سؤال؛ أراه ها هنا عدى أحد الفعلين بنفسه، والآخر عداه بحرف الجر، وكلاهما فيه حرف التعدية، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الهمزة في أهون بها ليست حرف تعدية، وإنما هي للدلالة على صيرورة الشيء ذا كذا كما قالوا: أحرب الرجل إذا صار ذا حرب في ماله، وألام وأرأب إذا صار ذا لوم وريب، فلهذا وجب تعديته بحرف الجر، كما قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ] }[يوسف:100].
(وعلم أن الله تعالى قد زواها): طواها وقبضها.
(عنه اختباراً): إما من الاختبار وهو الا متحان، وإما من الاختيار وهو الاصطفاء، وكلاهما حاصل في حقه صلى الله عليه وآله، فإن الله تعالى ما طواها في حقه إلا كرامة له بالامتحان، ليعظم الأجر وترتفع المنزلة له عند الله، وإما من أجل اصطفاء الله له وتشريفاً له عن التضمخ بها والتعلق بهدَّابها .
(وبسطها لغيره): تمكن من لذاتها والتنعم فيها غيره من سائر المخلوقين.
(احتقاراً): إما لأن خطرها حقير، و(( لو كانت الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة))، وإما لمن أعطيت إياه فيشتغل بها، ويلهو عن الطاعة فَيْسْتَحْقَر حاله عند الله، من أجل تعلقه بها وانهماكه في حبها.
(فأعرض عن الدنيا بقلبه): لهوانها عليه، وانقطاع نعيمها.
(وأمات ذكرها عن نفسه): فهو لا يذكرها بلسانه، ولا يخطرها على قلبه.
(وأحب أن تغّيب زينتها عن عينه): إما بأن يغيبها الله فيكون الفعل مبنياً لما لم يسم فاعله، وإما أن يغيبها هو عن عينه فيكون مبنياً لما سمي فاعله .
(لكيلا يتخذ منها رياشاً): الرياش هو: اللباس الفاخر.
(و يرجو فيها مقاماً): أي إقامة أو لبثاً في موضع الإقامة، وعلى هذا يكون المقام موضع الإقامة.
(بلغ عن ربه): ما أرسله به من الشرائع، والأحكام، ووصف أمر الآخرة.
(معذراً): بالغاً في الإعذار كل غاية.
(ونصح لأمته): بالغ في النصيحة من كل جهة.
(منذراً): عن العقوبات العظيمة، والنكالات الشديدة.
(ودعا إلى الجنة مبشراً ): إلى ما يكون موصلاً إلى الجنة، من الأعمال الصالحة بتعريفها، والحث على الإتيان بها.
(نحن شجرة النبوة): وهذا من الاستطرادات العجيبة، وقد نبهنا عليها في مواضع كثيرة من كلامه، فبيناه يتكلم في وصف الرسول في ذم الدنيا وإهمالها، إذ خرج إلى ذكر نفسه وأولاده، ومعنى شجرة النبوة إما عاماً وأراد به شجرة إبراهيم وإسماعيل، وإما أراد نبوة الرسول وهو عبد المطلب، والشجرة هي: أصل ذلك الشيء، والأقرب أن مراده شجرة الرسول عليه السلام، وأراد أنه هو والرسول من شجرة واحدة أُخِذَا.
(ومحطُّ الرسالة): المحط: مكان الحط والوضع، أي حيث تكون الرسالة موضوعة.
(ومختلف الملائكة): أي حيث [كان] مكان اختلاف الملائكة، وهذا ظاهر فإن جبريل وغيره من الملائكة، كانوا يختلفون في حجرات الرسول وبيوته كلها.
(ومعادن العلم): التي يؤخذ منها، كمعادن الذهب والفضة.
(وينابيع الحكمة ): ينبوع الماء هو: تفجره.
(ناصرنا ): بقلبه ولسانه ويده.
(ينتظرالرحمة): وهو إرادته لنفعه، وإكرامه له.
(ومبغضنا): من يريد نزول الضرر بنا.
(وعدونا): المجانب لنا، والمظهرللعداوة.
(ينتظرالسطوة): من الله تعالى، وهي: المعاجلة بالعقوبة.
(105) ومن خطبة له عليه السلام
(أما بعد، فإني أحذركم الدنيا): التحذير: التخويف؛ لأن فجعائها متوقعة، وحوادثها منتظرة، فإذاً هي أخلق الأشياء بأن يحذر منها أي يخاف.
(فإنها حلوة): في فم ذائقها.
(خضرة): في عين من أبصر إليها تعجبه بنضارتها.
(حفت بالشهوات): أي أن الشهوات محيطة بها من جميع جهاتها، والمحفوف المستدارحوله فلا جانب منها إلا وهو مشتهى.
(وتحببت بالعاجلة): أراد أنها محبوبة لما فيها من العاجل، وخلقت النفوس على إيثارالعاجل وترك الآجل.
(وراقت بالقليل): راق الشيء يروق إذا كان معجباً، وأراد أن إعجابها قليل لما يتبعه من الانقطاع عنها، وبطلان لذاتها.
(وتحلَّت بالآمال): وأراد أن حلاوتها إنما ظهرت بالأمور المؤملة منها في المستقبل، فإنها هي التي حلّتها، فلهذا تهالك الناس في حبها وطلبها.
(وتزينت بالغرور): أي أن زينتها لم تكن إلا بالاغترار في حالها، فلو عقل حالها وانقطاعها ما اغتربها مغتر، ولكنها غرتهم فتزينت بذلك لهم.
(لا تدوم حَبْرَتُهَا): نعيمها، وسرورها.
(ولا تؤمن فجيعتها ): أي ليسوا منها على ثقة؛ في أنها تفجعهم في أنفسهم وأموالهم كلها، بالموت في الأنفس والزوال في الأموال.
(غرّارة): بالغة في الغرر كل غاية.
(ضرَّارة): لا تقصِّر عن الضرر في كل أحوالها.
(حائلة): تتقلب بأهلها من حال إلى حال، ولله دَرُّ من قال:
دَعِ الْمَقَادِيْرَ تَجْرِي فِيْ أَعِنَّتِهَا
واصْبِرْ فَلَيْسَ لَها صبرٌ عَلى حَالِ
يوماً تُرِيْكَ خَسِيْسَ الْقَدْرِ تَرْفَعُهُ
فَوْقَ السِّماكِ ويوماً تَخْفِضُ الْعَالِي
(زائلة): بيناك تراها حاصلة لفريق إذا تولت عنهم وأدبرت.
(نافدة): من النفاد، وهو: الهلاك.
(بائدة): وهو التغير؛ لأنها تبيد أهلها أي تزيلهم.
(أكّالة): كثيرة الأكل، وأكلها إذهابها لأهلها، بمنزلة البهيمة الأكولة.
(غوّالة):كثيرة الخدع، والمكر بأهلها.
(لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة): الأُمْنِيَة: ما يتمناه الإنسان، ويودُّ حصوله.
(والرضاء بها): أي وأهل الرضاء بها، والمعنى في هذا أنها لاتجاوز وإن بلغت كل غاية عند من رضي بها، ورغب فيها وتمنَّاها، وجدَّ واجتهد في التنافس فيها.
(أن تكون كما قال الله تعالى): أي يكون حالها مشبهاً لما وصفه الله تعالى بقوله:
({كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا... }إلى آخر الآية [الكهف:45]): فهي لاتعدو هذا التشبيه، وهذا التشبيه من التشبيهات المركبة فشبَّه الله الدنيا في سرعة انقضائها، وانقراض نعيمها وزواله بعد إقباله وغضارته وحسنه، بحال نبات الأرض عند نزول المطر عليه ، واختلاطه بها، فالتفَّ بسببه وتكاثف، واخضرَّ وأورق، ثم صار بعد ذلك هشيماً محطوماً مكسراً، تُفَرِّقُه الريح في كل جانب حتى لايبقى له أثر،كأن لم يكن، وقد أكثر الله تعالى تمثيل الدنيا بالزرع في غيرآية من كتابه، لما يظهر في أول حالها من رونقها، وطلاوتها وحسنها، وسرعة تغيّرها، ونفادها وزوالها.
(لم يكن امرؤ فيها في حَبْرَةٍ): نعيم وسرور.
(إلا أعقبته): على الفور والسرعة .
(بعدها): بعد الْحَبْرَةِ.
(عَبْرَة): إما اعتبار بتغيرحالها واتعاظ، وإما انسكاب دمعة، لما يعتري من أحزانها وآلامها.
(ولم يلق من سرّائها بطناً): أي يلاقي، والسراء هي: المسرة.
(إلا منحته من ضرّائها ظهراً): المنحة: العطية، ومنحه إذا أعطاه.
(ولم تَطلَّه فيها ديمة رخاء): الديمة هي : المطر الدائم.
(إلا هتنت عليه مزنة بلاء): المزن: [على وزن فعل] هو السحاب، وهتنت إذا أمطرت، وأراد في هذا كله أنه لا يكون فيها خير إلا وتعقَّبه شر، يكون مثله أو يزيد عليه.
(وحري إذا أصبحت له متنضِّرة): الحري: هو الحقيق بالشيء، والمتنضّر: كثير النضارة والحسن.
(أن تمسي له متنكرة): لما يلحق فيها من التغير في الأحوال، حتى ينكرها من عرفها.
(وإن جانب منها اعذوذب واحلولى): افعوعل لا يرد إلا للمبالغة فيما هو فيه، وجانب مرفوع على إضمار فعل يفسره ما بعده، من حيث كان حرف الشرط لا يليه إلا الأفعال.
(أمرّ منها جانب فأوبى!): أي أمرض من الوباء، وهو: المرض، وأرض وبّية.
(لاينال امرؤ من غضارتها رَغَباً): الغضارة هي: الحسن والإعجاب، والرغب: ما يُرْغَبُ فيه من الأشياء، وهو بمعنى مفعول أي مرغوب، كالنقص بمعنى المنقوص، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الرغبة، كقوله تعالى: {رَغَبًا وَرَهَبًا }[الأنبياء:90] أي رغبة ورهبة.
(إلا أرهقته من توآئها تعباً): الإرهاق: الإغشاء، أرهقته كذا إذا أغشيته إياه، والتوى: الهلاك، والتعب: نقيض الراحة وضدها.
(ولا يمسي منها في جناح أمن): ذكر الجناح استعارة، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ }[الإسراء:24].
(إلا وأصبح على قوادم خوف): القوادم: جمع قادمة من الطير، وهي مقاديم ريشه، وهن عشر في كل جناح.
(غرارة): لكل من ركن إليها، واطمأن إلى شهواتها.
(غرور): كثيرة الغرور بأهلها.
(ما فيها): طرفها وعجائبها، أي أنها هي الغارَّة لمن انخدع بها.
(فانية): منقضية زائلة.
(فانٍ من عليها): زائل غير باقٍ، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }[الرحمن:26].
(لا خير في شيء من زادها ): لذهابه، وانقطاعه عن صاحبه.
(إلا التقوى): فإنها باقية نافعة لصاحبها.
(من أقلّ منها): من جمع حطامها، وادخار نفائسها، وأنفقها لوجه الله، وابتغاء مرضاته.
(استكثر مما يؤمّنه): من الثواب، ورضوان الله، والسلامة من عقاب الله والأمن منه.
(ومن استكثر منها): بجمع حطامها، وادخارها.
(استكثر مما يوبقه): يهلكه؛ لأن الإكثار منها اشتغال بجمعه، وغفلة عن الآخرة، وهذا هو نهاية الهلاك.
(وزال عمَّا قليل عنه): إما بتفرقه عن يده بالتلف، والاجتياح بضروب الآفات، وإما بالموت عنه والانقطاع.
(كم واثق بها قد فجعته): كثير لا يمكن إحصاؤه ممن اطمأن إليها، قد فجعته: أوجعته بمصائبها وحوادثها.
(وذي طمأنينة إليها): اتكال واستناد.
(قد صرعته): وضعته لجنبه، إما حقيقة بالموت بوضعه في لحده لجنبه، وإما مجازاً بإدبارها عنه وغلبتها عليه في كل أحواله.
(وذي أبَّهة): عظمة وتكبر.
(قد جعلته حقيراً): الحقارة هي: الصغار والقماءة .
(وذي نخوة): سلطان ورفعة.
(قد ردته ذليلاً!): بعد عزه وفخره الذي كان فيه من قبل.
(سلطانها): عزها وملكها.
(دول): جمع دَولة بفتح الفاء في الحرب، وبضمها في المال، وجمعها دول، أي تتداول مرة لهذه ومرة لذاك.
(وعيشها): العيشة: الحياة، والعيش: ما يعاش به، والمصدر منه معاشاً ومعيشاً، قال الله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }[الحاقة:21].
(رَنِقٌ):كدر.
(وعذبها): وما يستحسن منها، ويعجب منه من لذاتها.
(أجاج): الأجاج: المالح، قال الله تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ }[الفرقان:53].
(وحلوها صَبِرٌ): وما يحلو منها فهو في الحقيقة مر يشبه مرارة الصبر.
(وغذاؤها سِمَام): وما يصلح الجسد منها من الأغذية فهو سم قاتل، وجمعه سُمُوْمُ وَسِمَامُ.
(وأسبابها رِمَام): الرُمة بضم الراء هي: قطعة الحبل، والرمة: العظم البالي، وأراد ما يتعلق منها من سائر التعلقات، فهو واهي منقطع لاقوة له، بمنزلة العظم الذي يتفتت من البلاء لضعفه.
(حَيُّهَا): من كان فيها من أهلها.
(بِعَرَضِ موت): أي يعرض له الموت عن قرب.
(وصحيحها): ومن كان فيها على منهاج الصحة والاستقامة فهو لا محالة.
(بِعَرَضِ سُقْمٍ): تعرض له الأسقام على القرب.
(ملكها مسلوب): من صاحبه يسلب عنه، إما بالموت، وإما بأن يقهره غيره عليه ويأخذه.
(وعزيزها مغلوب): ومن كان عزيزاً فيها من أهلها، فهو عن قريب يُغْلَبُ ويُقْهَرُ.
(وموفورها منكوب): النكب: الميل في الشيء، والنكبة: واحدة من نكبات الدهر، وأرادهاهنا وما يتوفر فيها من أهل أومال، فهو عن قريب إما مائل زائل عن استقامته، وإما بصدد الإصابة له من نكبات الدهر.
(وجارها): ومن كان سا كناً فيها مجاوراً لها.
(محروب): أي مسلوب من جميع ما في يده من خيرها، يقال: حربته ماله إذا سلبته إياه.
(ألستم في مساكن من كان قبلكم): استفهام من جهة من يعلم حقيقة الأمر في ذلك، وأراد فيه التقرير كالاستفهامات الجارية في كتاب الله تعالى،كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح:1]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى }[الضحى:6] وغير ذلك، وأراد جميع القرون الماضية، والأمم الخالية.
(كانوا أطول أعماراً): نفس في أعمارهم آماداً متطاولة.
(وأبقى آثاراً): وكانوا في غاية القوة فبقيت آثارهم، وهذا ظا هر في زماننا هذا، فإنَّا نجد أمكنة فيها آثار عظيمة، مثل (بينون) و(براقش) وغيرهما، مما لايقدر على مثله في هذه الأزمنة.
(وأبعد آمالاً): ولولا بُعْدُ آمالهم وتطاولها؛ لما أثرواهذه الآثار،فإنها تصلح أن تكون آثاراً لمن يُخَلَّدُ .
(وأعدَّ عديداً): أي وهم أكثر عديداًمن غيرهم، وأعظم كثرة.
(وأكثف جنوداً): تكاثف السحاب إذاركب بعضه بعضاً، وأراد أن الجنودكثيرة يركب بعضها بعضاً لعظمها.
(تعبدوا للدنيا): خضعوالها، وذلوا لخدمتها.
(أي تعبد): ذلاً لايمكن وصفه، ولايمكن الإحاطة بِكُنْهِهِ، واستفهم عن حاله ليدل على أنه غير معلوم.
(وآثروا الدنيا أي إيثار): آثرته بكذا إذا أوليته إياه، وجعلته أحق به، وأراد أنهم آثروها بالإقبال عليها، والعمارة لها والإخلاد إليها، والطمأنينة فيها.
(ثم ظعنوا عنها): ارتحلوا.
(بغير زاد مبلغ): تشبيهاً لحالهم بمن يقطع مفازة لا أنس فيها، وليس معه زاد يُبَلِّغه فإنه يهلك لامحالة عطشاً وجوعاً، وهؤلاء قد عدموا التقوى وهى الزاد على الحقيقة، فهم هالكون لا شك في ذلك.
(ولا ظهر قاطع): ولارواحل معهم يقطعون بها هذه المفاوز.
(فهل بلغكم): أتاكم في القصص، والأخبار المأ ثورة عنهم، وأحاديث قصص أخبارهم.
(أنَّ الدنيا سخت لهم نفساً): السخاء هو: الجود والبذل، أي أن الدنيا جادت نفساً لهم.
(بفدية): فيفدونها عما أوقعته بهم من الفجائع والتغيرات.
(أو أغاثتهم بمغوثة ): فيما نابهم وغيرَّ أحوالهم.
(أو أحسنت لهم صحبة!): فيما بقيوا من أيامها، وتنفَّسوا في مُهْلَتِها.
(بل): إضراب عمَّا ذكره أولاً من صنع الدنيا بأهلها، ودخول في وصف آخرتها بأهلها.
(أرهقتهم بالفوادح): أي أغشتهم، وألحقتهم بالأمورالفادحه، أي المثقلة، من قولهم: فدحه الدين إذا أثقله، وفي الحديث: ((وعلى المسلمين ألا يتركوا مفدوحاً في فداء ولا عقل )) وأمر فادح: إذا بهظ وأثقل صاحبه.
(وأوهنتهم بالقوارع): الوهن: الضعف، قال تعالى: {إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي }[مريم:4] أي وأضعفتهم بالمصائب التي تقرعهم، كما قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ }[الرعد:31].
(وضعضعتهم بالنوائب): ضعضعه إذاهدم بناءه إلى الأرض، وضعضعه الدهر إذا خضع وذل، وفي الحديث: ((ما تضعضع امرؤ لآخر يريد [به] عرض الدنيا إلا ذهب ثلثا دينه )) قال أبو ذؤيب:
وتجلّدي للشامتين أُرِيْهُمُ
أنّي لريبِ الدهرِ لا أَتَضَعْضَعُ
والنوائب جمع نائبة، وهو: مايحدث من مصائب الدهر.
(وعفَّر تهم المناخر ): عفَّره بالتراب تعفيراً، إذا مرَّغه فيه، وأراد أنها مرَّغتهم في التراب ووضعت مناخرهم فيه ، والْمَنخِرْ بفتح الميم: ثقب الأنف، وقد تكسر اتباعاً لكسر الخاء.
(ووطئتهم بالمناسم): المنسم: واحد المناسم، وهومن البعير بمنزلة الحافر من الفرس، والقدم من الإنسان، والظلف من البقر والغنم.
(وأعانت عليهم ريب المنون): المنون: المنية، وريب المنون: حوادث الدهر، أي كانت الدنيا عليهم عوناًلحوادث الدهر في تغيير أحوالهم، وتعفية آثارهم.
(فقد رأيتم): إماعاينتم بأبصاركم، وإما علمتم بقلوبكم، وسماعكم لأخبار الماضين قبلكم.
(تنكرها): تغيرها إلى صورة مجهولة لاتعرف.
(لمن دان لها): أطاعها، من قولهم: دان له إذا أطاعه في أمره.
(وآثرها): من قولهم: آثرت فلاناً على نفسي، إذا جعلته أولى منها.
(وأخلد إليها): أخلد إلى فلان إذا ركن إليه في أموره.
(حتى ظعنوا): حتى متعلقة برأيتم، أي قدرأيتموهم في هذا الوقت، وهو وقت الانتقال:
(عنها لفراق الأبد): الذي لايرجى له اجتماع أبداً.
(هل زودتهم إلا السغب): إلا الجوع، كما قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }[البلد:14] والاستثناء ها هنا يحتمل أن يكون متصلاً بما قبله، أي ما زودتهم [شيئاً إلا جوعاً قاطعاً لأفئدتهم، ويحتمل أن يكون منقطعاً، أي ما زودتهم] من معايشها إلا الجوع، والمعنى أنها مازودتهم شيئاً يعاش به؛ لأن الجوع كان زادهم، وهو في ظاهره مفرغ ، ولهذا كان محتملاً للاتصال والانقطاع، كما أشرنا إليه.
(أو أحلتهم إلا الضنك): الضيق، قال الله تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكًا }[طه:124].
(أو نورت لهم إلاالظلمة): في لحودهم.
(أو أعقبتهم إلا الندامة): على ما أسلفوا، مما بخلوا به عن حقوقه، أو عمَّا أضاعوه من الواجبات، وفعلوه من الكبار الموبقات، وقوله : هل زودتهم إلا السغب إلى آخركلامه هذا، من أنواع البديع يسمى المجاز الإسنادي، ويسمىالتدبيج في الشعركقول الخنساء :
تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ
فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ
وقد نبَّهنا عليه في مواضع من كلام أمير المؤمنين، وهو من لطيف أسرار علم البيان وغريبه .
(أفهذه): التي وصفنا حالها، وأظهرنا فضايحها.
(تؤثرون؟): من الإيثار، أي تؤثرونها على الآخرة الدائم نعيمها.
(أم إليها تطمئنون؟): تنشرح صدوركم، وتقرُّ نفوسكم.
(أم عليها تحرصون!؟): حرص على هذا الفعل، إذا كان مواظباً عليه.