(الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب): الإقرار مرفوع لأنه فاعل لأغناهم، وأراد أن الإقرار بالأمورالمجملة مما لا يعلم كنهه من العلوم الغيبية هو كافٍ عما سواه مما لا سبيل لأحد إلى العلم به مما حجب الخلق عن علمه والاطلاع عليه.
(فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً): فأثنى عليهم الله تعالى لأجل معرفتهم بحال نفوسهم في تصريحهم بعجزهم عما لا يقدرون على الإحاطة به والاطلاع على كنه أسراره.
(وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً): لأن معرفة الإنسان بعجز نفسه هو علم بحقيقة الحال وأنها لا تنال، وما عدا ذلك فإنه رمي بالعماية وخبط في الجهالة.
(فاقتصر على ذلك): الإشارة إلى ما دل عليه الأدلة الشرعية التي أسلفنا ذكرها في المسائل الإلهية مما ليس في العقل القطع عليه بل هو موضع احتمال، فما هذا حاله فالتعويل فيه على الأدلة النقلية كالأوصاف التي تجري على الله تعالى فإن مستندها الشرع، فأما العقل فلا تصرف له فيها.
(لا تقدِّر عظمة الله على قدر عقلك): يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العقل له نهاية وحد، والعظمة لا نهاية لها ولاحد، فلو حكم فيها العقل وجعلها مثله لكانت متناهية وهذا محال.
وثانيهما: أن يريد بالعقل الوهم، أي لا تجعل عظمة الله على قدر الوهم، فإن الوهم كاذب يسبق إلى خلاف ما عليه الشيء.
(فتكون من الهالكين): فتكون منصوب لأنه جواب النهي، أي فتهلك باستحقاق العقوبة من جهته باعتقادك لذاته على خلاف ما هي عليه.
(هو القادر): استحضاراً لما قرره بقوله: لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك، أي هو المخصوص بقدرة لا يمكن وصفها ولا تنال لها نهاية.
(الذي إذا ارتمت الأوهام): الارتماء هو: المرور في سرعة، ومنه ارتماء الفرسان وترامي السحاب أي جريه في سرعة، شبه مرور الخواطر في نظرها مثل مرّ السحاب في الجو.
(لتدرك منقطع قدرته): لتصل إلى غاية حقيقة كنه قدرته إحاطة بالعلم بها.
(وحاول الفكر): حاول الشيء إذا أراده.
(المبرأ من خطر الوسواس): السليم من الوساوس التي تعرض فيه على خلاف الصواب والحق.
(أن يقع عليه في عميقات): غايتها وقصاراها.
(غيوب ملكوته): الأمور الغيبية التي استولى عليها وملكها بالإحاطة بها.
(وتولهت القلوب): ذهبت انقطاعاً وحسرة، وتحيرت فشلاً ودهشة.
(إليه لتجري في كيفية صفاته): من أجل أنها تكون محيطة بجريها على غاية حقيقة صفاته الإلهية.
(وغمضت مداخل العقول): غمض الشيء إذا خفى ودق، وأراد وولجت العقول في المداخل الضيقة الدقيقة.
(في حيث لا تبلغه الصفات): في جهة لا يمكن وصفها من الدقة والغموض.
(لتنال علم ذاته): وغرضها وقصدها أن تبلغ وتصل إلى حقيقة علم الذات منه تعالى.
(ردعها): كفها عمَّا همت به من الإحاطة بألاَّ سبيل إلى الإحاطة به لأحد.
(وهي تجوب): جاب البلاد يجوبها إذا قطعها، ومنه قوله: هل عندك جائبة خبر.
(في مهاوي سدف الغيوب): المهواة: الشق بين الجبلين، والسدف: الظلم ها هنا.
(متخلصة إليه): أي خالصة عن الظلم والمهاوي، وانتصابه على الحال من الضمير في تجوب، والجملة الابتدائية وهي قوله: وهي تجوب في موضع الحال من الضمير في ردعها، والمعنى في هذا هو أنه تعالى كفها، في حال كونها قاطعة للمهاوي والظلم تريد التخلص إليه والوقوع على كنه حقيقته.
(فرجعت): على إثرها.
(إذ جبهت): جبهته إذا صككت جبهته، شبهها في الرجوع خاسئة حسيرة عن نيل علم ذاته بحال من يصك جبهة غيره ليرده عمَّا حاوله، وكل ذلك مبالغة في رجوعها عما أرادته من ذلك.
(معترفة): متحققة لذلك العجز عن معرفة ودراية.
(بأنه لا ينال بجور الاعتساف): الجور هو: الميل عن القصد، والاعتساف هو: الأخذ على غير طريق.
(كنه معرفته): غاية علم ذاته، والمعنى في هذا هو أن العقول وإن خرجت عن القصد وأخذت على [غير] طريق فإنها لا تناله.
سؤال؛ إذا كان علم حقيقة ذاته لا تنال بالطرق المستقيمة فهي لا تنال بالجور والاعتساف، فما مراد ه من هذا الكلام؟
وجوابه؛ هو أن الغرض من كلامه هذا هو أن العقول سواء جارت في سيرها أو عدلت أو استقامت على المنهاج أواعتسفت فإنها في جميع أحوالها لا تصل إلى حقيقة العلم بذاته أصلاً.
(ولا تخطر ببال أولي الرّويّات): يعرض في الخاطر، والبال هو: القلب، والروَّية: النظر، وأراد أنه لا يعرض في قلوب أولي الأنظار والتفكرات.
(خاطرة من تقدير جلال عزته): خطرة واحدة، وأراد التقليل من ذلك.
(الذي ابتدع الخلق): اخترع جميع ما خلق.
(على غير مثال امتثله): المثال: ما يقتدى به ويعمل مثله.
(ولا مقدار احتذى عليه): فيما يصنعه ويحكمه.
(من خالق معبود كان قبله): فيصنع له هذه الأمثلة فيكون سابقاً عليه ليصح ذلك في حقه.
(وأرانا من ملكوت قدرته): من التقدير والإحكام ومطابقة الأغراض والمصالح.
(وعجائب ما نطقت به آثار حكمته): من الإلهامات العجيبة في جميع العالم كله مما لو نطق لصرَّح بمبالغة الحكمية وعجيب الصنعة منه.
(واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوته): وأراد أن الخلق معترفون بحاجة هذه الآثار إلى خالق يمسكها بقوته؛ لأن العقول قاضية بذلك مشيرة إليه، والمساك بكسر الفاء: ما يمسك الشيء، ويقال للذي يقر فيه الماء: مساك.
(ما دلنا باضطرار قيام الحجة على معرفته): ما موصولة في موضع نصب مفعوله لأرانا، أي أرانا من هذه المخلوقات ما أوجب العلم الضروري على وجوب قيام الحجة على معرفته، فمتعلق العلم الضروري هو وجوب قيام الحجة على المعرفة، وبيان ذلك هو أنَّا إذا رأينا هذه الآثار من اختلاف الليل والنهار، وطلوع هذه الكواكب، وجري الريح وغيرها من الآثار،فإنا لا نأمن أن يكون لها فاعل ومدبِّر، وعند هذا يُعْلَمُ بالضرورة وجوب النظر في أحوالها، ليحصل لنا تسكين هذه الروعة بالوقوف على حقيقة الأمر في ذلك، وهذا هو مراد المتكلمين بقولهم: إن النظر يجب لما فيه من دفع الضرر عن النفس بالتقرير الذي ذكرناه.
(وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته): أراد هذه الموجودات المخترعة بالقدرة، فكما أن فيها دلالة على صانع لها ففيها دلالة على قدرته.
(وأعلام حكمته): وبراهين دالة على علمه وإتقانه.
(فصار كل ماخلق حجة له): على كونه واحداً.
(ودليلاً عليه): على وجوده وكونه قادراً لمن يستدل به من أرباب العقول وأهل البصائر.
(وإن كان خلقاً صامتاً): ليس حيواناً ولا يعقل شيئاً.
(فحجته بالتدبير ناطقه): على أن له مدبراً وخالقاً، ناطقة بلسان الحال لما فيها من ظهور الأدلة ووضوحها.
(ودلالته على المبدع قائمة): على أن له مبدعاً مستمرة ثابته.
(وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك): بأن أثبت لك ما يثبت للمخلوقات، من الأعضاء المتباينة التي كل عضو من أعضائها منفصل عن الآخر مباين له .
(وتلاحم حقائق مفاصلهم المحتجبة): التلاحم هو: التلاصق، ومنه قولهم: حبل ملحم، إذا كان جيد الفتل والإلصاق بعضه لبعض، وأراد تلاصق المفاصل بعضها لبعض المستترة، التي لا يدرك ما اشتملت عليه من الالتأم والحصافة .
(لتدبير حكمتك): أي من أجل تدبير حكمتك، واللام متعلقة بمحذوف، أي كل ذلك من أجل تدبير حكمتك ولايجوز تعلق اللام بتلاحم؛ لأنه لا يجوز وصفه، ولا وصف مضافه قبل تمامه بذكر متعلقاً به، وها هنا قد وصف ما أضيف إليه قبل تمامه بذكر متعلقه.
(لم يعقد غيب ضميره على معرفتك): أراد أن كل من شبه الله تعالى بخلقه فإنه جاهل بحاله؛ لأنه تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء من المكونات أصلاً.
(ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لاندَّ لك): أي أنه لم يخالط قلبه العلم اليقين بأنه لا مثل لك؛ لأنه لو باشر قلبه ذلك وقطع به واطمأن إليه لم يقل بهذه المقالة.
(وكأنه لم يسمع تبرُّؤ التابعين من المتبوعين): إذ قال التابعون.
({تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ })[الشعراء:97]: لفي ميل عن الحق ظاهر لا لبس فيه.
({إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين })[الشعراء:98]: نجعلكم أمثالاً له وحاصلين على مثل صفته في استحقاق العبادة، وغير ذلك من الأحكام الإلهية، ولو كان مشبهاً لهم لكان جسماً مثل أجسامهم وذلك محال في حقه.
(كذب العادلون بك): في هذه المقالة التي اختلقوها.
(إذ شبهوك بأصنامهم): في كونك جسماً مثلها لك حصول في الجهة وكون فيها كما كان لها.
(ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم): النحلة: العطية، أي وأعطوك اعتقاداً منهم صفة هذه المحدثات وهماً منهم، ويجوز أن يكون مراده بالنحلة المذهب، أي وذهبوا إلى أنك متحلياً بحلية المخلوقات، واعتقدوه مذهباً لهم.
(وجزَّءوك تجزئة المجسمات بخواطرهم): وأضافوا إليك الانقسام اللازم من صفة الجسمية؛ لأن كل جسم فهو ذو أجزاء عند من اعتقد ذلك بخاطره.
(وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم): وتركوك على الخلقة التي من شأنها اختلاف قواها وتباينها، فإن قوة العقل مخالفة لقوة السمع والبصر، وقوة الرجل مخالفة لقوة اليد، وهكذا القول في جميع القوى فإنها على هذا الاختلاف، وكان هذا التقرير حاصلاً لهم من تلقاء معتقداتهم التي لم يقم عليها برهان ولا يعضدها دليل.
(فأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك): المساواة: هي المماثلة، وأراد أن كل من ماثل الله تعالى بشيء من صفات الجسمية والعرضية [كأن يقول: إنه جسم، أوله أعضاء وجوارح، أو أنه حالٌّ في محل، وكائن في جهة أو غير ذلك مما يكون دالاً على الجسمية والعرضية] ، وحكماً من أحكامها، فإنه قد عدل عن الله تعالى على معنى أنه شبهه بمن يخالفه في الحقيقة والماهية.
(والعادل بك كافر على ما تنزَّلت به محكمات آياتك): كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }[الأنعام:1].
(ونطقت به شواهد حجج بيناتك): من الأدلة الشرعية، والشواهد النقلية، وكلامه هذا دال على كفر هؤلاء المشبهة، سواء قالوا: إنه تعالى ذو أعضاء وجوارح، كما هو المحكي عن بعض الزنادقة، أوقال: إن الله تعالى حاصل في جهة وإن لم يكن جسماً، لأن ظاهر كلامه هو أن من ساواه في ذلك، وهذا عام في كل ما كان مقتضياً للتشبيه.
(وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول): لم يكن لها نهاية في بداية العقول ومقتضياتها.
(فتكون في مهب فكرها مكَّيفاً): فلو كنت منتهياً لكنت مكيفاً في الخواطر والرويات ؛ لأن كل ما كان متناهياً فله كيفية، وحد ونهاية، والمهب: هو الفراغ الذي تجري فيه الريح، واستعاره ها هنا لجولان الخواطر في روياتها وأنظارها، وقوله: فتكون منصوب لأنه جواب النفي.
(ولا في روّيات خواطرها محدوداً مصرَّفاً): ثم لو كان متناهياً في العقول لكان في أفكارها وخواطرها له حد وله تصريف، فلما كان غير متناه في العقول استحال ذلك كله.
(قدّر ما خلق): في إحكامه وانتظامه ومطابقته للأغراض والمصالح.
(فأحكم تقديره): لم يغفل عن شيء من ذلك ولا اختل نظامه ومنفعته.
(ودبَّر ): [ما خلق] بأن علم ما يؤول إليه عاقبة أمره وقصارى حاله.
(فألطف تدبيره): فدق وغمض ما أحكم من ذلك بحيث لاننال غايته ولا نبلغ إليه.
(ووجهه لوجهته): الوجهة هي: الطريقة، قال الله تعالى: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ }[البقرة:148] وأراد وصرفه لطريقته التي وضع لها من غيرمخالفة، كما قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }[الطلاق:3].
(فلم يتعد حدود منزلته): أراد أنه لم يتجاوز حده التي قدرله بالزيادة على ذلك.
(ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته): أراد ولم يخالف إرادته بالنقصان عمّا قدر له، كما قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد:8].
(ولم يستصعب إذ أمر بالمضيِّ على إرادته): استصعب الأمر إذا اشتد، وأراد أن ما خلق من المكونات لم يكن له امتناع من نفوذ أمره فيه بالوجود والحصول على حسب داعيته وإرادته، وبقوله: {كُنْ فَيَكُونُ}.
(وكيف): يكون ثَمَّ امتناع منه.
(وإنما صدرت الأمور عن مشيئته!): فلا وجه لامتناعها مع أن الحال ما قلناه؛ لأن ما هذا حاله فلا يعقل في حقه امتناع عن نفوذ الأمر فيه.
(المنشئ أصناف الخلائق ): الموجد لجميع الأنواع من غير سبب كان هناك من الجمادات والحيوانات، على ما اشتملا عليه من أنواعهما وضروبهما.
(بلا روية فكر آل إليها): من غير روية وتفكر رجع إليها في الصنع والتقدير والإحكام والتدبير.
(ولا قريحة غريزة): القريحة: أول ما يخرج من ماء البير، ثم استعارها هنا لما يستنبطه الإنسان بطبعه، وأراد ولا ذكاء غريزة أي طبيعة.
(أضمر عليها): في قلبه واشتمل عليها خاطره.
(ولا تجر بة أفادها): التجر بة: هي العلم بالأمور وتكريرها مرة بعد مرة، وأفادها أي جعلها من جهة غيره.
(من حوادث الدهور): أراد أن التجربة إنما تحصل بممارسة الخطوب وتكرر الأزمنة على ذلك.
(ولا شريك): مشارك له في ملكه.
(أعانه على ابتداع عجائب الأمور): عضده على اختراع هذه العجائب، وإحداث هذه الغرائب في العالم فأبدعه وأحكمه، على أعظم إيجاد وأحسن إحكام.
(فتم خلقه بأمره ): الضمير في خلقه إما لله، أي تمَّ خلق الله لما خلقه، أو لما خلق أي تمَّ خلق ما خلقه.
(وأذعن لطاعته): لما أمره بالوجود، بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ}.
(وأجاب إلى دعوته): لما دعاه إلى الوجود، أولما دعاه داعي الإحسان إلى إيجاده.
(لم يعترض دونه ريث المتبطىء): الريث: هو التوقف في الأشياء، ومنه المثل: رب عجلة وهبت ريثاً، والمتبطئ هو: الذي يبطئ في فعله للأمور، ولا يستعجل فيها، وأراد أنه تعالى أسرعه إذعان أفعاله في الوجود، وقوة امتثالها في التحصيل، لم يعترض دون ذلك الإيجاد توقف الإبطاء.
(ولا أناة المتلكئ): الأناة: هو التأني، والتلكئ: هو التثاقل في الأمر والتأخر عنه، وأراد أن التأني والتثاقل لم يكونا معترضين دون سرعة الامتثال في إيجاد الأفعال.
(فأقام من الأشياء أودها): الأود: الاعوجاج، أي أقام اعوجاجها بالإحكام العجيب، والتركيب الأنيق الذي لايتطرق إليه التثبيج .
(ونهج حدودها): أوضح ما تحتاج إليه في ابتدائها ومنتهاها وما يصلح عليه أمرها.
(ولاءم بقدرته بين متضادها): وجمع بالقدر الباهرة التي من شأنه أن يستحقها بين ما كان منها متضاداً، وليس الغرض أنه تعالى جعل الضدين مجتمعين وهما متضادان، وإنما الغرض أنه جمعهما على الوجه الممكن الذي يسوِّغه العقل ويجوِّزه، فأما على خلاف ذلك فهو غير ممكن ولا مقدور، ولهذا فإنك ترى بنية الحيوان مركبة من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وترى العود فيه الماء والنار، وحبة الرمان فيها الحلاوة والحموضة، وورقة الورد فيها الحمرة والبياض، فجمعها على الوجه اللائق في العقل بعجيب قدرته.
(ووصل أسباب قرائنها): القرينة: هي النفس، وأراد وألَّف إليها ما تحتاج إليه من الأسباب، ووصلها بها لإتقانها وإحكامها.
(وفرقها أجناساً مختلفات): وجعلها أجناساً مختلفة.
(في الحدود والأقدار): الحد: غاية الشيء ونهايته التي يقف عندها، والأقدار: جمع قدر، كما قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }[الطلاق:3] وأراد أنه أحكم غاياتها وأتقن أصولها ومقاديرها.
(والغرائز والهيئات): الطبائع من اللين في الطبع والشرس والرقة والغلظ فيه، والهيئات في الألوان من السواد والبياض، والسمرة والحمرة وغير ذلك، كما قال تعالى: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ }[الروم:22].
(برايا): موجودون من براه إذا أوجده.
(خلائق): مقدرون بالإحكامات، وهما جمع برية وخليقة.
(أحكم صنعها): أحكم الله صنعتهم في تراكيبهم.
(وفطرها): أوجدها.
(على ما أراد ): على وفق إرادته ومشيئته.
(وأبدعها ): من غير شيء سابق كان هناك.
ثم تكلم في عجيب خلق السماء بقوله:
(ونظم بلاتعليق): أراد أنه أحكم نظامها ورفع سمكها من غير أن يجعل لها متعلقاً يمسكها من فوقها، ولا قراراً تعتمد عليه من تحتها.
(رهوات فرجها): الرهوة: هي المكان المرتفع والمنخفض، وهي من الأضداد، وأراد ها هنا المنخفض، أي وأحكم ما انخفض من فرجها بالتئامه بغيره.
(ووشج بينها وبين أزواجها):الوشيجة : هي عروق الشجرة المشتبكة، ويقال للقرابة: وشيجة لا شتباكها، وأراد أنه ألَّف بين السماوات وجعلها مزدوجة.
(ولاحم صدوع انفراجها): الملاحمة: الالتصاق، أي وألصق بعضها إلى بعض بحيث لا يوجد هناك انفصال فيها.
(وذلك للهابطين): من الملائكة النازلين منها.
(بأمره): بما يأمر من القبض والبسط، والإحياء والإماتة، والإهلاك والرحمة، وغير ذلك من الأقضية.
(والصاعدين منهم بأعمال خلقه): الموكلين بحفظ الأعمال خيرها وشرها.