فذكر في الأول الإعانة، وذكر في الثاني البخل، وليس بينهما تعلق ولا مداناة.
ثم أردف ذلك بوصف حال الأتراك وأمرهم:
الترك: جيل من العجم.
(كأني أراهم قوماً): جماعة.
(كأن وجوههم المَجَانُّ المُطْرقَة): الْمَجَانُّ جمع مِجَنّ وهو: الترس، والمطرق: المجعول بعضه على بعض كالنعل المطرقة طباقاً، شبَّه وجوههم بها لسعتها وكبرها، وقد ورد ذلك في كلام الرسول عليه السلام .
(يلبسون السَّرقَ): جمع سَرَقة مثل سَعَفَة وسَعَف وهي: ثياب الحرير.
(والديباج): وهو: نوع من أنواع الحرير أيضاً، والديباج والسرق فارسيان معربان.
(ويعتقبون الخيل العتاق): يحتبسونها للركوب والقتال، من قولهم: اعتقبت الرجل إذا حبسته، وفرس عتيق إذا كان ناعم الخلق كثير السبق.
(ويكون هناك استحرارقتل): حر القتل واستحر ، إذا اشتدَّ وكثر.
(حتى يمشي المجروح على القتيل): لكثرة القتلى.
(ويكون المفلت): الناجي من القتل والأسر.
(أقل من المأسور): كل ذلك مبالغة في شدة الأمر وعظمه، وكل ما ذكره إما قد كان بعده، وإما سيكون بعد ذلك، ولعله يشير إلى الدجال، كما قد مضىذكره في موضع غير هذا.
واعلم: أنما ذكره ها هنا من أخبار صاحب الزنج، ثم حال الأتراك إنما هو بإخبار الرسول إياه بذلك، وتعريفه به من جهته، ويدل على ذلك بأنه لما ذكرما ذكره من هذه الأمور قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السلام وقال للرجل وكان كلبياً:
(يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب): أراد أن علم الغيب لايكون له سبب سحر ولا غيره من سائر الأسباب.
(وإنما هو تَعَلُّم من ذي علم): أي أني تَعَلَّمْتَهُ ممن أَعْلَم به من جهة أخبار السماء وهو رسول الله.

(وإنما علم الغيب): العلم الذي لا ينبغي لأحد أن يطلع عليه إلا الله تعالى.
(علم الساعة، وما عده الله تعالى بقوله : {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِي‍رٌ}[لقمان:34]، فيعلم سبحانه ما في الأرحام): أي ما استقر فيها وما خلق فيها وقدر.
(من ذكر أوأنثى، وقبيح أوجميل، أو سخي أو بخيل): فذكر وأنثى من صفات الخلقة، وقبيح وجميل من صفات الصورة والتركبة، وسخي وبخيل من صفات الطبائع والخلايق.
(وشقي وسعيد ): من صفات الأفعال .
(ومن يكون للنار حطباً): من الكفار والفساق، وسائر أهل الضلالات والبدع والأهواء.
(وفي الجنان للنبيين مرافقاً): وهم الأولياء والصالحون وسائر الأبرار.
(فهذا علم الغيب الذي لايعلمه أحد إلا الله): لما في ذلك من المصلحة التي استأثرالله تعالى بعلمها من علم الآجال والأرزاق وغير ذلك، فإن في سترها عن الخلق مصالح وأسرار، وحكمة عظيمة قد أحاط الله بها.
(وما سوى ذلك): من سائرالمعلومات.
(فعلَّم علمه الله نبيه [صلى الله عليه وآله] ): لما فيه من المصلحة الغائب عنّا علمها.
(فعلمنيه): بأن ألقاه إليّ وأخبرني به.
(ودعا لي بأن يعيه صدري): فلا أنساه.
(وتضطَّم عليه جوانحي): الجوانح هي: عظام الصدر، الواحدة منها جانحة، وتضطم أي تشتمل عليه.

واعلم: أن ما ذكره عليه السلام من علوم الغيوب، كما نجوِّز أن يكون ذلك من جهة الرسول عليه السلام كما قال، وكنَّا نجوِّز أن يكون ذلك كرامة له من الله تعالى أكرمه بها، وعلم أن له في ذلك مصلحة استأثر بعلمها، خاصة إذا قلنا: يجوز إظهار الكرامات على الأولياء والصالحين كما هو مذهبنا، فأما سائر أصحابنا وأكثرالمعتزلة فقد منعوا من إظهار الكرامات، وقد قررنا ما نختاره في الكتب العقلية.

(120) ومن كلام له عليه السلام في ذكر المكاييل والموازين
(عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا): من هذه لابتداء الغاية، والواو في قوله: (وما تأملون) إما للعطف على الضمير فتكون [ما] موصولة، أي والذي تأملون، أو تكون واو مع أي مع الذي ترجونه من عاجلها وعيشها المنقطع.
(أثوياء): جمع ثوي؛ وهو الضيف، أو يكون اشتقاقه من ثوى بالمكان إذا أقام فيه، وأراد أنكم فيها بمنزلة الضيف و مقيمون إقامة حقيقة.
(مؤجلون): لكم آجال مقدرة لايزاد عليها ولا ينقص منها.
(ومدينون): إما من أدانه إذا أقرضه، وإما من دانه إذا أذله واستعبده، وإما من دانه بمعنى جزاه، وكلها صالحة ها هنا.
(مقتضون): أي يقتضى منكم ما أسلفتموه، وهذا يؤيد تفسير مدينون من دانه إذا أقرضه، ولهذا أورده على أثره.
(أجل منقوص): غيرمتطاول.
(وعمل م‍حفوظ): مكتوب في الصحف على أيدي الملائكة .
(فرب دائب مضيّع): دأب في عمله إذا أجد فيه وأتعب نفسه، أي ربما جد في ذلك وهو في الحقيقة مضيع لإبطاله لعمله بالمعصية، أو لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى، فلهذا كان بمنزلة من ضيَّع العمل بل هو أخسر صفقةمنه؛ لكونه قد أتعب نفسه ولم ينفعه الله بعمله.
(ورب كادح خاسر): الكدح: السعي بالكد، أي أنه ربما كدح وخسرفي عمله؛ لأنه لما يأتِ به مطابقاً لرضوان الله ووجهه.
(وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً): يخاطب به أصحابه، وإذا كان الحال ما قاله في ذلك اليوم والخير كثير، والشريعة غضَّة طرية، ورسول الله [صلى الله عليه] لم يبل قميصه، فكيف حالنا في هذه الأزمان، فإنَّا با لله عائذون!
(ولا الشر فيه إلا إقبالاً): بالفتن في الأديان وسائرالضلالات.

(والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً): لما يكون هناك من الإعراض عن الله والرغبة في الدنيا، وعند ذلك يحصل الطمع، و يعظم رجاؤه في الانقياد له.
(فهذا أوان): وقت، والأوان: عبارة عن الزمان الذي يقع فيه كلام المتكلم، وجمعه آونة كزمان وأزمنة.
(قويت عدتة): الضمير للشيطان، وأراد بالقوة المكر والخديعة بالخلق وكثرة الإغواء لهم ، وهو استعارة لقوة الأمر في ذلك، والعائد محذوف تقديره فيه؛ لأن الجملة صفة لأوان، فلا بد فيها من ضميره .
(وعمَّت مكيدته): كاده يكيده كيداً ومكيدة إذا مكر به وخدعه.
(وأمكنت فريسته): أي استمكنت وصارت ممكنة لمن يفترسها، وأراد أنهم ليسوا ممتنعين منه متى شاء فرسهم، فبلغ هو الغاية في زللهم وإغوائهم، ومصداق ذلك وأمارته ما أقوله لك:
(اضرب بطرفك): أجل طرفك وفكرفي نفسك.
(حيث شئت): من الأماكن والجهات.
(من الناس): من لابتداء الغاية.
(فهل تنظر إلا فقيراً مكابداً فقراً): يعاني فقره، ويعالج أمره، وحاله في ذلك بالاحتيال على دهره والدخول في كل شبهة، لا يدع باباً إلا ولجه ، ولاشبهة له فيها مطمع إلا ارتكبها.
(أو غنياً بدَّل نعمة الله كفراً): أخرجه غناه إلى البطر والأشر، وتعدي حدود الله وارتكاب محرماته، بدل جزاء نعمة الله من الشكر لها والاعتراف بحقها؛ كفراً بالله وخروجاً عن أمره ونهيه.

(أوبخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً): البخل: منع الحق الواجب، والبخيل من فعل ذلك، وأراد أنه توصَّل بالبخل لحق الله ومنع واجباته عن الأداء، وجعله وفراً في ماله وزيادة فيه، ومانع الزكاة يسمى بخيلاً، كما ورد ذلك في شأن ثعلبة بن حاطب، في قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[التوبة:76] فسماه الله بخيلاً لما منع حقه الواجب عليه في ماله، والقصة فيه معروفة .
(أو متمرداً): خارجاً عن الحد على جهة العتو والاستكبار.
(كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً): يشبه في بُعْدِهِ عن سماع المواعظ والانتفاع بها من في أذنه صمم وثقل، فهو لا يعرِّج ولاينفعه سماعها.
(أين خياركم وصلحاؤكم): في الدين وأهل الصلاح منكم الذين اختاروا لأنفسهم الآجلة، وصلحت أعمالهم وسرائرهم.
(وأين أحراركم): أهل الأحساب والنفاسة.
(وسمحاؤكم): الذين جادوا بأنفسهم وأموالهم ابتغاء وجه الله تعالى وتقرباً إلى رضوانه.
(وأين المتورعون في مكاسبهم): الآخذين بالحزم في أبواب الكسب، وفي الحديث عن الرسول: ((الجهاد عشرة أجزاء، فتسعة منها في طلب الحلال ، وجزء منها في طلب العدو)) وكان من سلف يتركون أبواباً من المكاسب المباحة كي لايقعوا في المحظور من ذلك، وفي الحديث: ((من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه )) ، وهذا نحو الأموال الربوية، والدخول في الصناعات المكروهة، وتناول الأموال المشكوك فيها، وغيرذلك مما يكون تركه تورعاً، وأخذه دخول في الشبهة وتلبس بها.
(والمتنزهون في مذاهبهم): عن الاعتقادات الردية والخواطر السيئة، والمتنزهون في مذاهبهم أي تصرفاتهم في كل وجه من ذلك.

(أليس قدظعنوا): خرجوا، وأراد بذلك من سلف من قرن الصحابة فإنهم كانوا على هذه الصفة، وأبلغ منها في التحرز في الأموال والمكاسب، وكانوا يتركون سبعين باباً من الحلال لئلا يقعوا في الحرام.
(عن هذه الدنيا الدنية): سميت الدنيا دنيا لدنوها وقربها بالإضافة إلىالآخرة، والدنية صفة للدنيا إما غير مهموز بمعنى القريبة، كأنه قال عن هذه القربى القريبة، وإما مهموز بمعنى الدون أي الخسيسة المحقرة.
(والعاجلة): وإنما سميت عاجلة؛ لأنها تعجلت لصاحبها وقربت إليه، قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ }[الإسراء:18].
(المنغصِّة !): المكرِّهة إلى أهلها؛ لأنها لاتزال ترميهم بنوائبها ومصائبها، وتُنَغِّص عليهم لذاتهم وتقطعهم عن بلوغ أمنياتهم، فهي منغصة لا محالة.
سؤال؛ كيف قال ها هنا: إنها منغصة ووصفها بذلك، والله تعالى يقول: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:20-21]، ونراها محبوبة في أعين الخلق ولهذا آثروها على الآخرة، فكيف قال: إنها منغصة ؟
وجوابه؛ أنها لاتمتنع أن تكون محبوبة من وجه، مكروهة من وجه آخر، فمحبتها من أجل تعجلها ونضارتها وحسن زهرتها، وكراهتها من أجل انقطاعها، وما يعرض من الفجائع والتكديرات، وإذا كان الأمر كما قلناه حصلت الموافقة بين كلام الله تعالى وكلام أمير المؤمنين كما قررناه.
(وهل خُلِّفتم إلا في حثالة): في ناس حثالة من الخلق، وهم أردؤهم، والحثالة: الرديء من كل شيء.
(لا تلتقي بذمهم الشفتان): أي لاينطق أحد بذمهم ولا يفوه بذلك ولا يتكلم به.
(استصغاراً لقدرهم): أي أن أقدارهم نازلة فليسوا أهلاً لأن تقع العناية بذمهم

(وذهاباً عن ذكرهم): وتأففاً واستنكافاً عن أن يذكروا بذكر، وقوله: (لا تلتقي بذمهم الشفتان) من فصيح الكلام وغريبه، الذي لم ينسج أحد على منواله، [ولا سمحت] قريحة على حده ومثاله، وقد قال بعض علماء البيان، وأهل الفصاحة واللسان، أنه قد وجد لأمير المؤمنين ثلاث كلمات جرت مجرى الأمثال ووجد معناها حاصلاً في كتاب الله تعالى:
الأولى: قوله عليه السلام: (من جهل شيئاً عابه) ومثله من كتاب الله تعالى قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ }[الأحقاف:11]، وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ }[يونس:39].
والثانية: قوله عليه السلام: (المرء مخبؤ تحت لسانه)، وقريب من معناه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ] فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }[محمد:30].
الثالثة: قوله عليه السلام: (ابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما، واحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما) ومثله قوله تعالى : {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً }[الممتحنة:7]، فانظر مابين هذه من المعاني من التقارب والتداني، ثم غير خاف عليك أنها وإن تقاربت فبينها وبين ألفاظ القرآن في الرقة واللطافة والجزالة والبلاغة بون لا يخفى، وبُعْدٌ لا يتقارب ولا يتدانى، وفضل القرآن عليها كفضل القمر على سائر الكواكب.
(فإنَّا لله): مملوكون ونحن عبيد مربوبون.
(وإنَّا إليه راجعون): بالإعادة بعد الإفناء من أجل المحاسبة على الأعمال والجزاء.
(ظهر الفساد): فشا في الأرض وكثر.
(فلا منكِّر مغيِّر): أي لا منكِّر له بقلبه، مغيِّر له بيده.
(ولا زاجر): عن فعله يكفّ عنه.

(مزدجر): ذو ازدجار وانكفاف عن فعله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ }[القمر:4].
(أفبهذا): إشارة إلى ظهور الفساد وعموم المنكر.
(تريدون أن تجاوروا الله): تزعمون أن يكون لهم الحصول في الجنة حائزين للرحمة.
(في دار قدسه): التقديس: التطهير ، كما يقال: حضيرة القدس، وقوله: {رُوحِ الْقُدُسِ }[البقرة:87]، {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }[المائدة:21] المطهرة، وأراد في دار الطهارة عن الأقذار والتنغيصات.
(وتكونوا أعز أوليائه عنده): الأولياء جمع ولي، ومعنى ولي الله أي الله أولى به، يريد كرامته وإثابته ونصرته وإعانته، والعزة: الكرامة أي تكونون بها أكرم أوليائه.
(هيهات): اسم من أسماء الأفعال موضوع للخبر أي بَعُد ذلك وفيها لغات كثيرة، قال الله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }[المؤمنون:36] أي بَعُد ذلك، فيقال: هيهات بالحركات الثلاث وبالتنوين مع الحركات فهذه ست، وإيهاك وإيهان وغير ذلك.
(لا يخدع الله عن جنته): الخدع: المكر، وهو أن تريه المناصحة وغرضك غدره، وأراد أنه لايطمع فيها من ليس عاملاً لها فيكون ذلك خديعة لله تعالى، كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }[النساء:142].
(ولا تنال مرضاته): المرضاة: هي الرضى أي أنها لا تنال بشيء من الأشياء.
(إلا بطاعته): التي تجب له والتي هو أهل لها دون غيره ممن يكون مطاعاً.
(لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له): لأن أمرهم بالمعروف بعد فعلهم له، فإذا تركوه كان ذلك عكساً لأمره وقد ذمهم الله تعالى بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ }[البقرة:44] وأراد اليهود.

(والناهين عن المنكر العاملين به): لأن نهيهم إنما يكون بعد تركه والتناهي عنه، وإذا نهوا عنه وفعلوه كان ذلك أدخل في الملامة وأبلغ في القبح، واللعن هو: الطرد عن الرحمة والإبعاد عنها، وقد صار بالشرع لا يستحقه إلا من كان فاسقاً خارجاً عن ولاية الله تعالى إلى عدوانه ، مستحق للعقاب من الله تعالى.
سؤال؛ أليس قد قال المتكلمون: إنه لا يمتنع أن يجب الأمر بالمعروف على الواحد منَّا وإن كان تاركاً له، ويجب عليه النهي عن المنكر وإن كان فاعلاً له، وفي كلام أمير المؤمنين ما يأباه؟
وجوابه؛ هو أن ما قاله المتكلمون غيرممتنع؛ فإن وجوب الأمربالمعروف مخالف لوجوب المعروف في نفسه، ووجوب النهي عن المنكر مخالف لوجوب الانتهاء عنه، ألا ترى أنه لايمتنع أن يجب عليه أمر غيره بالصلاة وإن كان تاركاًلها، وأن يجب عليه النهي عن القتل وإن كان فاعلاً له، وليس في كلامه ما يدفع هذا، ولكنه ذمَّ الآمرين بالمعروف مع تركهم له، وذمَّ الناهين عن المنكر مع فعلهم له، وليس ذلك دافعاً لما قاله أهل الكلام لتغاير الوجهين.

69 / 194
ع
En
A+
A-