(فبئست الدار): كلمة ذم، ومبالغة في وصفها بالرداءة.
(لمن لم يتهمها): أي لمن وثق بها، فأما من اتهمها، فلعله يكون على حذر وَوَجَلٍ منها.
(ولم يكن منها على وجل): خوف وإشفاق.
(فاعلموا): أمر لهم بالعلم، وَفَعَلَهُ لأنفسهم ليكونوا عالمين.
(وأنتم تعلمون): فيما تستقبلونه من أعماركم، وتخبركم به أحوال الدنيا وحوادثها.
(بأنكم تاركوها): لامحالة ولاشك في هذا.
(وظاعنون عنها): منتقلون إلى دار غيرها، هي دار الإقامة حيث لا ظعون.
(واتعظوا فيها): تذكروا.
(بالذين قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً })[فصلت:15]: وهم عاد ظنوا بجهلهم أن غيرهم من القادرين لاتبلغ قدرته قدرتهم، فأكذبهم الله في هذه المقالة بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً }[فصلت:15] فهؤلاء أعني قوم عاد على كمال قدرتهم هذه وعظيم قوتهم.
(حُملوا إلى قبورهم): على أعناق الرجال.
(فلا يُدْعَون ركباناً): ومع كونهم محمولين فليسوا ركباناً؛ لأن الراكب له حالة غير هذه الحالة في ركوبه، لما يركبه من الراحة والجمال، وليسوا كذلك.
(وأُنزلوا[الأجداث] ): في قبورهم، ولحودهم.
(فلا يُدْعون ضيفاناً): لأن النزل إنما يجعل للضيف على جهة الإكرام، وليس هذا منه.
(وجُعل لهم من الصفيح): الأحجار العريضة المصفَّحة.
(أجنان): بالجيم وهو: ما يوضع على اللحود منها؛ لأنها تُجِنَّهُمْ أي تُغَطِّيْهم.
(ومن التراب أكفان): يرد عليهم كما يرد الأكفان، من جانب إلى جانب.
(ومن الرفات جيران): الرفات: المتحطم، قال الله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا }[الإسراء:49] وأراد أنهم جعل لهم العظام المرفوتة جيران.

(فهم جيرة): جمع جار.
(لا يجيبون داعياً): كما يفعل الجيران إذا تداعوا لأمر مكروه أو مسرور.
(ولا يمنعون ضيماً): ظلم من ظلمهم.
(ولا ينالون مندبة): المندبة والمأدبة هو: الطعام المصنوع من غير وليمة، قال الشاعر:
كأنَّ قلوبَ الطيرِ في قَعْرِ عُشِّها
نَوَى الْقَسْبِ مُلْقَى عِنْدَ بَعْضِ الْمَآدِبِ
يصف العقاب، والقسب بالسين المهملة: تمرٌ نواه فيه صلابة كبيرة .
(إن جيدوا): أصابهم الجود، وهو المطر الغزير.
(لم يفرحوا): به لأنه لا يلحقهم نفعه.
(وإن قحطوا): أصابهم الجدب.
(لم يقنطوا): لم ييأسوا، ولا يعتريهم غم بذلك.
(جميع): أي هم مجتمعون في المقابر.
(وهم آحاد): أي كل واحد منهم على انفراده في لحده، لا يستأنسون بالاجتماع.
(وجيرة): متقاربون في الأماكن.
(وهم أبعاد): متباعدون، كل واحد منهم في حفرة على انفراده.
(متدانون): قريب بعضهم من بعض.
(لا يتزاورون): لايزور بعضهم بعضاً، لتعذر ذلك في حقهم.
(وقريبون): في الأماكن والجهات.
(لا يتقاربون): بالتواصل والتحابِّ فيما بينهم.
(حلماء): متصفون بصفة الحلم، إذ من شأنه الإغضاء، والتوقر عن كل ما يكره.
(قد ذهبت أضغانهم): فلا تستفزهم عجلة الإضغان، ولا يزعجهم فشلها.
(جهلاء): متصفون بصفة الجهل، ولا ينطقون كما لاينطق الجاهل عياً.
(قد ماتت أحقادهم): فلا تثير الأحقاد ما يفعله الجهال من الأفعال السيئة.
(لا يخشى فجعهم): الفجيعة: الرزية، والفجع: الوجع أيضاً، وأراد أنها لا تخشى منهم فجعة لغيرهم، ولا يخشونها أيضاً في أنفسهم.
(ولا يرجى دفعهم): أي أنهم لا يدفعون ما اعتراهم من الشرور، ولا يدفع بهم شر غيرهم.

(استبدلوا بظهر الأرض بطناً): بما كان لهم على وجه الأرض من الجمال، ونشر الذكر والأبهة وغير ذلك، الخمول والتغير، وزوال النضارة في بطنها.
(وبالسعة ضيقاً): وبالقصورالفاخرة، والمجالس الرائقة، والأمكنة النيّرة، لحداً مظلماً، وهدفاً منهدماً، قد لصق به جلده وعظمه، وصار من جملته.
(وبالأهل غربة): تباعداً عنهم، وانقطاعاً عن رؤيتهم، كما يكون الغريب في غير بلده.
(وبالنور ظلمة): وبنور الحياة وإشراقها ظلمة اللحد وقتامه.
(فجاءوها): يعني القبور التي تقدم ذكرها.
(كما فارقوها): الضمير للدنيا، والمعنى أنهم دخلوا قبورهم لا شيء معهم من الدنيا، مما كان في أيديهم من حطامها، ولذاتها ونعيمها، كما فارقوها، ماتوا فيها ولم يكن معهم، ولا اشتحنوا شيئاً منها، ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }[الأنعام:94].
(حفاة): لا نعال في أرجلهم.
(عراة): لا لباس على أجسامهم، إلا الأكفان.
(قد ظعنوا عنها): خرجوا مفارقين لها فراق الأبد.
(بأعمالهم): الباء في موضع الحال أي مستصحبين لأعمالهم.
(إلى الحياة الدائمة): وهي الدار الآخرة.
(والدارالباقية): إما الجنة، وإما النار، فكل واحد ة منهما باقية لأهلها، لا انقضاء لها، ولا غاية لدوامها.
(كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا })[الأنبياء:104]: إلى آخر الآية) ، فجعل هذه الآية خاتمة لكلامه، دالة على رونقه، وحسن انتظامه، ولقد بلغ في تحقير الدنيا كل مبلغ، ووصل في تعريف حقيقتها وَمَيَدَانَها وقصاراها كل غاية، ولو كان كلام معجز بعد كلام الله تعالى، لكان هذا لاشتماله على البدائع والحكم النواصع.

(106) ومن خطبة له عليه السلام ذكر فيها مَلَكَ الموت وحاله
(هل تحسُّ به إذا دخل منزلاً): يقول انظروا إلى عجيب أمر هذا الملك، من جملة مخلوقات الله، وعجائب مكوناته، مع عظم حاله، وكبر جسمه، هل يمكن إحساسه إذا دخل منزلاً من المنازل الواسعة أو الضيقة.
(أم هل تراه إذا توفى أحداً!): أم هذه هي المنقطعة لتمام الجملة بعدها، كقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا }[الرعد:16]، وأراد ومع كثرته لتوفي هذه الأرواح الموكل بقبضها، فلا يمكن رؤيته لأحد أصلاً.
(بل): إضراب عن امتناع رؤيته وإحساسه، واستئناف تعجب آخر من حاله يقول: وأعجب من هذا كله.
(كيف يتوفى ال‍جنين في بطن أمه): على أي حال يقبضه، وفي أي صورة يكون ذلك.
(أيلج عليه من بعض جوارحها!): ولج منزله، إذا دخل فيه، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ [فِي سَمِّ الْخِيَاطِ] }[الأعراف:40] أي هل يدخل عليه من بعض أوصالها.
(أم الروح أجابته بإذن ربها): يدعوها بالخروج فيكون ذلك سبباً لخروجها، بأمر الله تعالى وإذنه.
(أم هو ساكن معها في أحشائها): الحشا: ما اضطمت عليه الضلوع، وجمعه أحشاء، قال الشاعر:
بأيِّ الْحَشا أمسى الخليطُ المباينُ
فهذه الأمور كلها ممكنة في قدرة الله تعالى، ولكنه حجب علم ذلك عنَّا؛ لِسر ومصلحة لا يطلع عليها إلا هو.

(كيف يصف إلهه من عجز عن صفة مخلوق مثله!): يعني إذا كان مَلَكُ الموت وهو بعض مخلوقات الله، عجزنا عن معرفة حاله في قبض الأرواح، فضلاً عن حاله في علمه، وحاله في خلقه، وتصرفه وعبادته وخوفه، مع أنه مخلوق مثلنا ومدبرومحدث ومملوك ومربوب، فكيف حالة من له الخلق والأمر، والقبض والبسط، والإلهية، واستحقاق الأزلية، فنحن عن بلوغ صفته أقصر، وعلى الاطلاع على كُنْهِ حاله وحقيقة صفاته أذل وأحقر، وكلامه ها هنا عليه السلام يدلُّ على أن حقيقة ذات الله تعالى غير معلومة للبشر، كما هو المفهوم ها هنا، وفي عدة من كلامه في مواضع كثيرة، خلافاً لما يزعمه أكثر المتكلمين من المعتزلة البصرية والبغدادية، فإنهم زعموا أنهم مطلعون على كنه حقيقة ذاته تعالى، بل زعموا أنهم يعلمون من ذاته مثلما يعلم هو من ذاته، وهذا شيء فاسد لا تقبله العقول، فأهون بهذه الأنظار التي لا ثبوت عند التحقيق لها ولاقرار، لقد أسست على شفا جرف هار فانهار.

(107) [ومن خطبة له عليه السلام]
(وأحذركم الدنيا فإنها منزل قُلْعة): قلعه إذا أزاله عن مكانه، وأراد أنها تزيل أهلها عن القرار عليها، والقطون فيها.
(وليست بدار نُجْعة): النجعة: الانتقال لأمر محمود، ولهذا يقال: انتجعوا في طلب الماء والكلأ، والقلعة تكون من أمر مكروه، ولهذا يقال: قلعهم الجدب والقحط، وأراد أن الزوال إنما هو بالأمور المكروهة بالقتل والموت، وجميع المصائب، فلهذا كانت قلعة لا نجعة.
(قد تزينت بغرورها): لا سبب لها في الزينة سوى الغرور.
(وغرت بزينتها): ولاسبب لها في الغرور سوى التزيين ، فمن أجله حصل الاغترار لامحالة .
(دار هانت على ربها): كما ورد في الحديث: ((الدنيا عند الله لا تسوى جناح بعوضة )) وغير ذلك مما ورد من طريق الشرع من هوانها عند الله، وضعف حالها.
(فخلط حلالها بحرامها): يعني أنه جعل فيها شيئاً حلالاً، وشيئاً حراماً، ولو كانت مرضية عنده ما كان حالها هكذا.
(وخيرها بشرها): أي وجعل فيها الخير والشر.
(وحياتها بموتها): أي لاحي فيها إلاوهو يموت، ولا خير إلا ويعقبه شر.
(وحلوها بِمُرِّها): فما يحلو منها شيء، إلا ويمرُّ بعد ذلك على أهله.
(لم يُصْفِها الله تعالى لأوليائه): أراد لو كان لها خطر عند الله تعالى ونفاسة قدر إذاً لأصفاها وهنَّأها للأولياء من عباده؛ لأنهم كانوا أحق بذلك وأهله.
(ولم يضنَّ بها على أعدائه): لركتها وهوانهاعليه، وفي الحديث: ((لو كانت الدنيا لها قدر وثمن عند الله لما سقى منها كافراً شربة )) وفي حديث آخر: ((إنَّ الله يعطي الدُّنيا من يُحِبُّ ومن لا يُحِبُّ ، ولا يعطي الآخرة إلا من يُحِبُّ)) وهذا ظاهرفإن الأكثر ممن تمكن منها آثرالهوى وعصى وكفر وطغى.

(خيرها زهيد): قليل نزر.
(وشرها عتيد): أي قريب، كما قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18].
(وجمعها ينفد): ما جمع فيها من حطامها إلى نفاد وزوال.
(وملكها يسلب): يؤخذ، ولهذا بينا ترى بعض الملوك في أبهة الدولة، والدنيا ناظرة إليه بالحفدة والعساكر، والأمر والنهي، إذ زال ملكه، إما بالموت، وإما بالقتل، وإما بانتقاله إلى غيره قهراً وبطل ذلك كله، كأن لم يكن، فسبحان من لا ينبغي لملكه زوال، ولا يجوز عليه تغير!.
(وعامرها منخرب ): وجميع ما عمر فيها يؤول إلى الخراب، بمضي الليالي والأيام.
(فما خيردار تنقض نقض البناء): أراد أي خير في دار يذهب عمرها يوماً فيوماً، كما ينقض البناء حجراً حجراً، أولبنة لبنة فتزول وتتغير.
(وعمر يفنى فيها فناء الزاد): الزاد: ما يتخذ للسفر؛ لأنه عن قريب وقد انقطع، لكثرة الحاجة إليه.
(ومدة تنقطع انقطاع السير!): لأن من سار طريقاً يوشك أن يصلها، وينقطع سيره، فما هذه حاله من الدور لا خير فيها، لانقطاع نعيمها على القرب، وبطلانه في سرعة.
(اجعلوا ما افترض الله عليكم): من الإتيان بهذه الواجبات من العبادات وغيرها، والانكفاف عن هذه المحرمات، بالأمر في هذه والنهي عن هذه.
(من طَلِبَتكم ): من أعظم المطلوبات، وأجل المقاصد التي تقصدونها، وفي الحديث: ((ما تقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم )) والطلبة: ما يطلب.
(واسألوه من أداء حقه ما سألكم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد واطلبوا منه الإعانة، على أداء حقه الذي سألكم القيام به، فيكون قوله: ما سألكم في موضع جر عطف بيان، أو بدلاً من قوله: حقه.

وثانيهما: أن يريد واطلبوا منه ما طلب منكم، فاطلبوا منه الإعانة مثلما طلب منكم القيام بحقه، وعلى هذا يكون قوله: ما سألكم في مو ضع نصب بقوله: واسألوه أي واسألوه مثل ما سألكم.
(وأسمعوا دعوة الموت آذانكم): أي اصغوا آذانكم إليها لتسمعوها، ولا تصموا عنها باستماع غيرها، فعن قريب وقد وقعت.
(قبل أن يدعى بكم): وأنتم غيرمتأهبين بسماعها .
(إن الزاهدين في الدنيا): المعرضين عنها، والتاركين لها.
(تبكي قلوبهم): خشية لله تعالى، وفَرَقاً من وعيده.
(وإن ضحكوا): في رأي العين، فقلوبهم مشغولة بالبكاء.
(ويشتد حزنهم): غمُّهم على التفريط في حق الله.
(وإن فرحوا): في نظر العين ورؤيتها فأفئدتهم مغمومة من أجل ذلك.
(ويكثر مقتهم لأنفسهم): المقت: البغض، أي وبغضهم في غاية الشدة لأنفسهم، على التهاون في حق الله تعالى، والتساهل في طاعته.
(وإن اغتبطوا): الغبطة: هي حسن الحال، وهي الاسم من الاغتباط، يقال: غبطه غبطاً و[اغتبط] اغتباطاً فهو مغتبط، اسم فاعل أي ذا غبطة، ومغتبط اسم مفعول أي مغبوط، قال:
وبينما المرءُ في الأحياءِ مغتبطٌ
إذ صار في الرَّمَسِ تَعْفُوْهُ الأعاصيرُ
فعلى هذا يكون المعنى يبغضون أنفسهم وإن اغتبطوا على ماسمي فاعله، أي صاروا ذا غبطة من حسن حالهم، (وإن اُغْتُبِطُوْا) على ما لم يسمَّ فاعله فهم ييغضون أنفسهم وإن غبطهم غيرهم.
(بما رزقوا): من خيرالله تعالى ومزيد فضله، فلا تنفك حالتهم عن بغضهم.
(قد غاب عن قلوبكم): امَّحى وزال، كأنه لا يخطر لها على حالة أصلاً.
(ذكرالآجال): تحقق الموت، وانقطاع العمر به، وهو الأجل وجمعه آجال.
(وحضرتكم): صارت حاضرة لكم لاتفارقكم.

(كواذب الآمال): جمع كاذبة، أي الآمال التي لا حقيقة لها ولا تصدق أبداً.
(فصارت الدنيا): أي فمن أجل ذلك سلطتم الدنيا على أنفسكم، حتى كانت.
(أملك بكم من الآخرة): ملك الشيء يملكه إذا تصرف فيه، وأراد أن الدنيا تصرفت في قلوبكم كما يتصرف المالك في ملكه، وصرفتكم عن الآخرة.
(والعاجلة): وهي الدنيا، سميت عاجلة لقربها.
(أذهب بكم من الآجله): أكثر ميلاً لقلوبكم من الآجلة، وهي الآخرة، وسميت آجلة لتأخرها، والمعنى أن الدنيا والعمل بها مستحكمة عليكم على جهة الاستيلاء فلا التفات لكم إلى عمل الآخرة.
(وإنما أنتم إخوان على دين الله): أراد أن الدين هو الذي يجمعكم مع اختلاف الأنساب، وتباين الوشائج، وتباعد الأرحام، وهو سبب الأخوة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }[الحجرات:10] فهذا هو حكم الدين.
(وما فرَّق بينكم): شتتكم حتى صرتم أحزاباً وفرقاً لايجمعكم جامع.
(إلا خبث السرائر): فسادها، ورداءتها.
(وسوء الضمائر): والخواطر المضمرة في القلوب التي تسوء من الظنون الكاذبة، والتوهمات الرديئة فاستحكمت فيكم، حتى أذهبت المودة والإلفة .
(فلا توازرون): تعاضدون، وتتعاونون، والموازرة هي : المعاضدة والمعاونة.
(ولا تناصحون): ينصح بعضكم بعضاً، يقال: نصحته ونصحت له ولزومه أفصح، قال الله تعالى: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ }[الأعراف:79] قال النابغة:
نصحتُ بني عونٍ فلم يتقبّلوا
رسولي ولم تنحج لديهم وسائلي
والنصيحة: الاسم من النصح، يقال: نصحه نصحاً ونصوحاً إذا لم يغدره.
(ولا تباذلون): يبذل بعضكم لبعض، إما النصيحة وإما المعروف، فهو عام في كل ما يحسن بذله من ذلك.

(ولا توادون): يودُّ كل واحد منكم أخاه ويحبُّه، والمودة: المحبّة.
(ما بالكم): البال: الحال، أي أن حالتكم هذه يتعجب منها ويضحك.
(تفرحون باليسير من الدنيا تُدْرِكُوْنه): إذا حصل لأحدكم شيء من يسير الدنيا وحطامها، لم يتمالك من حصول المسرة والفرح به والجذل من أجل حصوله وإدراكه له، مع انقطاعه عنه وزواله عن يده، والحساب عليه أيضاً في الآخرة .
(ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تُحْرَمُوْنه!): ولا يحزنكم ما يفوتكم من الأعمال الصالحة، ولا يقع ذلك على خواطركم، ولا يصيبكم جزع بفواته وحرمانه.
(ويقلقلكم اليسير من الدنيا يفوتكم): القلقلة: شدة التحرك والاضطراب، وهو مجاز ها هنا، شبه انزعاجهم وفشلهم عند فوت الحقير من الدنيا وأطماعها عن أيديهم بما يشتد حركته من الأجسام ويعظم اضطرابه.
(حتى يتبين ذلك في وجوهكم): يظهرأثره من الندامة والتحسر، واصفرار الأوجه وامتقاعها وتغيرها.
(وقلة صبركم عمَّا زوي عنكم منها): بالتلهف على فواته، وضيق النفس على عدمه، فصارحالكم معجباً يعجب منه كل من علم به، وتحقق حاله في تعويكم عليها، وتحسركم على مفارقتها.
(كأنها دار مقامكم): فتخلدون فيها ولا تنتقلون عنها.
(وكأن متاعها باقٍ عليكم): لايسلب عنكم، ولا تنقطعون بالموت عنه وتفارقونه، فلو كان الأمركذلك من بقاء متاعها وخلودها لكم لما زدتم على حرصكم، وتهالككم على حبها.
(وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه): فلشمول النقص لكم، وعمومه لأحوالكم كلها، لا يمنع أحدكم من النصيحة لأخيه، في ترك ما يعيبه وينقصه.

61 / 194
ع
En
A+
A-