وجوابه؛ هو: أن المعنى لم ترك العيون، ولو رأتك لكانت واصفة لك؛ لأن كل من رأى شيئاً وصفه لا محالة، وأنت قبل الواصفين وجوداً فلا جرم وجب الحكم باستحالة كونك مرئياً، وقوله: (لم ترك العيون) مع ما قبله من أنواع البديع يسمى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وله قدم راسخة في علم البيان، فمن الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] }[الفاتحة:4-5] ومن الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ }[يونس:22] ومن الغيبة إلىالتكلم، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشْرًا }[الأعراف:57] ثم قال: {سُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ }[فاطر:9] وهو من أساليب الافتنان في الكلام؛ لأنه إذا نقله من أسلوب إلى أسلوب آخر كان ذلك أنشط للسامع، وأوفر في الإصغاء من جريه على أسلوب واحد.
(لم تخلق الخلق لوحشة): فيكون وجودهم للأنس بهم لك.
(ولا استعملتهم لمنفعة ): لك فيكون فقدهم إزالة لتلك المضرة، وإعداماً لها.
(ولا يسبقك من طلبت): بالهرب، فيكون ناجياً منك، وممتنعاًعليك.
(ولا يفلتك من أخذت): يذهب عنك من انتقمت منه بالعقوبة وأخذته بها، كما قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }[غافر:5].
(ولا ينقص سلطانك من عصاك): لأن إمهاله كان بغرض آخر غيرالعجز، فلهذا لم يكن تركه عجزاً ونقصاً.
(ولا يزيد في ملكك من أطاعك): لأن الزيادة إنما تعقل في حق من يتكثَّر بالزيادة، أو يلحقه بها نفع، والله تعالى منزَّه عن ذلك كله.

(ولا يرد أمرك من سخط قضاءك): أراد أن أمره نافذ في كل ما سبق به علمه، لا يرد ذلك عن مجراه سواء سخطه من وقع به أو رضي به، وكراهته لذلك لا يكون مانعاً من إنفاذه في حقه.
(ولا يستغن‍ي عنك من تولى عن أمرك): أراد أنه مع توليه عن الأمر وإدباره عنه، فإنه مفتقر إما إلى مغفرة الله تعالى بالتوبة والإنابة، وإما إلى رزقه وعافيته فلا يعقل استغناؤه بحال.
(كل سر عندك): بالإضافة إليك.
(علانية): في الظهور والإحاطة.
(وكل غيب عندك شهادة): في الكشف والإبانة.
(أنت الأبد): أي الدائم، والأبد: الدهر، وإنما سمي أبداً لدوامه.
(فلا أمد لك): أي لاغاية لدوامك، ولا انتهاء له.
وفي بعض النسخ: (أنت الأمد) بالميم، والأمد هو: الغاية، وأراد أنت الغاية لكل شيء فلا غاية ولاحد لأمدك.
(وأنت المنتهى): يرجع إليك كل شيء ويؤول.
(فلا محيص عنك): لا مهرب عنك ولا عدول، من قولهم: حاص عنه إذا عدل، ومنه قوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ }[ق:36].
(وأنت الموعد): يصلح للزمان، و المكان، والمصدر جميعاً، وأراد أنت صاحب هذه الأمور، ومالكها زمان الوعد ومكانه، ونفس الوعد.
(لا منجى منك): لا مفر منك.
(إلا إليك، بيدك ناصية كل دابة): استعارة في الإحاطة، والملك والاستيلاء، كما قال تعالى: {هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }[هود:56].
(وإليك مصير كل نسمة): مرجعها ومآلها بالموت والنشر.
(سبحانك): ننزهك عمَّا لا يليق بك، وسبحان اسم للتسبيح علم له وليس مصدراً على الحقيقة، ومثله الكلام فإنه اسم، والمصدرمنه التكليم.
(ما أعظم ما نرى من خلقك!): تعجب من باهر الخلق وجلال القدرة.

(وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك!): تعجب آخر من صغره بالإضافة إلى ما هو أكبر منه وأبهر وهو القدرة؛ لأن من فكَّر في القدرة هان عليه وصغر ما يرى من المخلوقات على عظمها بالإضافة إليها.
(وما أهول مانرى من ملكوتك!): الملكوت من الملك، كما أن الرغبوت من الرغبة، والجبروت من الجبر، وهو مبالغة في تلك المعاني.
(وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك): السلطان هو: الجلال والعظمة، وأراد أنما ندرك بالأعين حقير هين، بالإضافة إلى جلال الله وعظيم سلطانه، الغائب عن الأفهام التي لا يمكنها إدراكه ولا تطلع عليه.
(وما أسبغ نعمك في الدنيا!): أجلها وأعظمها، كما قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }[لقمان:20].
(وما أصغرها في نعم الآخرة): كما قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ }[الزخرف:71] وقال عليه السلام: ((في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر)) لنسبة نعم الدنيا مع جلالتها إلى ما ذكرناه من نعيم الآخرةكنسبة القرارة إلى المثعنجر .
ثم ذكرحال الملائكة بقوله:
(من ملائكة أسكنتهم سماواتك): لعبادتك، واخترت لهم أشرف البقاع، لما تريد ه من كرامتهم.
(ورفعتهم عن أرضك): تكريماً لهم عن المواضع التي وقعت فيها المعصية من غيرهم.
(هم أعلم خلقك بك): لما عرفوه من ملكوتك، فازداد علمهم بك.
(وأخوفهم لك): ليقين علمهم بحالك، ولهذا ورد في الحديث: ((خوف الله على قدر معرفته، فمن عظم علمه بالله عظم خوفه منه )) ولهذا قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ }[النحل:50].

(وأقربهم منك): ليس الغرض قرب الجهة، وإنما المقصود هو القرب من الرحمة وقرب المكانة، ورفع المنزلة، ولهذا يقال: الوزير قريب من الملك، وإن كان منه على مراحل وبرد.
(لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْلابَ): أي لم يكونوا نطفاً، ويخلقوا من الأمواه، فيكونون في أصلاب الرجال كسائر الأولاد.
(ولم يضمنوا الأرحام): لأن النطفة من الرجال، لابد من قرارها في أرحام النساء، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }[المؤمنون:13].
(ولم يخلقوا من ما ء مهين): من مني خبيث الرائحة، غليظ الجوهرية، وقد تميزوا عن سائر المخلوقات بأن خلقوا من الأنوار الجوهرية ،وآدم خلق من الطين اللازب ، والجان خلق من المارج الناري.
(ولم يشعبهم ريب المنون): منَّ الشيء إذا قطعه، والمنون: المنية، وسميت منوناً؛ لأنها تقطع المدد وتنقص العدد، وشعبه إذا فرقه، والريب: كلما رابك من أمر تكرهه، وأراد أن الملائكة طولت الأعمار في حقهم، فلا يموتون كما يموت بنو آدم، وإنما يموتون دفعة واحدة عند انقضاء الدنيا وزوالها.
(وإنهم على مكانهم منك): في الرفعة، والعلو، والكرامة، والسمو.
(ومنزلتهم عندك): في القرب، والدنو.
(واستجماع هوائهم فيك): حتى أنه لاغرض لهم في غيرك، ولا حاجة لهم في سواك.
(وكثرة طاعتهم لك): في العبادة، وانقيادهم للأوامر كلها.
(وقلة غفلتهم عن أمرك): أي وأنهم يحافظون على الأمر بحيث لا يغفلون عنه ساعة واحدة، فإنهم مع اختصاصهم بهذه الأوصاف كلها.
(لو عاينوا كنه ماخفي عليهم): لو تحققوا غاية ماستر عنهم، من جلال الكبرياء وعظم الإلهية.

(لحقروا أعمالهم): لما يرون من ذلك ما يبهر عقولهم، وتحير فيه أفهامهم، ويرون أعمالهم حقيرة بالإضافة إلى الجلال الباهر.
(ولَزَرَوْا على نفوسهم ): أي صغروها بالإضافة إلى ذلك.
(ولعرفوا): عند معرفتهم لذلك.
(أنهم لم يعبدوك حق عبادتك): العبادة الواجبة لك على قدر عظمتك، وعلى قدر جلالك، وعظم نعمتك على الخلائق كلها.
(ولم يطيعوك حق طاعتك): الطاعة التي توجبها العقول لك على قدر حالك.
(سبحانك): تنزيهاً لك عمَّا لايليق بك، وعن التقصير في حقك.
(خالقاً): مخترعاً وموجداً، وانتصابه على التمييز.
(ومعبوداً): متقرباً إليه بكل طاعة.
(بحسن بلائك عند خلقك): بعجيب اختبارك، وامتحانك للخلق ودقيق حكمتك فيهم.
(خلقت داراً): يعني الجنة، وفي هذا دلالة على أنها مخلوقة، وهو قول النظام من المتكلمين، خلافاً لأصحاب أبي هاشم فإنهم زعموا أنها غيرمخلوقة، وما قاله أمير المؤمنين ها هنا هو الذي اخترناه في الكتب العقلية.
(وجعلت فيها مَأدَبة): أدب القوم يأدبهم إذا دعاهم إلى طعامه، والمأدَبة هي: خلاف الوليمة، وهو ما كان من غير سبب.
(مشرباً): كما قال تعالى: فيها أنهار من اللبن والعسل والخمر .
(ومطعماً): من الفواكه، وسائر المأكولات.
(وأزواجاً): من الحورالعين، كما قال تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ }[البقرة:25].
(وخدماً): كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ}[الواقعة:17-18].
(وقصوراً): كما قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ }[التوبة:72].
(وأنهاراً): كما قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }[البقرة:25].

(وزروعاً ): كما قال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ }[الرحمن:52].
(وثماراً): كما قال تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ }[الرحمن:54] وغير ذلك مما لا يمكن وصفه.
(ثم أرسلت داعياً يدعو إليها): وهم الرسل، وسائر الأنبياء فإنهم بالغوا في الدعاء إلى توحيد الله، والإعلام بما أعد لأوليائه من النعيم الدائم، وبما أعد لأعدائه من العذاب المقيم.
(فلا الداعي أجابوا): فيرغبوا في الأعمال الصالحة، ليفوزوا بالجنة، ويتركوا الأعمال السيئة ليسلموا عن النار.
(ولا فيما رغَّبت رغبوا): من هذه اللذات الدائمة، والنعيم المقيم.
(ولا إلى ما شوَّقت إليه اشتاقوا): الشوق: منازعة النفس إلى الشيء، وأراد ولا نزعت نفوسهم إلى شيء مما وعدت به، من هذه الملاذ العظيمة.
(أقبلوا): بصرف نفوسهم وهمهم .
(على جيفة ): الجيفة هي: جثة الميت، وإنما شبهها بها لما فيها من النضارة والحسن في أول الأمر، ثم تكون عاقبتها فساداً وتغيراً كابن آدم.
(قد افتضحوا بأكلها): فضحه إذا ذكرمساوئه ومعايبه، وأراد أن مساوئهم ظهرت بأكلهم لها، من الأطماع الرديئة، والمكاسب السيئة.
(واصطلحوا على حبها): توافقوا وصالح بعضهم بعضاً على محبتها، وإرادتها من كل وجه.
(ومن عشق شيئاً أعشى بصره): العشق: إفراط المحبة، والعشا هو: سوء البصر، وأراد أن عشقهم أخرج بصرهم عن حد الا ستقامة والإدراك المستقيم؛ لما في ذلك من الإعراض عن الآخرة، التي عليها التعويل، والإقبال على ما لا تعويل عليه من اللذة المنقطعة.
(وأمرض قلبه): أخرجه عن حد الصحة بأن صار مقبلاً على الدنيا، وأعرض عن الآخرة.

(فهو ينظر بعين غير صحيحة): لأنه ينظر في غير سمت الآخرة وطريقها، فهي بمنزلة عين الأحول، الذي ينظر على غير الاستقامة والصواب.
(ويسمع بأذن غير سميعة): لإعراضه عن المواعظ، فهو بمنزلة من لا أذن له، نزل حال من لا يكون منتفعاً بهذه الآلات، من السمع والبصر في أمور الآخرة وأحوالها منزلة من عدمها، وكان فاقداً لها، وقد جاء على هذا النمط قوله تعالى: {لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا }[الأعراف:179] مبالغة للتنزيل، وحذواً على مثاله، واقتفاءً لآثاره ونسيجاً على منواله.
(قد خرقت الشهوات عقله): أفسدته بلذاتها، فصار بمنزلة الثوب المخروق، كما قال تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }[إبراهيم:43] لا لب فيها ولا عقل لها.
(وأماتت الدنيا قلبه): غمرته فصار من ذلك بمنزلة من لا حراك به ميتاً عن ذكر الآخرة.
(وولهت عليها نفسه): الوله: ذهاب العقل، وأراد أن عقله ذاهب لشدة وجده عليها، وأسفاً على فراقها.
(فهو عبد لها): لانقطاعه في طلب شهواتها، وطلبه للتنعم فيها كانقطاع العبد في خدمة سيده، وعن هذا قال بعضهم: الشهوة أذلُّ من عبد الرقِّ.
(ولمن في يده شيءٌ منها): يؤمِّل معروفه ويراقب أحواله، ويتعرض لمنافعه.
(حيثما زالت زال إليها): أي جهة مالت الدنيا إليها، فهو مائل معها لا يفارقها طرفة عين.
(وحيثما أقبلت أقبل عليها): ومن إي جهة طلع نعيمها فهو مقبل عليه بوجهه، لا يعرض عنه، فهو مستغرق في جميع أحوالها بالشغل بها.
(لا ينزجر من الله بزاجر): لا تنفعه زواجر الله، وقوارع وعيده فلا يقلع عمَّا هو فيه.
(ولا يتعظ منه بواعظ): ولا يجدي في حقه تذكير الله له بقصص الماضين، وقرعها بسمعه .

(وهو يرى المأخوذين على الغرّة): المبهوتين بأخذ الموت على غفلة، وهذه الكلمة قد وردت بعينها في حديث الرسول عليه السلام، حيث قال: ((أما رأيتم المأخوذين على الغرّة، المزعجين بعد الطمأنينة )) .
(حيث لا إقالة ولا رجعة): لا تقال لهم عثرة، ولا يرجعون إلى ما كانوا فيستدركون التوبة، ويعاجلون في الإنابة.
(كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون): حاله ولا يخطر لأحد منهم على قلب كُنْهِ تصوره، وهو الموت.
(وجاءهم من فراق الدنيا): انقطاعها عن أيديهم، وزوالها عنهم.
(ما كانوا يأمنون): في أمان منه واطمئنان من وقوعه.
سؤال؛ كل أحد من الخلق يخاف وقوع الموت وهجومه على أي وجه كان، فكيف قال: ما كانوا يأمنون؟
وجوابه؛ هو أنه نزَّل إعراضهم عن الآخرة، وانهماكهم في حب الدنيا، وطلب لذاتها، وشغلهم بها بمنزلة من لا يخطر له الموت على بال، فهو آمن منه في دعة عن هجومه.
(وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون): من أهوالها، وعظيم ما أُعدَّ لهم من العذاب فيها.
(فغير موصوف ما نزل بهم): فلعظم ما نزل بهم، وحل بفنائهم يستحيل في العقول وصفه، ولا يمكنها ضبطه، ولنذكر طرفاً من ذلك تعريفاً بحالهم:
(اجتمعت عليهم سكرة الموت): شدته وعظمه، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ }[ق:19].
(وحسرة الفوت ): أراد أنه اجتمع عليهم مصيبات سكرات الموت، وهوله وانقطاع الأفئدة تحسراً عما كان منهم من التفريط، وإنفاق الأعمار في غير فائدة يعود عليهم نفعها في الآخرة.
(ففترت لها أطرافهم): فلا يستطيعون حركة، ولا ذهاباً بيد ولا رجل.
(وتغيَّرت لها ألوانهم): ألماً، وخوفاً، وجزعاً.
(ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً): خالطهم مخالطة عظيمة مستولية.

(فحيل بين أحدهم وبين منطقه): فصار لا ينطق مع كمال عقله، وصحة حواسه، بأن ختم على لسانه.
(وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه): وهو لا يستطيع النطق لشدة ما نزل به.
(على صحة من عقله وكمال من لبه): أراد أن هذه الأشياء أعني العقل واللب، وسائر الحواس صحيحة، لا آفة بها، خلا أن لسانه قد اعتقل فهو لا يستطيع كلاماً، ولا يقدر عليه.
(يفكر فيمَ أفنى عمره! وفيمَ أذهب دهره!): يعني أنه عند نزول الموت به يفكر فيما ذكره، وفي الحديث: ((لا تزول قدم امرئٍ حتى يسأل عن ثلاث : عن عمره فيمَ أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه فيمَ استعمله)) ؟
(ويتذكر أموالاً جمعها): لفها من جهات متفرقة.
(أغمض في مطالبها): تساهل في ذلك، يقال: أغمض عينه عن فلان فيم باعه منه، إذا تساهل في ثمنه، قال الله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ }[البقرة:267].
(وأخذها من مصرَّحاتها): مِمَّا هي صريحة في التحريم لا شك فيها.
(ومشتبهاتها): مما يكون فيه شبهة في كونه حراماً، وليس تصريحاً فهي غير منفكة من هاتين الحالتين.
(قد لزمته تبعات جمعها): مطالبها، من قولهم: تبعت الشيء إذا طلبته، وعن بعض الصالحين: تابعنا الأعمال فلم نجد شيئاً أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا، أي طلبنا ما هو أشد نفعاً عنها .
(وأشرف على فراقها): بدنو أجله، وقرب ارتحاله.
(تبقى لمن وراءه): من الأولاد، وسائر الورثة.
(يتنعمون فيها): بالخضم والقضم لها، وسائر اللذات.

(ويتمنَّعون بها ): إما يعتزون بها عمَّن يريد نقصهم، وإنزالهم عن مراتبهم من قولهم: امتنعت من الأسد إذا تحرزت منه، وإما من المنع وهو المروءة، أي يعطونها مروءة منهم وإحساناً على غيرهم من جهتهم، وأصله من المنعة وهي: العز.
(فتكون المهنأة لغيره): المهنأة مصدر هنأه الطعام يهنأه كالمسعاة من سعى مسعاة، وأكلة تهنأه نقيض لما يغص به من الطعام، ولا يجري في حلقه.
(والعبء على ظهره): أي الثقل، وهو: الوزر يحمله على ظهره، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ }[الأنعام:31].
(والمرء قد غلقت رهونه): غلق الرهن؛ إذا لم يكن يقدر صاحبه أن يفتكه لوقته المشروط، وهو يستعار لمن وقع في أمرٍ لا يرجو منه خلاصاً.
(دونها): تقصير للغاية، أي هلك من أجلها وبسببها.
(فهو يعض يده ندامة): عضَّ اليد جعل كناية عمَّن انقطعت نفسه حسرة على الشيء، وندامة على فواته من يده، قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ [مِنَ الغَيْظِ] }[آل عمران:119].
(على ما أصحر له عند الموت من أمره): ظهر وانكشف، من الإصحار والانكشاف، ومنه الصحراء لظهورها من الندامة والحسرة.
(ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره): زهد في الشيء وزهد عنه إذا رغب عنه، ولم يرده يعني أنه بعد الموت يود أنه ما ملك شيئاً من الدنيا، لما يرى من شدة انقطاعه عن ذلك، ووباله عليه.
(ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه): الغبطة: أن تتمنى مثل ما لصاحبك من النعمة، ولا تريد زوالها منه، والحسد: أن تريد زوالها منه إليك، وأراد أنه لفرط ندامته وتحسره، يود أن حاسده وغابطه استوليا عليها، ولم ينل منها شيئاً.

58 / 194
ع
En
A+
A-