسائر المرتدين.
(وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى): أي هي غايته وقصاراه.
(لا يبصر من ورائها شيئاً): أي لا يلتفت إلى الآخرة، ولا يرعيها طرفاً.
(والبصير ينفذها بصره): أي يجاوزها إلى الآخرة، ولا يكون معرجاً عليها.
(ويعلم أن الدار وراءها): التي ينبغي التعويل عليها، والتي هي الدار على الحقيقة.
(فالبصير منها شاخص): أي خارج، من قولهم: شخص بصر من الدار إذا خرج عنها، ومن ها هنا لابتداء الغاية.
(والأعمى إليها شاخص): أي خارج، أي هي غايته فلا يشخص إلا إليها لا غير.
(والبصير منها متزود): أي المستبصر في أمر دينه متزود منها الأعمال الصالحة، ويرجو المتاجر الرابحة.
(والأعمى لها متزود): أي أنه لا يظعن إلا إليها فزاده لا يتجاوزها، بل إنما يكون عاملاً لها لا غير، وهذا من ضد الطباق، ومن رشيقه، حيث ذكر البصير والأعمى، وألحق بكل واحد منهما ما يليق به من معانيه التي تصلح فيه.
(واعلموا أنه ليس من شيء إلا ويكاد صاحبه يملُّ منه ): تلحقه منه سآمة، وملالة ويشبع منه.
(إلا الحياة): فإنها من بين سائر الأشياء المشتهاة، والأمور اللذيذة لا تمل أبداً.
(فإنه لا يجد له في الموت راحة): لانقطاع سائر المنافع واللذات عنه.
(وإنما ذلك بمنزلة الحكمة): إنما هذه تفيد الحصر حيث وجدت ، كما قال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ }[طه:98] لأن المعنى ما إلهكم إلا الله، وذلك إشارة إلى القرآن المتقدم ذكره في أول كلامه، وإنما أتى باللفظ المستعمل في الإشارة لما كان بعيداً، لما تقضَّى تنبه ذكره، والمتقضي في حكم البعيد، وذلك مبتدأ، وقوله: بمنزلة الحكمة خبره ، ومعناه: وإنما القرآن بمنزلة الحكمة:
(التي هي حياة للقلب الميت): الغافل عن الموعظة، كما قال تعالى: {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }[يونس:57].
(وبصر للعين العمياء): التي ليس لها نظر إلى الآخرة فهي بمنزلة العين العمياء.
(وسمع للأذن الصماء): التي لا تصغي إلى ما ينفعها من المواعظ والآداب والحكم.
(وري للظمآن): العاطش.
(وفيها الغنى كله): الضمير للحكمة، أي أن فيها منافع الدين والدنيا، فلا يفتقر معها إلى شيء سواها.
(والسلامة): عن أخطار الدين والدنيا؛ لأن مع الحكمة تقع السلامة عن ذلك.
(كتاب الله [تبصرون به] ): أي هو كتاب الله، أو يكون بدلاً من اسم الإشارة، ويجوز نصبه مفعولاً لتبصرون.
(وبه تنطقون ): أي تتكلمون بما يكون مطابقاً له.
(وتسمعون به): أي ولا يكون حقيقاً بالاستماع من كلامكم كله إلا ما كان موافقاً له.
(وينطق بعضه ببعض): في الصدق في جميع ما تضمنه، أو يكون مراده وينطق بعضه ببعض في الصحة، وعدم المناقضة والفساد، كما قال تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ }[فصلت:42].
(ويشهد بعضه علىبعض): في تأييد الأحكام وتقريراتها من أن يعتريها نقص، أو يرتمى إليه خلف ومدافعة.
(ولا يختلف في الله): إما أن يريد نفي اختلافه فيما يكون منه دلالة على ذات الله كنفي الرؤية واستحالتها على الله تعالى، وإثبات الوحدانية له، وغير ذلك مما يكون مستنده الشرع من الإلهيات، وإما أن يريد به نفي اختلافه فيما أخبر به عن الله من العلوم الغيبية، من القصص وسائر الأخبار التي تضمنها.
(ولا يخالف بصاحبه عن الله): أي مهما كان الاعتماد على القرآن للإنسان في كل أحواله فإنه لا يخالف، ولا يكون مجاوزاً لمقصود الله تعالى ومراده منه، وقد ورد عن الرسول ما يطابق ما قاله ها هنا في القرآن، كقوله: ((هو أوضح دليل إلى خير سبيل ، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل)) .
(قد اصطلحتم على الغل): ما يكون في الصدورمن الأحقاد، وأراد أن أحوالهم جميعاً قد استوت على أن كل واحد منهم في قلبه حقد وغل على صاحبه، وهو لايحكم على قلبه ولا يرى له أثر على وجهه.
(فيما بينكم): في خاصة نفوسكم وذواتها.
(ونبت المرعى على دِمَنِكم): الدِّمَنُ جمع دِمْنَة، وهي: الحقد، وجعل نبات المرعى كناية عن دوامها، وثبوتها في أحوالكم.
(وتصافيتم على حبِّ الآمال): المصافاة مفاعلة، وأراد أن كل واحد منكم ودَّه لأخيه لأجل كثرة آماله وبُعْدها، أو أراد الموافقة، أي أنكم اتفقتم على الآمال الطويلة، والإعراض عن الآجال وقربها.
(وتعاديتم في كسب الأموال): أي أن كل واحد منكم يحسد أخاه على ما وصل إليه من رزق الله، حتى صار ذلك سبباً للمعاداة منكم، وحصول البغضاء فيكم.
(لقد استهام بكم الخبيث): ذهب بكم الشيطان مذاهبه الردية، من قولهم: هام إذا ذهب.
(وتاه بكم العدو ): أراد حيَّركم في المهالك.
(والله المستعان على نفسي): دفع شرنفسي.
(وأنفسكم): دفع شر أنفسكم.
وليس يخفى ما تضمنته هذه الخطبة من الاستطرادات العجيبة، فبيناه يتكلم في حال السماء، إذ خرج إلى حال القرآن، إذ خرج إلى وصف الرسول، إذ خرج إلى حال الدنيا.
(125) ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر في الخروج إلى الروم
(وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة): صار معتمداً لأهل الإسلام يلجأون إليه في كل ما نابهم من الشدائد، من قولهم: اتكلت على رأي فلان أي اعتمده، والحوزة: الناحية، وحوزة الملك بيضته أي بإعزاز جانبهم وحماية خططهم.
(وستر العورة): العورة من الرجل والمرأة: سوآتهما، والعورة: كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب، وهذا هو مراده ها هنا.
(والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون): لأجل قلة عددهم فهم لا يمتنعون من كل أحد.
(ومنعهم): عن الأعداء.
(وهم قليل): أي عددهم قليل.
(لا يمتنعون): من أجله.
(حي): مرفوع على أنه خبر عن الذي في أول كلامه .
(لا يموت): يستحيل عروض الموت على حياته؛ لأنها حاصلة للذات فلا يتغير بحال.
(وإنك): خطاب لعمر.
(متى تسر إلى العدو بنفسك): بذاتك من غير استخلاف غيرك.
(فتلفهم ): الضمير لمن يقصدونه من الكفار.
(فتنكب): فيصيبك نكبة، وهما مجزومان عطفاً على فعل الشرط، وهو تسر.
(لا تكن للمسلمين): وهو جواب الشرط.
(كانفة): كنفت الشيء أكنفه إذا حطته ومنعته ، والكانفة إما مصدر بمعنى الكنف كالكاذبة بمعنىالكذب، وإما أن تكون صفة أي حالة كانفة.
(دون أقصى بلادهم): أراد أنه هوالغاية للمسلمين والنهاية، فإذا هزموه لم يستقتلوا نفوسهم إلا بالوصول إلى بلادهم، ولا يكون لهم عز ومنعة دونها.
(ليس بعدك مرجع): أي بعد خروجك مستند يلوذ به المسلمون إذا نابتهم نائبة.
(يرجعون إليه): يكون غاية لهم.
(فابعث إليهم رجلاً مجرباً): له تجربة وحنكة في الحروب، وتقدم فيها، أو (محرباً) بالحاء المهملة، والمحرب: كثير المعاودة في الحرب، والمعالجة لأحوالها، والجيم هو سماعنا.
(وأحفز إليه ): عجِّل إلى نصرته.
(أهل البلاء): إما أهل الاختبار [والتجارب] في الأمور، وإما أن يريد أهل الامتحان والصبر على الشدائد.
(والنصيحة): له ولك.
(فإن أظهرالله): عليهم بالنصر وأعانهم.
(فذاك ما تحب): من الأمور التي أردتها وقصدتها.
(وإن تكون الأخرى): بأن الدايرة عليكم.
(كنت ردءاً للناس): عوناً لهم يلجأون إليه، كما قال تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي }[القصص:34].
(ومثابة للمسلمين): يرجعون إليك، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ }[البقرة:125] أي يرجعون إليه من أجل تعظيمه بالحج والاعتمار.