(واعلموا أنما نقص من الدنيا، وزاد في الآخرة): بالفقر والمرض، والامتحان بأنواع البلايا والمصائب، فإنه ثواب في الآخرة، وعلو في مراتبها، كما ورد به الشرع، وأخبربه الرسول عليه السلام كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، وقوله عليه السلام: ((إذا انقطع شسع نعل أحدكم فليسترجع فإنه من المصائب)) فهذه الأمور كلها نقص في الدنيا، وهو زيادة على الحقيقة في الآخرة؛ لما فيها من الثواب بالتمحيص والغمومات، فلهذا كانت زيادة في الآخرة.
(خير ممَّا نقص من الآخرة، وزاد في الدنيا): وهذا كالملاذ الواصلة إلى الكفار والفساق، بزيادة الأموال والأولاد، فإنها وإن زادت في الدنيا فهي نقصان في الآخرة؛ لانقطاعها وحصول العقاب لهم على ما يستحقونه، فلهذا لاخير فيها لهم.
(فكم من منقوص رابح): إما بأن يكون منقوصاً في الدنيا بالفقر، وثكل الأولاد والأهلين ، وهو رابح في الآخرة، بما كان له من الثواب بالاصطبارعلى ذلك، وإما بأن يكون منقوصاً في الدنيا لامال له ولا ولد، رابح فيها براحة النفس عن جميع الكُلف والمشاق كلها.
(ومزيد خاسر!): في الدنيا من الأموال وسائر النفائس، خاسرفي الآخرة للثواب بفسقه وتمرده.
(إن الذي أمرتم به): من العبادات المفروضة، والنوافل المندوبة في سائر أنواع البر وأعماله.
(أوسع من الذي نهيتم عنه): من جهة قيام بعضها مقام البعض ، ومن جهة قضاء مافات من الفرائض، ومن جهة رفع الْجُنَاح عن ترك هذه النوافل كلها، وليس كذلك المنهيات؛ لأن فيها تحريجات ومباعدةً عنها ووعيداً على تعدِّيها، ألا ترى أن الذي نُهِيْنَا عنه من مخامرة النجاسات، أمور معدودة محصورة، بخلاف الأمورالظاهرة، فإنها بغير نهاية، ولاحصر لها ولاغاية، فبان بما ذكرناه أن المأمورات أوسع مجالاً من المنهيات لامحالة.
(وما أُحلَّ لكم أكثر مما حُرِّم عليكم): أما في المنكوحات فظاهر فإن المحرمات محصورة، والمحللات لا حصر لها ولاعدَّ، وهنَّ ما عدا المحارم، وأما في المأكولات فالذي حرم أكله من اللحوم وغيرها محصور وما عداه باق علىالإباحة، وأما المشروبات فالمحرم منها محصوركالخمر والدم وسائر النجاسات وغير ذلك، وما عداها باق على التحليل، وأما اللباس فالمنهي عنه الحرير وما عدهَّ الفقهاء وما عداه حلال، وغير ذلك مما اشتملت عليه الكتب الفقهية، فظاهر بما حققناه أن ما أحل الله تعالى للخلق أكثر لامحالة، وأوسع مما حرمه عليهم، وفي هذا دلالة على لطف الله تعالى بخلقه، وعلى حسن هذه الشريعة، وارتفاع قدرها، كما قال عليه السلام: ((بعثت بالحنيفية السمحة )).
(فذروا ما قلَّ): من هذه المحرمات والمنهيات.
(لما كثر): من المأمورات والمحللات.
(وما ضاق): من المحرمات.
(لما اتسع): منها.
(قد تكفل الله لكم بالرزق): ضمنه،كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}[الذاريات:22-23] ما قلته.
(وأمرتم بالعمل): عبادة الله، وتأدية سائر واجباته عليكم.
(فلا يكونن المضمون لكم طلبه): بالاجتهاد والنَّصَب في تحصيله وهو: الرزق.
(أولى بكم من المفروض عليكم عمله): من تأدية حق الله، وامتثال أوامره في ذلك.
(مع أنه والله قد اعترض الشك): في قلوبكم.
(ودخل اليقين): صار مدخولاً فيه بالريب.
(حتى كأن الذي ضمن لكم): من الأرزاق.
(قد فرض عليكم): طلبه لما يظهر منكم من الجزع، وعظم الطلب وكثرته.
(وكأن الذي فرض عليكم): تأديته من الواجبات.
(قد وضع عنكم): لما يظهر من التساهل فيه، وترك الاجتهاد في تحصيله.
(فبادروا بالعمل ): بالتحصيل والفعل.
(وخافوا بغتة الأجل): أن يأخذكم الموت وأنتم على غير أُهْبَة.
(فإنه لا يرجى من رجعة العمر): بالتدارك.
(ما يرجى من رجعة الرزق): فإنهما مختلفان متباينان.
(ما فات اليوم من الرزق): بالعدم والزوال.
(رجي غداً زيادته): من جهة الله تعالى.
(وما فات من العمر أمس): بأن صارمنقضياً زائلاً.
(لم يرج اليوم رجعته ): لاستحالة ذلك وبطلانه.
(الرجاء): من جميع الأمور كلها، وسائر الأعمال.
(مع الجائي): الحاصل في المستقبل؛ لأنه ينتظرحصوله ووقوعه.
(واليأس): من جميع الأمور كلها.
(مع الماضي): لاستحالة رد الماضي وعودته.
(فاتقوا الله حق تقاته): على الحد الذي يتوجه من حقه، في القيام بواجباته، والانكفاف عن محارمه كلها.
(ولا تموتنَّ): على حالة من الحالات.
(إلا وأنتم مسلمون): إلا على حالة الإسلام، وهذا الاستثناء مفرغ، وتفريغه إنما هو في الصفات، كقولك: ما جاءني زيد إلا ضاحكاً.
وأقول: إن حكم هذه الآية لمن أصعب الأحكام وأثقلها؛ لما تضمنته من وجوب تقوى الله على حقيقتها وحدِّها، وهو أمر عظيم، ولكن الله تعالى من رحمته الواسعة ولطفه اللطيف، قد تدارك ثقلها بما خفف، من قوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن:16].
اللَّهُمَّ، اجعلنا من الفائزين بإحراز التقوى.
(109) ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاء
(اللَّهُمَّ، قد انصاحت جبالنا): صحت الثوب، بالصاد المهملة فانصاح أي شققته فانشق ، قال عبيد :
فأصبح الروض والقيعان مُمرعةٌ
من بين مُرْتَتِقٍ منها وَمُنْصَاحِ
أي متشقق، ويقال: تصوَّح الشجر إذا يبس أعلاه وجفَّ، قال الراعي :
وحاربت الهَيْف الشِّمال وآذنت
مذانب منها اللَّدْن والمتصوِّح
وأراد تشققت جبالنا، ويبس شجرها من المحول .
(واغبرَّت أرضنا): صار لونها أغبر لمايبس شجرها، وانحتَّ لعدم الماء.
(وهامت دوابنا): الهيام: العطش، قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ }[الواقعة:55].
(وتحيرت في مرابضها): وقفت في أماكنها، لا تجد مذهباً تذهب إليه، والمرابض للغنم كالأعطان للإبل.
(وعجت عجيج الثكالى على أولادها): العجُّ هو: رفع الصوت، والثكلى هي: التي فقدت ولدها، واشتد حزنها عليه، فلا يزال صوتها مرتفعاً بالبكاء عليه.
(وملت التردد في مراتعها): الملالة هي: السآمة من الشيء، والمرتع هو: مكان الرتوع، وهو التنعم والأكل بالاستراحة، يقال: رتعت الماشية إذا تنعمت بالأكل، وإنما ملَّته لما لم تجد فيه قضاء أغراضها من الشبع والري بالماء، فهي مترددة حيارى.
(والحنين إلى مواردها): الحنين هو : الشوق وتوقان النفس، والموارد: جمع مورد، وهي أمكنة الماء، وإنما ملَّته لما لم تجد غُلَّتَها تنقع .
(اللَّهُمَّ ، فارحم حيرتها في مذاهبها): تحيّرها في طرقها، فلا تجد مذهباً تذهب إليه.
(وأنينها في موالجها): الأنين هو: الصوت الضعيف، يقال: أنَّ الرجل أنيناً، قال ذو الرمة:
كما أنَّ المريضُ إلى عوّادهِ الوَصِبُ
والموالج : المداخل، ومنه تولج الوحش إلى كناسه .
(اللَّهُمَّ، خرجنا إليك): شخصنا من بيوتنا، وأنت غايتنا ومقصدنا.
(حين اعتكرت): اعتكر الظلام إذا اختلط بعضه ببعض، وتراكم وركب أعلاه أسفله.
(علينا حدابيرالسنين): جمع حدبار، وهي: الناقة التي يبس لحمها من الهزال الضامرة، أي قهرتنا بالجدب، وصارت مستعلية لنا.
(وأخلفتنا مخايل الجود): أخلف الوعد، إذا لم يصدق في وعده، والمخايل: جمع مخيلة، يقال: سحابة مخيلة، إذا كانت مرجوة للمطر، ومخيلة السحاب خلافته بالمطر، أي وتخلفت عنا مخايل الجود من كل ما نظن فيه الفرج لنا وكشف حالنا.
(فكنت الرجاء): إما على حذف المضاف، أي ذا الرجاء، وإماعلى المبالغة، كأنه جعله نفس الرجاء، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }[البقرة:177]، قال زهير:
فهمُ رضًا وهم عدل
(للمبتئس): الحزين، قال تعالى: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[يوسف:69].
(والبلاغ للملتمس): أي للطالب ، من قولهم: تلمست الحاجة إذا طلبتها، أي وأنت بلاغ الطالب للحا جة ونها يته.
(ندعوك حين قنط الأنام): يئس الخلق عن اتصال الخير بهم.
(ومنع الغمام): ماؤه، وامتنع عليه، والمانع هو الله تعالى، وإنما أضاف المنع إلى الغمام تجوزاً ومبالغة، لما كان سبباًله، كما قالوا: (يداك أوكتا، وفوك نفخ)، وفيه من الرشاقة ما لايخفى.
(وهلك السَّوام): السائم والسَّوام بمعنى واحد، وهو الذي يرعى، يقال: سامت الماشية تسوم إذا رعت.
(ألاَّ تؤاخذنا بذنوبنا ): من المؤاخذة، وهي: المعاقبة، وأن في موضع نصب على نزع الجار، أي بأن لاتؤاخذنا، فلما حذف الحرف انتصب بالفعل.
(وانشر علينا رحمتك): مجاز ها هنا، وأراد شمولها وكثرتها.
(بالسحاب): أي بإنشاء السحاب الذي يكون سبباً للرحمة.
(المنبعق): المنشقُّ بالمطر، من قولهم: بعق بطنه إذا شقَّه، والبعاق هو: السحاب الذي ينصبُّ بشدة وكثرة.
(والربيع المغدق): وهو زمان الخير والنضارة، وأغدق إذا غَزُرَ فيه المطر، والعرب تجعل السنة ستة أزمنة، فشهران منها هو الربيع الأول، وهو الذي تأتي فيه الأزهار وينبت الكلأ والعشب، وشهران منها صيف، وشهران منها قيض وهو شدة الحر، وشهران منها هو الربيع الثاني، وهو الذي تدرك فيه الثمار، وشهران منها خريف، وشهران شتاء.
(والنبات المورق): عظيم الورق لكثرة ريِّه.
(سحاً): سححت الماء إذا صببته، قال دريد:
فربّت غارةِ أسرعت فيها
بسح الهاجريِّ جَرِيْم تمر
والجريم: النوى، وانتصابه إما على المصدرية، وإما على التمييز من المنبعق أو المغدق؛ لأنه في المعنى فاعل لهما كأنه قال: المنبعق سحة.
(وابلاً): الوابل: المطر الشديد، وقد وبل المطر يبل وبولاً، إذا كان شديداً.
(تحيي به ما قد مات): من الأشجار والزروع والكلأ.
(وترد به ما قد فات): بنقصان العطش وانقطاعه به.
(اللَّهُمَّ، سقياً منك): السقيا مصدر سقى، كاليسرى والعسرى من العسر واليسر، أي نطلب منك سقياً:
(محييةً): للأرض الميتة.
(مروية): لنا من العطش.
(تامة): لا يشوبها شيء من العاهات.
(عامة): لا تختص بجهة دون جهة.
(طيبة): خالية عن التنغيص من كل عاهة، من البرد والبرق.
(مباركة): مشتملة على النماء والزيادة.
(هنيئة مريئة): زاكية، من قولهم: هنأه الطعام ومرأه، إذا ساغ وكان زكياً.
(مريعة): أي خصيبة، وأمرع القوم إذا كانت مواشيهم في خصب، وفي المثل: أمرعت فانزل.
(زاكياً نبتها): كثيراً، من قولهم: زكا الشئ إذا كان كثيراً.
(ثامراً فرعها): ثمر الشيء إذا كثر، ومنه الثمرة لأنها تكثر وتفشو .
(ناضراً ورقها): من النضارة، وهي: الحسن.
(تنعش بها الضعيف): ترفعه من كبوته وَشَعَثِه.
(من عبادك): أهل الرحمة والفاقة.
(وتحيي بها الميت من بلادك): الذي هلك بالموت ، وقلة الأمطار.
(اللَّهُمَّ، سقياً منك): نستوهب منك سقياً:
(تعشب بها نِجَادَنا): يكثر عشبها، والنِّجاد جمع نَجْد، وهو: ما ارتفع من الأرض وكان منيفاً عالياً.
(وتجري بها وِهادنا): الوِهاد هي: الأمكنة المطمئنة، واحدتها وَهْدة.
(وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا): الْجَنَابُ بالفتح هو: الفناء، يقال: جَنَابُ فلان خصيب، وأخصب جَنَابُه إذا كان كريماً.
(وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا): تكون جيدة، من قولهم: أقبل الزرع إذا كان تاماً.
(وتعيش بها مواشينا): الماشية: اسم يقع على البقر، والغنم، والإبل.
(وتندى بها أقاصينا): الندى هو: الكلأ، أي وتكون الأقاصي من أرضنا معشبة، أو من الندى وهو: البلل فالذي يكون في النهار فهو ندى، والذي يكون بالليل، يقال له: السدى.
(وتستعين به ضواحينا): ضواحي الأرض: ظواهرها، وأراد أنها تكون إعانة على زوال حرها، واخضرار نباتها.
(من بركاتك الواسعة): زياداتك التي اتسع خيرها، وفاض نماؤها.
(وعطاياك الجزيلة): العظيمة التي لاغاية لحدها.
(على بريتك المرملة): يقال: أرمل القوم، إذا نفد زادهم، وأراد الضعيفة أحوالهم.
(ووحشك المهملة): إبل همل، إذا كان لا راعي لها ليلاً ولا نهاراً، بخلاف النَّفَش فإنه اسم لإهمالها ليلاً لاغير، أي لاراعي لها سواك.
(وأنزل علينا سماءً): أي مطراً، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، قال معاوية بن مالك :
إذا سَقَطَ السَّماءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا
(مخضلة): أي كثير بللها، يقال: اخضلَّ الشيء اخضلالاً، إذا كثر بلله.
(مدراراً ): سماء مدراراً إذا كا نت تدر المطر، وارتفاعه على أنه فاعل بمخضلة ارتفاع السبب بالصفة.
(هاطلة): متتابع قطرها، يقال: مطر هَطِل، وسحاب هاطِل، أي كثير الهطلان.
(يدافع الودق منها الودق): ودق المطر: قطره، وأراد أن قطره متتابعة لغزارته وكثرته.
(ويحفز القطر منها القطر): حفزه إذا دفعه من خلفه، والليل يحفز النهار، أي يدفعه قال:
يحفزها الأوتار والأيدي الشعر
وأراد أن بعضه يدفع بعضاً لما فيه من الجودة والكثرة.
(غير خُلَّبٍ برقها): الْخُلَّبُ: البرق الذي لا مطرفيه.
(ولا جَهَامٍ عارضها): الجهام: السحاب الذي لا مطر فيه أيضاً.
(ولا قزع ربابها): القزع: قطع السحاب الرقيقة، والرباب هو: السحاب الأبيض، أي أن سحابها ليس متفرقاً وإنما هو متراكم أسود.
(ولا شفَّان ذِهابها): الشَّفَّان: ريح فيها برد وندوة ورطوبة، والذِّهاب بكسر الفاء: جمع ذِهْبَة، وهو المطر، التقدير فيه ولا ذات شفَّان ذهابها فحذف ذات لعلم السامع به.
(حتى يخصب لإمراعها): الخصب: خلاف الجدب، وإمراع السنة: كثرة شجرها ورِيفها .
(المجدبون): الذين أصابهم الجدب والقحط، وأراد أنه يعظم الرخاء من أجل إمراعها لمن أجدب.
(ويحيا ببركتها): بزيادتها ونموها.
(المسنتون): أسنى القوم إذا دخلوا في سنة جديبة أو خصيبة، وأسنتوا إذا دخلوا في سنة جديبة.
(فإنك تنشر رحمتك): تبسطها لخلقك فينعمون فيها.
(وتنزِّل الغيث): رحمة ولطفاً، وكرماً منك.
(من بعد ما قنطوا): يئسوا، وكثر قنوطهم.
(وأنت الولي): لذلك الأولى به، والأحق بفعله.
(الحميد): المحمود على كل نعمة.