(فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة): فتذهب منصوب على أنه جواب النهي، كقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }[هود:113] وذهب به إذا مرَّ به، وأراد أنكم إذا اتبعتم الرخص وانتحيتموها امَّحت أنوار الواجبات ، واندرست آثارها فحصلتم في ظلمة العذاب بذلك، فاستعار الظلمة من أجل ذلك.
(ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية): الإدهان هي: المصانعة، وهي: الرشوة، وفي المثل: من صانع المال لم يحتشم من طلب الحاجة، وأراد أن الرشوة تهجم بكم، أي تسرع بكم إلى الحكم بغير الحق فيكون إقداماً على المعصية من الراشي؛ لكونه أخذ ما ليس له، والمرتشي لكونه ظلم غيره وحكم بخلاف أمر الله وحكمه، وفي هذا دلالة على عظم موقع الرشوة في الدين وخطر المصانعة والإدهان.
(عباد الله، إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه): لأن مع الطاعة النجاة من النار، ولا نصح أعظم من ذلك لما فيه من الفوز برضاء الله ومجانبة عقابه.
(وإن أغشَّهم لنفسه أعصاهم لربه): لأن من غشَّ نفسه أسلس لها قيادها في اتباع هواها، ولا ضرر أعظم من ذلك لما فيه من الظفر بغضب الله وأليم عقابه.
(والمغبون من غبن نفسه): الغبن: الخدع، وغبنته إذا خدعته، وأراد أن المخدوع حقيقة من خدع نفسه؛ لأن من خدعه غيره فلومه يقل؛ لأنه ربما غرر في ذلك بكونه أدهى منه، فأما من غبن نفسه وخدعها بالأماني؛ فهو المغبون على الحقيقة.
(والمغبوط من سلم له دينه): الغبطة: هي الا سم من الاغتباط، وهي: عبارة عن حسن الحال، وأراد أن أحسن الناس حالاً في الدارين من سلم له دينه عما يشوبه.

(والسعيد من وعظ بغيره): يقال: سعد الرجل فهو سعيد، والسعادة هي خلاف الشقاوة، وأراد أن من وعظ بغيره فقد نفعته المواعظ ، فلهذا كان سعيداً، ومن كان موعظة لغيره فلا نفع له في ذلك.
(والشقي من انخدع لهواه وغروره): لأن الميل إلى الهوى والاغترار به فيه إهلاك النفس، كما قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41]، وقال تعالى: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }[لقمان:33] أراد الشيطان والنفس.
(واعلموا أن يسير الرياء شرك): لأن المرائي ليس عمله خالصاً لوجه الله تعالى، وإنما يفعل ما يفعله رضاءً للخلق، وطلباً لمحمدتهم، والثناء من جهتهم فلهذا كان مشركاً لغير الله في عمله، فإذا كان الشرك ظلماً عظيماً لارتبة فوقه من المعاصي الكبيرة، فخليق بما يدانيه ويقاربه أن يحذر منه.
(ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان): لأن مِلاَكَ الإيمان وحقيقته إنما تكون في مخالفة الهوى ومجانبته، وإذا كان الأمر كما قلناه كان مجالسة من كان متبعاً للهوى إبطالاً لمناره وهدماً لقواعده.
(ومحضرة الشيطان ): والمحضرة: مكان الحضور، أي أنها منزله ومكانه الذي يحضره وفيه يوجد.
(جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان): جانب الشيء إذا بَعُدَ عنه، وصار في جانب وهو في جانب آخر، وأراد أن الإيمان والكذب بينهما بُعْدٌ متفاوت لا يجتمعان بحال.
(الصادق على شفا منجاة وكرامة): الشفى من كل شيء حرفه ، قال الله تعالى: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ }[التوبة:109]، والمنجاة: النجاء، وأراد أن الصادق على طرف النجاة والكرامة بما أتى من الأفعال الحسنة.

(والكاذب على شرف مهواة ومهانة): المهواة: الحفير الذي يهوي فيه من وقع فيه، وأراد أن الكاذب قريب من الوقوع في المهواة، والسقوط فيها، ومهانة من العقلاء؛ لما ارتكبه من القبيح الذي يسقط صاحبه من منزلته، وفي المثل: الصدق نباهة، والكذب عاهة.
(ولا تحاسدوا، فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب): وأراد أن الحسد في إسقاط الحسنات وإحباطه لها شبيه بالنار في أخذها للحطب وإهلاكها له، وقد جاء عن الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم] هذا المعنى بلفظ آخر حيث قال: ((ما ذئبان ضاريان في زريبة أحدكم بأسرع من الحسد في حسنات المؤمن )) .
(لا تباغضوا فإنها الحالقة): الضمير في قوله: فإنها لهذه الخصلة والحال يدل عليها، والحالقة: اسم من أسماء الداهية، وقد جاء هذا المعنى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ آخر، حيث قال: ((قد دبَّ إليكم داء الأمم أما إني لا أقول: إنها الحالقة للشعر، وإنما هي الحالقة للدين: الحسد، والبغضاء)) .
(واعلموا أن الأمل يسهي العقل): سها عن الشيء إذا غفل عنه، وأراد أنه يغفل العقل عمَّا هو المقصود من أمر الآخرة؛ لأن الآمال إذا كانت طامحة على الأفئدة غلبتها لامحالة.
(وينسي الذكر): لأن المقصود إذا كان هو بلوغ الأمل أغفله ذلك عن كل شيء.
(فأكذبوا الأمل فإنه غرور): أي خديعة.
(وصاحبه مغرور): أي مخدوع.

(84) ومن خطبة له عليه السلام
(عباد الله): أيها الموصوف بالعبودية.
(إن من أحب عباد الله إلى الله عبداً أعانه الله على نفسه): المحبة من الله تعالى: هي إرادة النفع لصاحبها، ولا يتصور سوى ذلك، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة:54] أي يريد نفعهم، وأراد بالإعانة هي التقوية على مخالفة الهوى بفعل الألطاف الخفية من أجله.
(فاستشعر الحزن): أي جعله له شعاراً، وهو أخص من الدثار.
(وتجلبب الخوف): أي جعله له جلباباً، والجلباب: ضرب من الثياب.
(فزهر مصباح الهدى في قلبه): أي توقد، وهو استعارة لما يظهر من حاله من الإيمان، واطمئنانه به ، وانشراح صدره بسببه.
(وأعدَّ القِرَى ليومه النازل به): أراد أنه أعدَّ الأعمال الصالحة لليوم الذي ينزل عليه فيه الموت، فهو في راحة ومسرة بملاقاة ذلك والبشارة به .
(فقرَّب على نفسه البعيد): فقصر آماله البعيدة بما كان منه من استشعار الموت وحضور وقته.
(وهوَّن الشديد): واستهون ما يكابد من الشدائد في الدنيا، بأن قرر في خاطره انقطاعها وزوالها.
(ونظر): بقلبه وتفكر في حاله.
(فأبصر): فأصاب البصيرة في دينه وعاقبة أمره.
(وذكر): الموت وأحوال الآخرة وأهوالها.
(فاستكثر): من التزود لتلك الأهوال بما يدفعها ويزيلها عنه.
(وارتوى من عذب فرات): العذب: الخالص من الملوحة، والفرات: الطيب، واستعارذلك لما يحصل له من الاهتداء بالأدلة، واقتفاء آثارها، والاقتداء بِعَلَمِهَا ومنارها.
(سُهِّلت موارده): المورد: الذي يؤخذ منه الماء، وأراد أوضحت أعلامه وحججه وبراهينه.

(فشرب نهلاً): النهل هو: الشرب الأول، وإنما خصه بالذكر دون العلل وهو الشرب الثاني لما فيه من تطفئة نيران العطش، وتسكين حركته في أول وهلة، بخلاف الشرب الثاني فليس له ذلك الموقع.
(وسلك سبيلاً جدداً): الجدد: هي الأرض الصلبة، وفي المثل: من سلك الجدد أمن من العثار، وأراد ها هنا الطريق المستقيم على الحق.
(فقطع سرابيل الشهوات) : أراد علائق ما تشتهيه النفس وتدعو إليه، واستعار السرابيل لذلك.
(وتخَّلى من الهموم): أزالها عن قلبه، وترك الشغل بها.
(إلا هماً واحداً): وهو خوف الله، والإقبال على الآخرة، والعمل لها.
(انفرد به): تخلّى له، وأقبل عليه.
(فخرج عن صفة أهل العمى): بما كان من إعراضه عما يعمي القلوب عن ذكر الله وخوفه من أمور الدنيا.
(ومشاركة أهل الهوى): وخرج عن أن يكون مشاركاً لمن كان متبعاً لهواه.
(وصار): لما كان بهذه الحالة، واتصافه بهذه الصفة.
(من مفاتيح أبواب الهدى): التي أغلقت على غيره.
(ومغاليق أبواب الردى): وهذا من أنواع البديع يسمى الطباق؛ وهو أن يذكر الضدين جميعاً، وقد ورد في كلام الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم ] ما يلائم هذا المعنى، حيث قال: ((هنيئاً لمن جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر )) .
(قد أبصر سبيله): استبصر في أمر دينه.
(وسلك طريقه): التي أمر باتباعها.
(وعرف مناره): المنار: علم الطريق فأمَّه وقصده.

(وقطع غِماره): حتى بلغه ووصل إليه، والضمير للمنار ها هنا، وما قبله من الضمائر راجع إلى المذكور في أول الكلام، والغمِار بكسر الفاء لايكون إلا جمعاً، يقال: بحر غمر، وبحار غِمار، وبفتحها وضمها يكون مفرداً، [و] يقال: قطعت غَمار الناس وغُمارهم، أي كثرتهم، فقوله: غِماره، يصلح أن يكون مفرداً أومجموعاً، وروايتنا فيه بكسر الفاء على الجمع.
(واستمسك من العرى بأوثقها): وهي عروة الدين التي لا انفصام لها.
(ومن الحبال بأمتنها): أقواها لحصافته وهو أمرالدين، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا }[آل عمران:103].
(فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس): أراد فهو من البصيرة والتحقق، لما هو فيه من أمر الديانة، وانشراح الصدر، واطمئنان النفس، على قطع كقطعه بنور الشمس وتحققه له.
(قد نصب نفسه لله): وضعها.
(في أرفع الأمور): أعلاها وأحمدها وهو خوف الله وتقواه.
(من إصدار كل وارد عليه): من الشبهات في أمرالدين بردِّه وحلَّه، أو مما يلج في الخاطر من وسواس الشيطان وخياله.
(وتصيير كل فرع إلى أصله): ووضع كل شيء في موضعه، كما هو من شأن العقلاء.
ويحكى عن الإمام زيد بن علي أنه قيل له: صف لنا العاقل؟
فقال: هو الذي يضع الأشياء مواضعها.
فقالوا له: صف لنا الجاهل؟
فقال: قد فعلت.
(مصباح ظلمات): بنور علمه.
(كشَّاف عشوات): ناقة عشواء إذا كانت سيئة البصر، وأراد أنه رافع لكل عشوة.
(مفتاح مبهمات): وهو ما كان ملتبساً من أمورالدين.
(دفاع معضلات): أعضل الأمر إذا اشتد، وأراد أنه دافع للشدائد بصواب رأيه.

(دليل فلوات): الفلاة هو: المفازة الخالية، والقفر المنقطع، وأراد أنه خبير بطرق السلامة، والسبل المؤدية إلى الجنة، فاستعار ذلك له.
(يقول): يتكلم بكلامه.
(فيُفْهمُ): فينفع الله بكلامه من سمعه منه.
(ويسكت): عن الكلام الذي لاخيرفيه ولا فائدة تحته.
(فيسلم): عن وزره وإثمه.
(فهو من معادن دينه): جوهرها الصافي.
(وأوتاد أرضه): ومن أوتادها أقواها وأوثقها ، مثَّله بذلك لما يظهر من صفاء قلبه، ووثاقته في الدين وصلابته فيه.
(قد ألزم نفسه العدل): الإنصاف في جميع الأمور كلها، وألا يحيف في قول ولا فعل.
(فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه): فكان إنصافه إزالة الهوى؛ وهو كل ما تحبه النفس وتريده فذلك هو أول التوفيق من الله.
(قد أخلص لله): بالأعمال الصالحة.
(فاستخلصه): بإمداده بأنوا ع التوفيقات، كما قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ذِكْرَى الدَّارِ] }[ص:46].
(يصف الحق): بلسانه.
(ويعمل به): أراد ويطابق فعله قوله.
(لا يدع للخير غاية): للأعمال الصالحة طريقاً من طرقها.
(إلا أمَّها): قصدها وتبعها، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }[البقرة:148].
(ولا مظنة إلا قصدها): المظنة: موضع الشيء ومألفه الذي يظن كونه فيه، وروايتنا فيه بكسر الفاء، وهو مخالف لقياس بابه في الفتح.
(قد أمكن الكتاب من زمامه): فهو يقوده إلى الجنة، كما قال صلى الله عليه: ((من جعله أمامه قاده إلى الجنة )) .
(فهو قائده وإمامه): إلى كل خير.
(يحل حيث حل ثَقَلُهُ): الثَّقَلُ بوزن جَبَل ، هو: متاع المسافر وأثاثه، وأراد بالثقل أحكام القرآن وما تدل عليه من التكاليف الشاقة فلهذا سماها ثقلاً.

(وينزل حيث كان منزله): وغرضه في ذلك هو أنه موافق للقرآن في جميع أحواله وأموره.
(وآخر): أي ورجل آخر غير من ذكره.
(قد تسمى عالماً): أُطلق عليه هذا الوصف.
(وليس به): أي وليس الأمر كما زعم.
(فاقتبس): أي أخذ، من قولهم: اقتبس ناراً.
(جهائل): جمع جهالة مثل حمامة وحمائم.
(من جهَّال): من أقوام جاهلين.
(وأضاليل): جمع لا واحد له من لفظه، وفي التقدير كأنه جمع لإضليلة، لأن فعالة لاتجمع على أفاعيل، وإنما هو جمع لأفعال كأنعام وأناعيم.
(من ضلاَّل): من أقوام ضلَّوا عن الطريق.
(نصب للناس أشراكاً): الشَّرَكُ: ما يصطاد به.
(من حبال غرور): بسطها لهم ليقعوا فيها.
(وأقوال زور): قد زخرفها وزينها لهم ليغتروا بها.
(قد حمل الكتاب على رأيه): على مذاهبه الباطلة.
(وعطف الحق على أهوائه ): ردَّه عن مجراه الذي كان جارياً فيه على ما يوافق أهويته الفاسدة الحائدة عن الحق.
(يؤم العظائم): يؤم المخوفات العظيمة من القبائح.
(ويهون كبيرالجرائم): ويصغر ما كان من الأفعال المجترمة كبيراً ليكون مرتكباً لها.
(يقول:): بلسانه.
(أقف عند الشبهات): أحجم عن فعلها وارتكابها.
(وفيها وقع): أي تمكن واستقر.
(ويقول:): نطقاً بلسانه.
(أعتزل البدع ): أجانبها.
(وبينها اضطجع): أي وبين جوانبها كان مضطجعه ومستقر نومته.
(فالصورة صورة إنسان): لما فيه من التركبة الآدمية، وتأليف الصنعة الإنسانية.
(والقلب قلب حيوان): أراد قلب البهائم التي لاعقل لها ولا تمييز.
(لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه): أراد أن من هذه حاله فهو في حيرة من أمره، وضلال من رأيه، لا يدري أين الخير والشر لاستبهام الأمور عليه كلها لجهالته وعمى رأيه.

(فذلك ميت الأحياء): أراد فذلك الذي يعد ميتاً وهو من جملة الأحياء، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}[الأنعام:122]، ولقد صدق من قال :
ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ ... إنَّما الميتُ ميِّتُ الأحياءِ
(فأين تذهبون؟): عن طرق الحق أو عن هذه المواعظ الشافية.
(وأنى تؤفكون؟): تصرفون عن المسالك الواضحة.
(والأعلام قائمة): مستقيمة، لا يلحقها اضطراب.
(والآيات واضحة): جلية بينة لمن استوضح أمرها.
(والمنار منصوبة): هو علم الطريق، وإنما أنَّثه حملاً على معناه، وأراد به الطريقة .
(فأين يتاه بكم!): تاه إذا ذهب متحيراً في أمره.
(بل كيف تعمهون!): تترددون.
(وبين أظهركم عترة نبيكم): عترة الرجل هم: أقاربه الأدنون منه، بالقرب منكم مشبَّه بحال من يلي ظهرك في القرب والدنو.
(وهم أَزِمَّةُ الحق): يتمسك به الخلق فينجون بإمساكه.
(وألسنة الصدق): فيتكلمون به.
(فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن): أراد أحلَّوهم في أحسن المحالِّ التي أحلهم القرآن فيها، وهو قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23] فالله تعالى أحلهم هذا المحل، وهو البعث على مودتهم وموالاتهم.
(وردوهم ورد الهيم العطاش): أراد وتعلموا منهم تعلم جاهل من عالم، شبههم بالمورد، وشبه من يأخذ منهم بالإبل الهائمة من شدة العطش؛ لما يعتريها من الهيام.

(أيها الناس، خذوها عن خاتم النبيين): الضمير في قوله: خذوها، أي هذه الكلمة وهو ما قلته في حق العترة، أوخذوا هذه الموعظة فإني مبلغها عن الرسول صلى الله عليه وآله.
(إنه يموت منّا من يموت وليس بميت): أراد أنه وإن مات فإن ما بعده من الآثار من العلوم والسير الصالحة التي يقتدى بها باقية بعده فهو حي ما دامت حية في أثره.
(ويبلى منّا من يبلى وليس ببال): لأن آ ثاره غضة طرية لا تخلق أبداً.
(فلا تقولوا): من أفواهكم بألسنتكم.
(ما لا تعرفون): حقيقة حاله بقلوبكم.
(فإن أكثر الحق فيما تنكرون): وهذا ظاهر، فإن الحق كله في مخالفة الأهواء، فلا جرم أنكرته الطباع لمخالفته لها، وأراد بهذا الكلام الإنكار على من جحد فضل العترة وأنكره.
(واعذروا من لاحجة لكم عليه): عذره إذا جعل له عذراً، وأعذره إذا صار ذا عذر عنده، واعتذر إليه إذا مهد إليه عذره، وتعذر منه واستعذر إذا لم يسعف بحاجته، والمعنى في هذا واجعلوا لي عذراً عند أنفسكم فإنه لا حجة لكم على من أنصف الحق من نفسه، وبذل الحق من عنده.
(وهو أنا): ومصداق ما قلته من وجوب الحجة لي عليكم، وزوال عذركم هو ما أقوله الآن.
(ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر‍! وأترك فيكم الثقل الأصغر!): أشار بذلك إلى قول الرسول عليه السلام: ((إني تارك فيكم الثقلين، فالثقل الأكبر هو كتاب الله، والثقل الأصغر هم العترة )) وإنما سميا ثقلين؛ لما تضمناه من أثقال التكاليف وتحمل أعبائها، وأراد أن سيرتي فيكم مطابقة لحكم كتاب الله، وجعلت أولادي الذين هم أولاد الرسول وعترته خلفاً عليكم بعدي.

44 / 194
ع
En
A+
A-