(فلم يزل الموت يبالغ في جسده): بإذهاب الحياة منه، والاستيلاء على بطلانها قليلاً قليلاً.
(حتى خالط سمعه ): اتصل به فأبطله.
(فصار بين أهله): حفدته، وأقاربه ملقى بينهم.
(لا ينطق بلسانه): لأنه قد ختم عليه.
(ولا يسمع بسمعه): لأنه قد بطل بالموت.
(ويردد طرفه في وجوههم): يقلب عينيه ذهاباً في كل جهة من القلق والحيرة، كما قال تعالى: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }[الأحزاب:19].
(يرى حركات ألسنتهم): بعينيه التفاتهما.
(ولا يسمع رجع كلامهم): لذهاب سمعه، ورجع الكلام: جوابه.
(ثم ازداد الموت التياطاً به): التصاقاً بحواسه وجميع بدنه.
(فَقُبِضَ بَصَرُهُ كما قُبِضَ سَمْعُهُ): وإنما أخرّ قبض البصر؛ لأنه لابد من مشاهدة الملائكة، وهوآخر أوقات الدنيا.
(وخرجت الروح من جسده): للمتكلمين من علماء الدين خبط عظيم في بيان ماهية الروح ومحله، وكيفيته، وللفلاسفة أيضاً، وليس يتعلق به غرض ديني.
(فصار جيفة بين أهله): يُعَافُ قُرْبُهُ، وتُسْتَقْذَرُ مخالطتهُ.
(قد أوحشوا من جانبه): من الجانب الذي يليه، وهي: المخالطة والمباشرة.
(وتباعدوا من قربه): فرقاً منه ووحشة.
(لا يسعد باكياً): بأن يقول له: سعديك.
(ولا يجيب داعياً): بأن يقول له: لبيك؛ لأنه يندبه بأحسن أوصافه، ويناديه بأرحم أسمائه، وأحقها بالإجابة.
(ثم حملوه): أقلّوه على ظهورهم من غير حركة ولا نطق.
(إلى محطٍّ في الأرض): إلى موضع الحطِّ، والا ستقرار من بعض الأرض، وهي: البراري والأمكنة الخالية.
(وأسلموه فيه إلى عمله): خلوا بينه وبينه مستسلماً منقاداً، لا حائل في ذلك.
(وانقطعوا عن رؤيته ): لتغييبهم له بين أطباق التراب، فلا يمكن إدراكه.
(حتى إذا بلغ الكتاب أجله): الحد الذي قدره الله للدنيا، وأذن بانقطاعها وزوالها.
(والأمد مقاديره): مقدارالساعة ووقتها، وزمان القيامة وأوانها.
(وألحق آخر الخلق بأوله): في الموت والإفناء، أو في الابتداء والإنشاء.
(وجاء من أمر الله ما يريد ): مما نفذ في علمه، وسبق به قضاءه وحكمه.
(من تجديد خلقه): خلقهم مرة ثانية وإعادتهم.
(أماد السماء): ماد الشيء إذا تحرك واضطرب.
(وفطرها): شقها بنصفين، وأزال نظامها والتئامها، كما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ }[الإنفطار:1].
(وأرجَّ الأرض): حركها بعنف وشدة.
(وأرجفها): الرجفة هي: الزلزلة، ورجف إذا تحرك واضطرب، وسمي البحر رجافاً لكثرة اضطراب أمواجه.
(وقلع جبالها): عن أصولها ومنابتها، وأضاف الجبال إليها لما لها من الاختصاص بها؛ لأنها خلقت تسكيناً لاضطراب الأرض كما سبق تقريره في كلامه.
(ونسفها): نسف البعير الكلأ إذا قلعه.
(ودكَّ بعضها بعضاً): أي جعلها مستوية من غير أنشاز ، كما قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا }[طه:106] وأراد إما دكَّ الله بعضها ببعض، فيكون الله هو الفاعل، وأما دكَّ بعضها بعضاً فيكون البعض هو الفاعل، وكله محتمل، وكل ذلك بفعل الله وأوامره.
(من هيبة جلاله): من أجل جلاله الذي يهابه كل مخلوق.
(ومَخُوف سطوته): التي لاقدرة لأحد بها، ولا يستطيع دفعها.
(وأخرج من فيها): من جميع المخلوقات كلها، من أنواع الحيوانات وغيرها.
(فجددهم بعد إخلاقهم): فسوَّى صورهم كما كانت، بعد أن كانوا تراباً.
(وجمعهم بعد تفريقهم ): ولاءم بين أجزائهم بعد ذهابها في الأرض وتفتيتها .
(ثم ميزهم): جعلهم متميزين، لا يلتبس شيء من أحوالهم عليه، ولا يخفى من أمورهم شيء.
(لما يريد من مسألتهم عن الأعمال): حسنها، وقبيحها، وإخلاصها، ومشوبها، وخيرها، وشرها.
(وخفايا الأفعال ): والأعمال المخفاة التي أخفاها أهلها، وظنوا أنه لايعلمها، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [الزخرف:80]، أو التي أضمروها في قلوبهم عن غيرهم.
(وجعلهم فريقين): أولياء من المؤمنين، وأعداء من الفاسقين والكافرين.
(أنعم على هؤلاء): بالثواب العظيم، والدرجات العالية.
(وانتقم من أولاء ): بالعقاب الطويل، والنكال.
(فأما أهل الطاعة ): من أهل الإيمان، والأعمال الصالحة.
(فأثابهم بجواره): جعل ثوابهم إسكانهم بالقرب من رحمته.
(وخلدهم في داره): وجعل وقوفهم فيها لا انقطاع له ولا آخر لحصوله.
(حيث لا يظعن النزُّال): جمع نازل، أي حيث لا يُنْقَلُ من نزل فيه.
(ولا يتغير بهم الحال): الحال يذكر ويؤنث، وأراد أنه لايزول ماهم فيه من النعيم المقيم.
(ولا تنوبهم الأفزاع): تصيبهم المصائب التي يفزع منها ويخاف.
(ولا تنالهم الأسقام): لبعدهم عن الآلام بالصحة فلا تصلهم بحال.
(ولا تعرض لهم الأخطار): الخطر: هوالإشراف على الهلاك.
(ولا تشخصهم الأسفار): شخص من مكانه إذا فارقه ، وأراد أنهم لا يسافرون لغرض من الأغراض، فهم باقون في أماكنهم مستقرون فيها، فهذه حال أهل الطاعة من المؤمنين.
(وأما أهل المعصية): الذين فعلوها، وتلبَّسوا بها.
(فأنزلهم شر دار): لما أعدَّ لهم فيها من الويل، فلا شرَّ إلا هو فيها، فلهذا كانت شر دار.
(وغل الأيدي إلى الأعناق): بأن جعلها مشدودة إليها، فلا يستطيعون تصرفاً بها، كما قال تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ }[غافر:71].
(وقرن النواصي بالأقدام): كبَّهم فيها بأن ضمَّ النواصي إلى الأقدام وشدَّها، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }[الرحمن:41].
(وألبسهم سرابيل القطران): وهو شيء يستخرج من أشجار كثيرة، وأعظمها شجر العرعر، كما أن النار تستخرج من كل عود، وأعظمها في ذلك المرخ والعفار، قال:
في كل عُودٍ قَبَسٌ ونارٌ
وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ
يطلى به الإبل فيحرق الجرب بحرِّه وشدة لذعه، وهو أسود اللون منتن الرائحة، من شأنه إسراع النار فيه، وربما يستصبح به، فيطلى به جلود أهل النار ووجوههم، حتى يكون طلاؤه في حقهم كالسرابيل، وهي: القمص لتجتمع عليهم من ذلك مصائب وآلام كثيرة: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار فيه، واللون الوحش، والرائحة الخبيثة، مع أن ما بين القطرانين من التفاوت والبعد، شيء لا يمكن إدراكه، ولا يعقل وصفه.
(ومقطعات النيران): أراد أنهم قطعت لهم ثياب من النيران، كما قال تعالى: {قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ }[الحج:19].
(في عذاب قد اشتد حره): أي هذه حالهم، وصفتهم مقيمون في عذاب شديد الحر، لاغاية لوصفه.
(ونار قد أطبق على أهله): الغرض بالنار ها هنا هو العذاب، ولهذا ذكَّر ضميرها، ولو أراد ها لقال: أطبقت، وأراد بإطباقها إغلاقها على أهلها، كما قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ }[الهمزة:8] أي مغلقة.
(في نار لها كَلَبٌ ولَجَبٌ): الكلب: التكلب والشدة، واللَّجَب بالتحريك هي: الأصوات العظيمة.
(وَلَهَبٌ ساطعٌ): عالي لشدة حركته وتلهبه.
(وقصفٌ هائل): القصف: الكسر، وقصف العود إذاكسره؛ لأنها تقصف كل شيء أي تكسره، وأراد أن قصفها للأشياء يهول من أبصره، أي يفزعه لشدته.
(لا يظعن مقيمها): عمَّا هو فيه من عذابها، والظعون هو: الانتقال.
(ولا يفادى أسيرها): يستخلص بفداء وإن عظم خطره.
(ولا تفصم كبولها): الكبول: القيود، وأراد أنها لا تزال عن أرجلهم بالقطع.
(لا مدة للدار): لانهاية لعذابها، ولاغاية لانقطاعهم عنها.
(فيفنى ): فيكون له انقضاء وغاية وانتهاء.
(ولا أجل لهم ): وقت مؤجل من أعمارهم.
(فيقضى): عليهم بالموت، فهذه معرفة حال أهل الدارين.
اللَّهُمَّ، بكرمك الواسع ورحمتك العظيمة، نسألك الفوز برضوانك، والإجارة من عذابك يا أكرم الأكرمين.
(104) ومن خطبة له عليه السلام
(إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله تعالى): التوسل هو: التقرب، وأراد أن أقرب ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى.
(الإيمان به وبرسوله): فإن ذلك أول الإسلام وجوداً، وأعلاه حالة وأكثره ثمرة؛ لأن العلم بالله تعالى والتصديق به والعلم بحال رسوله؛ هما الأصل والقاعدة في المعارف الدينية، والوظائف الشرعية، فلايعقل إيمان من دون ذلك؛ لأن سائر العلوم الإلهية من الصفات والأفعال والسلوب، والإضافات التي يجب إضافتها إلى الله تعالى ونفيها عن ذاته، متفرع على معرفة ذاته، وهكذا الأعمال الشرعية وجميع الأمور الأخروية، متفرعة على صدق الرسول، فلهذا كان العلم بالله تعالى والتصديق به وبرسوله؛ هما الأصلان من أصول الديانة.
(والجهاد في سبيله): وهما جهادان: جهاد بالحجة، وهو إحياء العلوم بالتدريس، واستنهاض الحجج على المخالفين للدين، وجهاد بالسيف وهو قتل أهل الكفر، وسائر المنكرين للتوحيد وجميع الملل الكفرية.
(فإنه ذروة الإسلام): ذروة كل شيء أعلاه وأفضله.
(وكلمة الإخلاص): وهي لا إله إلا الله، وإنما سماها كلمة الإخلاص ؛ لأن من قالها عن علم ودراية، وشرح بها صدره، فإنها دالة على كونه مخلصاً لله بالتوحيد والإلهية، لأنه نفى كل إلهية وأثبتها لله تعالى خالصة، ولها أسماء كثيرة، وهي: الكلمة الطيبة ، كقوله تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً }[إبراهيم:24]، وهي: العروة الوثقى ، كقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى }[البقرة:256]) وهي: كلمة التوحيد، إلى غير ذلك من الأسماء .
(فإنها الفطرة): إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }[الروم:30] فإنه خلقها، أعني العقول قاضية له بالوحدانية، وشاهدة له بالربوبية .
(وإقام الصلاة): الإتيان بها وتأديتها على التمام لأركانها، والخشوع فيها.
(فإنها الملة): أي الدين، وأراد أن كل ما أتى بها فهو باق على الدين مستمر عليه، كما قال عليه السلام: ((الصلاة عماد الدين، فمن هدمها فقد هدم الدين )) ، وقال: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة )) .
(وإيتاء الزكاة): وتأديتها على الحقوق المفروضة، في الزروع والأموال والمواشي.
(فإنها فريضة واجبة): على كل مسلم ممن كان حائزاً لما تجب فيه من الأموال.
(وصوم شهر رمضان): والإمساك عما يكون مفطِّراً من المأكولات والوقاع.
(فإنه جنة من العقاب): حجاب عنه لما فيه من رضاء الله وإسخاط الشيطان، ولهذا قال عليه السلام: ((الصوم لي وأنا أجزي به )) ، وفي حديث آخر: ((من صام شهر رمضان صابراً محتسباً لله تعالى دخل الجنة )) .
(وحج البيت واعتماره): والإتيان بهذه المناسك في الحج والعمرة على ما هي مشروعة فيهما جميعاً.
(فإنهما ينفيان الفقر): عمن أتى بهما على وجوههما.
(ويرحضان الذنب): يزيلانه من رحض الدرن، إذا أزاله عن يده، فهذه جملة شرائع الإسلام قد أشار إليها عليه السلام، كما أشار إليها الرسول بقوله: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج إلى بيت الله الحرام، وصوم شهر رمضان)) .
(وصلة الرحم): وصلة من كان بينه وبينه قرابة، بالزيارة والمواساة وما يمكن من أنواع الصلة، كقوله عليه السلام: ((بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام )) ، فهو أدنى ما يوصل به الرحم، وقال عليه السلام: ((يقول الله تبارك وتعالى: الرحم اشتققت اسمها من اسمي ، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)) .
(فإنها مثراة في المال): المثراة: مفعلة من ثرى المال إذا كثر وفشا، قال علقمة :
يُرِدن ثراء المال حيث عَلِمْنَهُ
وَشَرْخُ الشبابِ عِندهنَّ عجيبُ
(منسأة في الأجل): المنسأة: مفعلة من النسيان وهو خلاف الذكر، كما قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }[التوبة:67].
سؤال؛ كيف قال في صلة الرحم: إنها مثراة ومنسأة، والأرزاق والآجال مقدرة لا يزاد فيها ولا ينقص، وكلامه يدل [على] خلاف ذلك؟
وجوابه؛ من وجهين:
أما أولاً: فيحتمل أن الله لا يرزقه هذا الرزق، ولا يؤخره إلى هذا الأجل إلا بشرط صلته الرحم، ولا يستحقه إلا بذلك.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يقال: إن الآجال والأرزاق لا نقص فيها ولا زيادة، ولكنه إذا وصل رحمه جعل الله له من الألطاف الخفية في أعمال صالحة وتقربات متقبلة مالولم يصلها لكان لا تحصل له تلك الأفعال إلا في أعمار طويلة فتكون منسأة الأجل متأولة على ماقلناه، وهكذا فإن الله تبارك وتعالى يبارك له فيما رزقه من الأرزاق وأعطاه منها إذا وصل رحمه، ما لو لم يصلها لكان لا يحصل ما حصل إلا بأموال كثيرة، فتكون المنسأة في الآجال، والمثراة في الأموال متأولتين على ما قلناه.
(وصدقة السر فإنها تكفِّرالخطيئة): أي تمحوها وتبطلها.
(وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء): وكان الرسول عليه السلام يعوذ بالله من ميتة السوء.
(وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان): انقلاب الحال وتغيره، ((وكان عليه السلام يعوذ بالله من الحور بعد الكور)) ، وهو النقصان بعد الزيادة.
(أفيضوا في ذكر الله): أكثروا منه، من قولهم: فاض الحوض إذا كثر ماؤه.
(فإنه أحسن الذكر): كما قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }[العنكبوت:45].
(وارغبوا فيما وعد المتقين): في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ... }إلى آخر الآية[محمد:15]، وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133] وهم الذين اتقوا الله تعالى، وراقبوه في جميع أحوالهم في السر والعلانية.
(فإن وعده أصدق الوعد): من حيث كان حكيماً، لا يجوز عليه الكذب في وعده.
(واقتدوا بهدي نبيكم): سنته، وطريقه التي قررها لكم.
(فإنه أفضل الهدي): لأنه عليه السلام أفضل الأنبياء قدراً، وأوسعهم صدراً وأسهلهم شرعاً، وأوضحهم طريقة، كما قال: ((بعثت بالحنيفية السمحة )) .
(واستنوا بسنته): اسلكوا على طريقته، أخذاً لها من سنن الطريق.
(فإنها أهدى السنن): أعظمها بياناً، وأكثرها دلالة على الخير.
(وتعلموا القرآن ): اقرأوه، وفي الحديث: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها)) .
(فإنه ربيع القلوب): تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بالربيع، أو أنها تظهر أنوارها به كما تظهر أنوار الأرض عند الربيع، وهي استعارة بديعة رائقة.
(واستشفوا بنوره): اطلبواالشفاء منه، لما نزل بكم من الأدواء في الدين والعاهات.
(فإنه شفاء الصدور): عن الشك والريب، والوسوسة.
(وأحسنوا تلاوته): بتقويم الأحرف، وإخراجها عن مخارجها وتحسين الأصوات، وسلامته عن اللحن.
(فإنه أنفع القصص): أدخلها في النفع والاعتبار، لما فيها من الاتعاظ بالقرون الماضية، والقصص فيه روايتان: بكسر القاف جمع قصة أي أنه أنفع الروايات المقصوصة، وبفتح القاف إما مصدر بمعنى الاقتصاص، وإما اسم عن مصدركأنه قال: أنفع الأخبار وأعلاها حالاً.
(وإن العالم): بالدين وأحكام الشريعة، وغير ذلك من العلوم.
(العامل بغير علمه): المخالف لما يعلمه من ذلك ولما أمر الله به.
(كالجاهل): لأن علمه غير نافع له كما أن الجاهل حاله ذلك.
(الحائر): المتحير في طريقه لايهتدي لسلوكها.
(الذي لا يستفيق من جهله): أي لاينهض من عثارجهله، من قولهم: فاق واستفاق من مرضه وسكره.
(بل): إضراب عمَّا ذكره من وصف العالم الذي لا يعمل بعلمه، ودخول في نوع آخر من صفاته مبالغة في ذلك، ونعتاً لفعله وتسجيلاً على صنيعه.
(الحجة عليه أعظم): لمخالفته لما يعلم من ذلك؛ لأن الجاهل ربما عذر، فأما العالم فلاعذر له في ذلك، فلهذا كان محجوجاً عند الله تعالى.
(والحسرة له ألزم): التلهف على ما فاته من العمل بعلمه أكثر لزوماً له.
(وهو عند الله ألوم): أكثر لوماً، وأُلام الرجل إذا فعل فعلاً يلومه الناس عليه ويمقتونه.
ثم أطال في ذكر حال الرسول وبيان أوصافه بقوله:
(قد حقَّر الدنيا وصغَّرها): التحقير من الحقارة، والتصغير من الصغار، وهو مبالغة في كثر ذلك وزيادته، وأراد أنه استرذلها في كل أحوالها وأحواله.
(وأهون بها وهوَّنها): أهون بها، أي صار ذاهون بها وتحقير لحالها، وهوَّنها: أي جعلها هينة عنده.