أراد أن الشيطان إذا استحكم أغواه وظفر بما رجا منهم.
(أنكر مازين): حجد ما فعل من التزيين من الأفعال القبيحة.
(واستعظم ما هوَّن): من الكفر بالله والتكذيب برسله.
(وحذّر ما أمَّن): وخوّف ما كان قد أمنّهم منه وهو العقاب، وذلك إنما يكون منه إما في القيامة، وإما بعد الفراغ من المعصية، كما حكى الله تعالى عنه في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ...}إلى آخر الآية[إبراهيم:22].
(أم هذا الإنسان): أم هذه هي المنقطعة، وهي بمعنى بل، وأراد بل هذا، وهو إعراض عن الكلام الأول والتفات إلى كلام آخر، ويرد في الاستفهام كقولك: أزيد عندك أم بكر في الدار، وفي الخبر كقوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ }[الزخرف:52] وكما وقعت في كلامه هذا، والمعنى بل انظروا في أعجب من هذا كله وهو خلق الإ نسان فإن فيه من لطائف الحكمة وعجائب الصنعة، ما تقصر [عن] حصر أسراره، وإدراك معانيه القوى البشرية، وعنى بالإنسان هو هذا المدرك علىهذه الصفة الصورة المخصوصة المعبر عنه بأنا وأنت، وهو خلاف لما يزعمه الفلاسفة من أن الإنسان هو أمر آخر مغاير لهذه البنية ليس جسماً ولا عرضاً، وقد ذكرنا كلامهم في الكتب العقلية ورددنا عليهم هذه المقالة، ونصرنا ما عوّل عليه علماء الدين من أهل الإسلام والحمدلله.
(الذي أنشأه): ابتدأه واخترعه.
(في ظلمات الأرحام): أراد بذلك خلق بني آدم، وإنما لم يذكر ابتداء خلقه آدم [ عليه السلام] ؛ لأنه قد ذكره في خطبة قبل هذه قد مرت وشرحنا كلامه هناك، فلهذا لم نكرره وشرع في وصف خلقه الآدميين والظلمات هي ثلاث كما قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ }[الزمر:6]: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وهي التي تكون فيها الأجنة.
(وشغف الأستار): الشغف: جمع شغاف وهي: حجاب القلب، وأراد والشغف الساترة له.
(نطفة): منياً مصبوباً في الرحم.
(دهاقاً): دهقت الماء وأدهقته إذا أفر غته بشدة وعنف، وأراد بذلك سرعة انصباب الماء في الرحم، كما قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ }[الطارق:6] يشير إلى ذلك.
(وعلقة): ثم كان بعد النطفة علقة نحيفة صلبة ، وهو الطور الثاني من أطوار الخلقة.
(محاقاً): ممحقة متلاشية، أخذاً لها من محاق الهلال، قال أبو عمرو بن العلاء: الامحاق أن يهلك الشيء كمحاق الهلال ، والرواية فيه بضم الميم وكسرها .
(وجنيناً): حاصلاً في البطن ومستتراً به.
(وراضعاً): ومتلقماً لثدي أمه يغتذي به.
(ووليداً): مولوداً على وجه الأرض.
(ويافعاً): مرتفعاً عن سن الطفولية، من قولهم: غلام يافع ويفعة إذا كان مرتفعاً.
سؤال؛ أراه ها هنالم يذكر أطوار الخلقة الإنسانية كما ذكرها الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً...}[المؤمنون:12-14]إلى آخر الأطوار التي ذكرها، واقتصر ها هنا على ذكر بعضها؟
وجوابه؛ هو أنه عليه السلام اقتصر على ذكر طرفين منها واضحين، فيهما دلالة على كمال القدرة وعجيب الحكمة، فذكر:
الطور الأول: وهو كونه نطفة وعلقة، ثم الطور الثاني : وهو كونه غلاماً يَفَعَة ، وفيهما تنبيه على ما بينهما من الوسائط، كما قال تعالى في آية أخرى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ }[الأنعام:99] فذكر طرفين وأهمل ذكر ما بينهما من هذه الوسائط منبهاً عليها بذلك.
(ثم منحه): أعطاه على سبيل الهبة.
(قلباً حافظاً): يحفظ ما أودع فيه من العلوم الحكمية والأنظار الفكرية.
(ولساناً لافظاً ): ولحمة يتكلم بها، وجعل فيها ثلاثين مخرجاً لهذه الأحرف ينفث السحر بها، ويلتقط الدر من أجلها، ويصوغ بها ديباج الكلام وحلله.
(وبصراً لاحظاً): اللحظ هو: حركة العين، يقال: لحظه بعينه إذا صوَّب حدقته نحوه.
(ليفهم معتبراً): ليكون فاهماً على جهة الاعتبار والتذكر لمن سلف قبله.
(ويقصِّر مزدجراً): وينقِّص عن التسوفات التي تدعو إليها النفس على جهة الانكفاف، والازدجار بالوعيدات الشرعية، فقد ركَّبه الله تعالى على هذه الخلقة، وأنشأه في هذه الأطوارليكون مزدجراً معتبراً.
(حتى إذا أقام اعتداله): سوَّى تركيبه وعدله، كما قال تعالى: {فَعَدَّلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ }[الإنفطار:7-8].
(واستوى مثاله): أي شبحه وتمثلت صورته، كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين:4].
(نفر مستكبراً): أدبر على جهة الاستكبار طالباً للتكبر والعلو.
(وخبط سادراً): السادر هو: الذي لايبالي بما صنع، وأراد أنه مشى من غير التفات متبختراً مختالاً.
(ماتحاً في غرب هواه): الماتح هو: الذي ينزع الماء، والغرب هو: الدلو العظيمة، وأراد أنه منكب على متابعة هواه ومنقاداً له.
(كادحاً سعياً لدنياه): الكدح هو: العمل بجد ومشقة على النفس، وأراد أنه يكدح طلباً للدنيا من غير احتفال بالآخرة، وانتصاب سعياً إما مفعول له أي من أجل السعي للدنيا، وإما على الحال أي ساعياً.
(في لذات طربه): أي أنه يدأب في تحصيل شهواته وإنفاذ أغراضه وحاجاته.
(وبدوات أربه): وما يبدو من أوطاره ومراداته.
(ثم لا يحتسب رزية): ثم مع ذلك لايحتفل بما يرزأه من فوات دينه، ولا يلتفت إلى وقوع الرزايا التي تفزعه لانهماكه في لذاته.
(ولا يخشع تقية): ولا يلين قلبه إتقاء لله تعالى وخوفاً منه، فبعد هذه الحالات وإعراضه عن جميع ما يلحقه من التبعات.
(فمات في فتنته غريراً): في هذه الحالات التي افتتن بها غافلاً مغتراً عما لا يعذر في الغفلة عنه.
(وعاش في هفوته يسيراً): وأقام في الحياة على هذه السقطة التي غبن فيها أياماً قليلاً ومدة يسيرة.
(لم يُفِد عوضاً): لم يحرز عوض ما فات عنه من أعمال الآخرة بما كان منه من تعجيل طيبات الدنيا.
(ولم يقض مفترضاً): ولم يؤدّ ما افترض الله تعالى من هذه الواجبات.
(دهمته فجَعَاتُ المنية): فاجأته فجائع الموت، وهو ما يحسُّه الإنسان عند تحققه بخروج نفسه، وفجعات: جمع فجعة.
(في غبَّر جماحه): الغبَّر هو: بقايا الشيء، يقال: غبَّر الحيض وغبِّر المرض أي بقاياه، وأراد أنها أتته الفجائع بالموت وهو على بقية من جماحه، وجمح الفرس جموحاً إذا غلب صاحبه على رأسه، والجموح من الرجال هو: الذي يركب هواه فلا يمكن رده عنه، قال الشاعر:
خَلَعْتُ عِذاري جامحاً ما يردّني
عن البيضِ أمثال الدُّمى زَجْرُ زَاجِرِ
(وسَنَنِ مراحه): المرح هو: شدة الفرح والنشاط، والسنن هو: الوجه والطريقة، يقال: امض على سَنَنَكِ أي على وجهك وطريقتك التي أنت عليها، وأراد على طريقته في الفرح والنشاط.
(فظل سادراً): أي أقام على ما هوعليه من غير التفات ولامبالاة.
(وبات ساهراً في غمرات الآلام): قد زال نومه مما اعتراه مما يغمره من شدة ما يلم به من الأوجاع والأوصاب.
(وطوارق الأوجاع والأسقام): الطوراق هي: التي تطرق الإنسان أي تأتيه، أخذاً من قولهم: أتانا طروقاً إذا أتى بالليل.
وفي الحديث: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي الرجل أهله طرقاً وطروقاً )) أي بالليل من غير شعوربه، وأراد مايأتي من حوادث الأمراض والبلايا.
(بين أخ شقيق): إنما قيل للأخ: شقيق لأنه هو وأخوه اشتقا من أصل واحد، وهو الأب والأم.
(ووالد وولد شفيق): مشفق عليه من الموت أن يناله.
(وداعية بالويل جزعاً): تقول: ياويلها! ياويلها! أي احضر ياويل فهذا أوانك، كل ذلك من أجل الجزع مما أصابها من ذلك.
(ولا دمة للصدر قلقاً): اللدم هو: ضرب الوجه بالكف، قلقاً أي فشلاً مما يفزع من المصيبة، وقد يكون للصدر وهو أهون، وفي حديث عائشة: فمن حداثة سني أني تركت رسول الله مسجى، وطفقت ألتدم مع النساء .
(والمرء في سكرة ملهية ): أراد الإنسان الذي وصف حاله في سكرة الموت التي ألهته عن كل شيء أراده.
(وغمرة كارثة): الغمرة: ما يغمر الفؤاد من شدة الوجع، والكارثة: الشديدة.
(وأنة موجعة): الأنة: الواحدة من الأنين، الموجعة: ذات الوجع الدالة عليه.
(وجذبة مكربة): من جذبه إذا أخذه بعنف وشدة، مكربة أي مانعة للنَفَس عن أن يجري، أخذاً من قولهم: كربت الدلو، إذا ضيقت رأسها بالحبل وأوثقتها به.
(وسوقة متعبة): أي مؤلمة، مثل بحال من يسوقه من خلفه سوقاً عنيفاً بشدة وخشونة.
(ثم أدرج في أكفانه): اشتقاقاً من الدّرَج الذي يكتب فيه؛ لأنه يطوى في أكفانه ويضم عليه كالكتاب إذا طوي، وأدرج بعضه في بعض.
(مبلساً): أي ساكتاً لاينطق قد ختم علىفيْه، من قولهم: أبلس الرجل إذا سكت ولم ينطق.
(وجُذِبَ منقاداً سلساً): أخذ بزمامه سلس القياد ، لا يعاصي من يقوده ولا يخالفه.
(ثم ألقي على الأعواد): وضع على السرير منعوشاً عليه.
(رجيع وصب): أي ينقل من وطنه الذي كان فيه في الدنيا إلى وصب آخر، والرجيع من الدواب: ما يرجع به من سفر إلى سفر آخر وهو الكالُّ .
(ونضو سقم): النضو هو: البعير المهزول، وأراد أنه أنضاه السقم أي أتعبه.
(تحمله حفدة الولدان): الحفدة: جمع حافد وهم أولاد الأولاد.
(وحشدة الإخوان): جماعة المحبين له والصادقين في مودته.
(إلى دار غربته): إلى موضع فظيع يكون فيه غريباً لانقطاع الأهل عنه، أو لأنه لم يسكنها قط مرة أخرى غير هذه.
(ومنقطع زورته ): أي أن زيارته منقطعة فلا يزار كما يزار الأحياء بالبشاشة والمودة.
(حتى إذا انصرف المشيع): الذي يواليه ويصاحبه، من قولهم: شايعه على أمره إذا والاه عليه.
(ورجع المتفجع): عليه من دفنه.
(أقعد في حفرته): في موضع قبره الذي حفر من أجله.
(نجياً): إما ذو نجوى، وإما مناجياً، وانتصابه على الحال من الضمير في أقعد.
(لبهتة السؤال): بهته بهتاً أي أخذه بغتة، قال الله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ }[الأنبياء:40]، قال الشاعر:
وما هو إلا أن أُرَاها فجاءة
فأبهتُ حتى لا أكادُ أجيبُ
وأراد ما يلحقه عند السؤال من الدهشة والتحير وضيق المسلك.
(وعثرة الا متحان): وما يكون من العثار عند الامتحان بالمسآلة، ولهذا يقال: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، لما يلحق ذلك من ضيق المجال، وارتعاد الفرائص.
(وأعظم ما هنالك بلية): أي وأعظم مماذكرناه ووصفناه من البلايا والفجائع.
(نزل الحميم): النزل: ما يهيأ للضيف عند قدومه من الطعام، واستعاره هاهنا لما يكون من تقديم العقاب .
(وتصلية الجحيم): صليت الرجل وأصليته ناراً إذا أدخلته فيها، وتصلية مصدر صلى يصليه مثل عرى يعريه، وأراد إدخاله الجحيم.
(وفورات السعير ): فار القدر يفور فوراً إذا غلى واشتد غليانه، وأراد نزواتها عند حميها ووقودها.
(لا فترة مريحة): لا يفتر عليهم العذاب فيستريحوا أوقات الفترة، كما قال تعالى: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }[الزخرف:75].
(ولا دعة مزيحة): الدعة هي: السكون في الراحة، يقال: هو في دعة وخفض عيش، مزيحة بالزاي أي تزيح [عنهم] العذاب وتزيله عنهم.
(ولا قوة حاجزة): ولا قوة تحجزهم عمَّا هم فيه من العذاب وانتصار عنه .
(ولا موتة ناجزة): نجز الشيء إذا فرغ وتقضى، ومنه إنجاز الوعد وهو حصول وقته، وأراد ولا موتة مفروغ عنها.
(ولا سِنَة مسلَّية): السِنْةُ هي: النوم، وأراد ولانوم هناك يسلي عنهم ما هم فيه من مقاساة العذاب ومعاناته.
(بين أطوار الموتات): الطور بعد الطور أي حالة بعد حالة، كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }[نوح:14] أي قرن بعد قرن في حالة بعد حالة، ووقت بعد وقت.
(وعذاب الساعات): أي ما تنقضي ساعة إلا ويتلوها ساعة أخرى، ولا يزول وقت إلا ويتبعه وقت آخر، إلى غير غاية من الأبد وعذاب السرمد.
(إنا لله عائذون): عذت بفلان واستعذت به، إذالجأت إليه واستجرت به.
سوأل؛ الاستعاذة معداة بالباء، كقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ }[الأعراف:200] و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }[الفلق:1]، و{بِرَبِّ النَّاسِ }[الناس:1] وغير ذلك فأراه ها هنا عداه باللام، وما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن اللام ليست في لله متعلقة بعائذون، وإنما متعلقها محذوف تقديره: إنا مملوكون أو عبيد لله وعائذون به من عذابه، ويكون عائذون محمولاً على مستسلمين لله منقادين لحكمه، والأول أولى، كما حمل قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] [على] مننت فعدي بحرف الجر.
(عباد الله): الموصوفين بالعبودية لله تعالى.
([أين] الذين عُمِّروا): في الدنيا.
(فنعموا): في لذاتها ونعيمها.
(وعُلِّمُوا): ما علمهم الله من الأحكام والشرائع.
(ففهموا): فتحققوا عن الله ما عرفهم به.
(وأنظروا): من النظرة، وهي: امتداد الوقت وفسحته.
(فلهوا): غفلوا عمَّا يراد منهم من أجل ما مدَّ لهم في الآجال.
(وسُلِّمُوا): عن الأوصاب والأسقام، وضروب النقمات التي كانت نازلة على الأمم الماضية، والقرون الخالية قبلهم.
(فنسوا).
(أُمهلوا طويلاً): بما فسح لهم في الآجال ومُدَّ لهم في الأعمار.
(ومُنحوا جميلاً): أعطوا شيئاً جميلاً من ضروب النعم وعظائمها.
(وحُذِّورا): خوفوا بما قرر في عقولهم، وبما وصلهم من الوعيدات الشرعية.
(أليماً): وهو العذاب المؤلم الموجع البالغ كل غاية في الألم.
(وَوُعِدُوا): بما قرر في عقولهم وبما وصل إليهم من المواعيد الشرعية.
(جسيماً!): أي بالغاً في الفخامة كل مبلغ.
(احذروا الذنوب المورطة): الورطة هي: الهلاك، وأصل الورطة هي: الأرض المطينة التي لا طريق بها ، وأذنب الرجل أي أساء في فعله، وأراد أخوفكم من الذنوب المهلكة لصاحبها.
(والعيوب المسخطة): العيب والعيبة والعاب والمعابة كلها بمعنى واحد، وهي: الرداءة والفساد، قال الشاعر:
أنا الرجلُ الذي قد عبتُمُوه
وما فيه لعيَّاب مَعَابُ
والسخط خلاف الرضى، وأراد إياكم والقبائح التي تسخط الله وتنزل بكم عذابه.
(يا أولي الأبصار والأسماع): أراد يا أهل الحواس السليمة والعقول الصحيحة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا }[الأحقاف:26] على جهة الاحتجاج عليهم بذلك وقطع معذرتهم.
(والعافية والمتاع): أراد يا أصحاب المعافاة من العلل والأوجاع المانعة من الطاعات، والمتاع: كلما تمتعت به في الدنيا، قال الشاعر:
تَمَتَّعْ يا مشعَّث إنّ شيئاً ... سَبقْتَ به المماتَ هو المتاعُ
وكما قال تعالى: {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا }[القصص:60].
(هل من مناص أو خلاص): النوص هو: التأخر، وقوله: {وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }[ص:3] أي لاوقت للتأخر، ولا خلاص عن ما كان في الآخرة من الأمور المستحقة.
(أو معاذ أوملاذ): يعاذ أو يلاذ به من شدة تلك الأهوال.
(أو فرار أو محار!): أو شيء يستفرُّ فيه، والمحار: ما يرجع إليه، من حار إذا رجع، كما قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ }[الإنشقاق:14] أي يرجع.
(أم لا؟): أم هذه هي المنقطعة، وهي بمعنى بل، والمعنى بل لاشيء من هذه الأمور أصلاً.
(فأنى تؤفكون): الإفك هو: الكذب، قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }[الجاثية:7] والإفك: الصرف عن الشيء، قال الله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }[الذاريات:9] وأراد من أي جهة يأتيكم الصرف عن سماع هذه المواعظ والانتفاع بها.
(أم أين تصرفون!): بل من أي مكان حصل لكم الميل عنها والإعراض.
(أم بماذا تغترون!): بل أي شيء يغركم في هذه الدنيا، وإدراك حقيقتها ومتاعها القليل المنقطع.
(وإنما حظ أحد كم من الأرض): نصيبه.
(ذات الطول والعرض): على سعة طولها وعرضها.
(قيدُ قَدِّه): القدُّ: القامة، وأراد قدر قامته وشكله.
(متعفراً على خده!): العفر هو: التراب، وأراد معفراً بالتراب واقعاً عليه على خده.
(الآن عباد الله): الآن عبارة عن الوقت الحاضر، وأراد اتعظوا الآن فإن ما مضى قد فات، لا رجوع له بحال.
(والخناق مهمل ): أراد وحبل الخناق وهو الموت مهمل منبوذ لما كان في الآجال بقية وامتداد.
(والروح مرسل): عن القبض، يأمر الملائكة بقبضه .
(في فينة الإرشاد): الفينة: الحين، وفي الحديث: ((لايزال المؤمن يواقع الذنب الفينة بعد الفينة )) وأراد في وقت إصلاح الأحوال بالإرشاد لها إلى نجاتها.
(وراحة الأجساد ): أراد وقت حياتها وتصرفها على الدنيا.
(ومهل البقية): أمهله إذا أبقاه مدة، وأراد في مدة الإبقاء وهي: زمان الحياة.