(تركب أولاهم أخراهم): هرباً وهزيمة منكم.
(كا لإبل الهيم المطرودة): الشاردة.
(ترمى عن حياضها): تزال بالعنف والشدة.
(وتذاد عن مواردها!): وهي: أماكن الشرب لها، مثَّل حالهم في الهزيمة بحال الإبل، لما يلحقهم في ذلك من الفشل في حال الهزيمة، وشدة الحال.
(102) ومن خطبة له عليه السلام من خطب الملاحم
(الحمدلله المتجلي لخلقه بخلقه): الظاهرلهم بالأدلة والبراهين، من إبداع المخلوقات، وإحكام هذه المكونات.
(الظاهر لقلوبهم بحجته ): فلا يحتك في صدورهم خلاف ذلك، من نفيه، ويختلج في أفئدتهم الشك فيه.
(خلق الخلق): اخترع هذه المخلوقات.
(من غير روية): تفكر ونظر في إبداعهم وإحكامهم.
(إذ كانت الرويات): الأفكار والأنظار.
(لا تليق إلا بذوي الضمائر): بأهل القلوب؛ لأن النظر إنما يكون بحكِّها ، وترتيب علومها.
(وليس بذي ضمير في نفسه): لأن ذلك إنما يختص من كان جسماً، وهو تعالى منزه عن الجسمية.
(خرق علمه باطن غيب السترات): نفذ علمه بما كان مستوراً، وشبهه بالخرق؛ لأن كل مخروق بالإنسان يبصر ما ورآه.
(وأحاط بغموض عقائد السريرات): واستولى على غامض ما كان حاصلاً في الصدور، من العقائد الصحيحة والفاسدة.
(واختار محمداً صلى الله عليه وآله من شجرة الأنبياء): وهي: ذرية إبراهيم وإسماعيل.
(ومشكاة الضياء): المشكاة هي: الكوّة، وهي فارسية معربة.
(وذؤابة العلياء): الذؤابة واحد الذوائب، وهي: الخصلة من الشَّعَر.
(وسرة البطحاء): أراد بطحاء مكة، وأراد أنه من خلاصتهم، ويقال: قريش البطاح، وهو لمن كان في مكة نفسها، وقريش الضواح لمن كان خارجاً عنها .
(ومصابيح الظلمة): لأن الظلمة مهما كانت مشتدة فضياء المصباح أشد وأكثر.
(وينابيع الحكمة): الينبوع: واحد الينابيع، وهو النهرالجاري، وهذه الأوصاف حاصلة في حقه صلى الله عليه وآله.
(طبيب دوَّار بطبه): بعرضه على كل أحد ممن كان به علة.
(قد أحكم مراهمه): أحكمها وأصلحها، وجعل لكل علة منها مرهماً يخصه.
(وأحمى مواسمه ): التي يضعها على الجراحة يحسمها بالنار.
(يضع ذلك حيث الحاجة إليه): أراد بذلك مثالاً في حق الرسول عليه السلام، فإن الطبيب الحاذق الماهر في علم الطب، لا يقصرعن علاج واحد ، واستعمال دواء مخصوص بل يعالج كل مريض بعلاج يليق به، ويستعمل في كل داء مايختص به من الأدوية؛ لأنه عليه السلام كان يكلم الناس على قدرعقولهم، وبحسب أمزجتهم ، فيضع الحكمة مواضعها حيث يحتاج إليها.
(من قلوب عمي): عن بصائرها فيوضح لها أمرها.
(وآذان صُمٌ): عمَّا ينجيها من سماع الكلمة، فيقرها في آذانهم.
(وألسنة بُكْمٌ): عن النطق لايكون نافعاً لها فينطقها بذلك.
(فيتتبع بدوائه مواضع الغفلة): أي يضع الحكمة بالاتعاظ والتنبيه حيث تكون القلوب الغافلة عمَّا ينجيها.
(ومواطن الحيرة): وحيث تكون الحيرة في أمر دينهم، فيفرج الأمر عنهم بحكمته.
(لم يستضيئوا بأنوار الحكمة): قبل ذلك، بل كانوا في جهالة الكفر وضلالة البدعة.
(ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة): فهم من أجل ذلك في ظلمة العمى، وحنادس الحيرة.
(فهم في ذلك): أراد جميع ما قدمه من الحيرة والغفلة.
(كالأنعام السائمة): التي لا راعي لها، فهي تتفرق من جانب إلى جانب.
(والصخور القاسية): بجفاء الطبائع وغلظها بالبدعة والكفر، كما قال تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }[البقرة:74].
(قد انجابت السرائر): أي انكشفت.
(لأهل البصائر): لأهل العقول المبصرة.
(ووضحت محجة الحق لخابطها): وظهرت طريق الحق لمن كان سالكاً غيرها، والخابط هو: الذي يأتي على غير طريق.
(وأسفرت الساعة عن وجهها): [بظهور علاماتها].
(وظهرت العلامة): [في الحق والباطل] .
(لمتوسمها): لطالبها، وغرضه من هذاالكلام أحد أمرين:
إما ما كان من الرسول عليه السلام فإنه قد أظهر الحق، وكشف عن الضلالة، وأرى الحكمة بما جاء به عليه السلام، وإما أن يريد بذلك مشيراً إلى نفسه، فإنه قد أبان الحق فيما هو بصدده، وكشفه وأبان الطرق الواضحة في حال هذه الفتن وغيرها.
(ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواح): كأنكم جمادات، أو كأنكم أموات لا حراك بكم.
(أو أرواحاً بلا أشباح): أو كأنكم أرواح مجردة عن الأبدان، ولا تُقْبِلُون على ما فيه صلاح لكم، من العبادة والجهاد في الله لعدوكم، والروح والشبح لا انفصال لأحدهما عن الآخر، ولا يقومنَّ أحدهما ولا ينفع إلا مع صاحبه.
(ونُسَّاكاً بلا صلاح): النسك هو: العبادة، والصلاح هو: إصلاح الحال في مجانبة الكبائر، فالعبادة من دونها محال لا تنفع.
(وتجاراً بلا أرباح): والتجارة هي: التصرف، وكونه تصرفاً من غير ربح عناء وشقاء لامنفعة فيه.
(وأيقاظاً): تتصرفون تصرفات أهل ا ليقظة.
(نوماً): جمع نائم، لقعودكم عن الجهاد، فأنتم في حكم النائم.
(وشهوداً): مشاهدون بالأعين الناظرة.
(غيَّباً): بمنزلة الغائب في دفع النفع.
(وناظرة): أي وأنتم جماعة ناظرة بأعينها.
(عمياً ): عمَّا يراد بكم من أمر الجهاد، وأعمال الآخرة.
(وسامعة): للنطق وأجراس الكلام.
(صماً ): لإعراضهم عن المواعظ، وتركهم العمل بها بمنزلة الصم الذين لا يسمعون.
(وناطقةً): بالكلام في كل مايضرها، ولايكون نافعاً لها.
(بكماً ): عن الخطاب النافع في الأمر بمعروف ، أو نهي عن منكر، وهذا الأسلوب من علم البديع، وهو الملقب بالطباق، وهو ذكر الضدين جميعاً، قد أورده على هذا النمط العجيب واستاقه فصار بالغاً كل مبلغ في الحسن والرشاقة.
(راية ضلال قد قامت على قطبها): أراد بذلك ما يكون في آخر الزمان من فتنة الدجال، وغيرها من الفتن، وشبهها بالرحى في كمالها واستيساقها ، فإن الرحى إنما تكون مهيأة للطحن بذلك.
(وتفرقت شعبها ): صارت من جهات مختلفة، وأنحية متفاوتة.
(تكيلكم بصاعها): استعارة في الاستيلاء و الإحاطة.
(وتخبطكم بباعها): استعارة في القهر والغلبة، والباع: قدر مدِّ اليدين عرضاً.
(قائدها خارج عن الملة): بكفره لادّعائه أنه ربٌّ، وفي الحديث: ((إنَّ الدَّجّال أعور كأن عينه عنبة طافية ، وإنَّ ربَّكم ليس بأعور)) .
(قائم على الضَّلَّة): ثابت مستقيم على الضلال والزلل، والضِّلة بكسر الضاد: الحالة من الضلال، كا لرِّكبة، وبفتحها: الواحدة من الضلال، وبضمها: الباطل، ويقال له أيضاً: ضل بتضلال.
(فلا يبقى منكم يومئذ إلا ثُفالة كثُفالة القدر): الثفالة: ما رسب من كل شيء، وهو: عبارة عن الرديء، وأراد في زمان الدجال.
(ونُفاضة كنُفاضة العِكم): وهو ما يبقى في أسفل العِدْل من كل ما وضع فيه.
(يعرككم عرك الأديم): عند الدبغ له؛ لأنه لا يبقى منه جانب إلا نالته يد الدابغ.
(ويدوسكم دوس الحصيد): أي المحصود من الزرع، ودوسه: دقُّهُ حتى لا يبقى منه شيء قائم على ساقه، وجعل ذلك كله استعارة في عظمها، وشدة أمرها.
(ويستخلص المؤمن من بينكم): بالموت، أو بأمر يجعل الله له فيه فرجاً.
(كما يستخلص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحب): الهزيل من الأشياء: أضعفها وأردأها، وأراد بالبطينة: المملوءة النافعة الجيدة.
(أين تذهب بكم المذاهب): عمَّا أخاطبكم به، وأزجركم بسماعه.
(وتتيه بكم الغياهب): الظُّلَم بالسير في الشبهات، والإقامة عليها.
(وتخدعكم الكواذب؟): خدعه إذا أراه شيئاً، وغرضه خلافه، والكواذب: جمع كاذبة، وهي إما بمعنى الكذب، وإما صفة بمعنى الخصلة الكاذبة، وهو : الأماني والتسويفات.
(ومن أين تؤتون): في النكوص والتأخرعمّا أريده بكم وأتوسمه فيكم من قتال عدوكم.
(وأنى تؤفكون!): من أي طريق تصرفون، عمَّا أقول لكم من الحق، تقول: أَفَكَه يَأفِكُه إذا صرفه عن مراده.
({لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ })[الرعد:38]: فالآجال مكتوبة عند الله مقدرة، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فلأي شيء يكون التأخر عن الجهاد، وما أحسن ورود هذه الآية في هذا المكان؛ لما فيها من المطابقة له والملاءمة لمعناه.
(ولكل غَيْبَة إياب): أي لا غيبة إلا ويرجى له رجوع وَأَوْبَةٌ، فإلى متى تكون هذه الغفلة منكم، وأي حين ترجعون عنها.؟!
(فاستمعوا من ربَّانيَّكم): الربانيُّ هو: العالم بالله، المنقطع إليه في العبادة، كما قال تعالى : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }[آل عمران:79].
ولما مات ابن عباس، قال بعضهم : مات رباني هذه الأمة.
(وأحضروه قلوبكم): في الاستماع، وترك الغفلة.
(واستيقظوا إن هتف بكم): وانتبهوا إن دعاكم لأمر الجهاد.
(وليصدق رائد أهله): الرائد: الذي يبعثه القوم ليطلب لهم الكلأ، وهو من الأمثلة الجارية على ألسنة العرب، يقال فيه: الرائد لا يكذب أهله، وغرضه من هذا هو أني إنما أعظكم بهذه المواعظ، طلباً لنجاتكم، وسعياً في إصلاحكم .
(وليجمع شمله): فلا يشغله شيء عن ذلك.
(وليحضر ذهنه): حتى لايكون غافلاً عمَّا يقال له.
(فلقد فلق لكم الأمر): إما أراكم بصائركم في الدين، وإما فرَّق لكم بين الحق والباطل.
(فَلْقَ الخرزة): أراد أن الخرز إذا نظمت في العقد، فإن كل خرزة منه منفلقة عما يليها فلقاً لا يلتئم أبداً.
(وَقَرفَهُ قَرْفَ الصَّمْغة): القرف هو: القشر، وقرف الصمغة إذا أخذها مع شيء من العود، وفي المثل: تركته على مثل مقرف الصمغة ، يعني إذا أخذت جميع ما عنده، والضمير في فلق وقرف هو للربانيّ في أول الكلام.
(فعند ذلك): الإشارة إلى ما تقدم ذكره من هذه الفتنة.
(أخذ الباطل مآخذه): استقر، وثبتت قواعده، فقصد من كل جهة.
(وركب الجهل مراكبه): من كل شبهة وباطل.
(وعظمت الطاغية): إما الطغيان، وإما الضلالة الطاغية، وأراد اشتد أمرها، وجاوز حدها في العصيان والمخالفة كل حد ونهاية.
(وقلت الداعية): إما الدعاء إلى الخير، وإما الفرقة الداعية إلى الخير.
(وصال الدهر صِيَال السبع العقور): استطال على أهله، والمصاولة: المطاولة بالفساد والفجور، وشبهه بالسبع العقور لما يصيب أهله من ألمه.
(وهدر فنيق الباطل): الفنيق: الفحل المكرم عند أهله، وهديره: ترديده لصوته في حنجرته بطراً وأشراً.
(بعد كظوم): كظم البعير إذا أمسك عن الجرة، وأراد أنه كان مكظوماً من قبل بظهورالحق واستيلائه.
(وتواخى الناس على الفجور ): صاروا كالإخوة في التصافي والتداهن على المعاصي، من غير إنكار ولا منع كما يفعل الإخوة.
(وتحابُّوا على الكذب): إما أنه لا وجه للمحبة إلا أنه يكذب، وإما لأنه يمنِّيه الأماني الباطلة، ويَعِدُه بالمواعد المزخرفة، فيحبه من أجل ذلك، وكله محابة على الكذب.
(وتباغضوا على الصدق): إما لأنه لاوجه لبغضه إياه إلا لأنه صادق في مقالته، وإما لأنه يعظه ويخوِّفه بالله ويقرِّر عنده ما يؤول إليه أمره في الآخرة، ويصدقه هذه الأحاديث فيبغضه من أجل ذلك، فهذا هو مراده بقوله.
(فإذا كان ذلك): الإشارة إلى ماذكره من هذه الأهوال، وهي أمارة لوجود الساعة وقيامها.
(كان الولد غيظاً ): أي أن الولد إذا انعقد بطل بعد ذلك، وتلاشى أمره، كما قال تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ }[الرعد:8].
(والمطر قيظاً ): أي يأتي في غير وقته في أيام القيظ فلا ينتفع به.
(وكان أهل ذلك الزمان ذئاباً): في الضراوة والاستلاب.
(وسلاطينه سباعاً): في العداوة وشدة الافتراس لما صادفوه.
(وأوساطه أكالاً): أراد أدناهم منزلة يشبه الذئب في افتراسه، وأعلاهم يشبه السبع في شدة عداوته، وأوساطهم منزلة أكالاً بالتخفيف، وهو جمع أُكُل وهو ما يؤكل، كما قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ }[الرعد:35] وأكَّالاً بالتشديد جمع آكل مثل جاهل وجهَّال.
(وفقراؤه أمواتاً): من شد ة الفاقة لاحراك بهم.
(وغار الصدق): أي ذهب، من قولهم: غارت عينه غوراً أي ذهبت، قال الله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا }[الملك:30] أي ذاهباً.
(وفاض الكذب): ظهر وانتشر.
(واستعملت المودة باللسان): أي أن المودة صارت نفاقاً، يظهر له من لسانه المودة وهو مبغض له بقلبه.
(وتشاجر الناس بالقلوب): أراد أن العداوة صارت في القلوب، نقيض الأمر وعكسه فإنها محل المصادقة والمحبة والمودة.
(وصار الفسوق نَسَباً): إما يتوارثونه قرناً بعد قرن، وإما ملازم لهم متصل بهم كا تصال الأنساب بعضها ببعض واشتباكها.
(والعفاف عجباً): لقلته فصار بمنزلة الطرفة والأعجوبة، يعجب منه كل أحد لقلته وندرته .
(ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً): بأن صارت أحكامه على عكس ما كانت عليه، فصار بمنزلة من لبس فروة على خلاف عادته، فقد أشار عليه السلام في هذه الخطبة إلى هذه العلوم الغيبية، وهي مأخوذة من جهة الرسول، وإعلامه له بمايكون من ذلك.
(103) ومن خطبة له عليه السلام
(كل شيء خاضع له): أي ذليل لأجل سلطانه وتكبره.
(وكل شيء قائم به): أي لولاه لما حصل، ولما كان موجوداً به .
(غنى كل فقير): أي هو الذي يغنيه.
(وعز كل ذليل): بالانتصارله، والأخذبحقه.
(وقوة كل ضعيف): بالانتصاف له ممن ظلمه.
(ومفزع كل ملهوف): الملهوف: المظلوم، واللهف هو: التحسر والحزن، أي أنه تعالى يُفْزَعُ إليه عند الظلم فيأخذ على يد الظالم وينصف منه.
(من تكلم سمع نطقه): لإدراكه لكل مدرك.
(ومن سكت علم سره): ما حواه صدره، وأكنته جوانحه لعلمه بكل المعلومات.
(ومن عاش فعليه رزقه): لأنه إذا كان مريداً لتبقية الحيوانات فلا بد من رزقها لدوام حياتها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }[هود:6].
(ومن مات فإليه منقلبه): فيجازيه على أعماله خيرها وشرها: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }[يونس:4].
(لم ترك العيون): بأحداقها كما ترى سائرالمرئيات.
(فتخبر عنك): بالمشاهدة، كما تخبر عن سائر المشاهدات الجسمية والعرضية.
(بل كنت قبل الواصفين من خلقك): لكونك أزلياً سابقاً على وجود كل موجود من المخلوقات.
سؤال؛ ما وجه تعلق قوله: بل كنت قبل الواصفين بقوله: لم ترك العيون حتى أورده على أثره؟