(76) [ومن كلمات كان عليه السلام يدعو بها]
(اللَّهُمَّ، اغفر لي ما أنت أعلم به من‍ي): أراد أن الله تعالى محيط بجميع الصغائر والكبائر والسر والعلانية بحيث لا تخفى عليه خافية، فسأله غفران ما هو عالم [به] ليكون عاماً شاملاً، وهذا مبالغة في الدعاء وتضرع.
(فإن عدت): في الذنب جهلاً فيما يتوجه من حقك وغروراً من النفس.
(فعد لي بالمغفرة): إحساناً من عندك، وتفضلاً من جودك.
(اللَّهُمَّ، اغفر لي ما وأيت من نفسي): وأى إذا وعد، وأراد طلب المغفرة لما وعده من الإقلاع عنه، والتوبة منه.
(ولم تجد له وفاء عندي): أراد أني قد خالفت فيما وعدت، وعدت إليه مرة ثانية فاغفر لي.
(اللَّهُمَّ، اغفر لي ما تقربت به إليك): من فعل الطاعات وأنواع القرب والعبادات.
(ثم خالفه قلب‍ي): إما بالشهوة والغفلة فيه أو في بغضه عن أن يكون مفعولاً لوجهك، وإما بالقصور عما تستحقه من التعظيم والجلال اللذين يجبان على من كان موصوفاً بالعبودية.
(اللَّهُمَّ، اغفر لي رمزات الألحاظ): الألحاظ: جمع لحظ ولَحَاظ بالفتح هو: النظر بمؤخر العين، والرمز هو: الإشارة بالشفتين والحاجب، وأراد اغفر ما لا يطلع عليه لدقته إلا أنت، كقوله تعالى : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }[غافر:19].
(وسقطات الألفاظ): وما يسقط من رديء القول وخطأه وزلله.
(وشهوات الجنان): وما يشتهيه الجنان وهو القلب مما يكون مخالفاً لأمرك.
(وهفوات اللسان): الهفوة: الزلة، وهفوات اللسان زلاته في منطقه، اللَّهُمَّ، استجب له دعاءه وأدخلنا [فيه] برحمتك.

(77) ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه لما عزم على المسير إل‍ى الخوارج،
فقال له : يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال عليه السلام:
(أتزعم أنك تهدي إلى الساعة): تدل عليها وترشد إلى طريقها.
(الت‍ي من سار فيها صرف عنه السوء): جنِّب المكروه وصرف عنه ما يسوؤه .
(وتخوِّف الساعة ): وتحذر الوقت.
(الذي من سار فيه حاق به الضر): أي أحاط به ما يضره من المكروه.
(فمن صدقك في هذا ): الإشارة إلى ما سبق من القول في إسناد النفع والضر إلى النجوم.
(فقد كذّب القرآن): لأن القرآن دال بصرائحه ونصوصه على أن كل ما نزل من السماء من نفع وضر فهو من جهة الله تعالى وقضائه وتقديره وبلائه، فخلاف ذلك يكون تكذيباً ورداً.
(واستغناء عن الا ستعانة بالله في نيل المحبوب، ودفع المكروه): لأن هذه الأمور كلها من النفع والضر إذا كانت مضافة إلى تأثير النجوم، والعقول والأفلاك السماوية، وحصولها من جهتها على جهة الإيجاب فلا حاجة بنا إلى الاستعانة بالله تعالى في ذلك ولا إلى طلب الألطاف من جهته.
(وينبغي في قولك هذا): فيما زعمته من تأثير هذه النجوم.
(للعامل بأمرك): بالذي أمرته، وقلت له به.
(أن يوليك الحمد دون ربه): أن يعطيك جميع المحامد من العبادة والشكر.
(لأنك زعمت أنك هديته إلى الساعة الت‍ي نال فيها النفع وأمن من الضر ): فوجب له ذلك جزاء على ما فعله معك من الإحسان بدلالته لك على اكتساب النفع، ودفع الضرر.

(أيها الناس، إياكم وتعلُّم علم النجوم): تحذيراً عن ذلك لما فيه من الضرر على الأديان الإلهية، ويدخل شكاً في التوحيد بإثبات إله آخر مدبر معبود، كما هو مذهب الصابئة وأهل النجوم .
(إلا ما يُهْتدى به في بر أو بحر): فإن ما هذا حاله فلا بأس بمعرفة أحواله، وكيفية جريه لمافي ذلك من المنفعة بالاهتداء، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }[الأنعام:97].
(فإنها تدعو إلى الكهانة): وهي تعاطي علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وسبب ذلك هو أن الله عز سلطانه إذا أراد نفاذ أمر من أقضيته، أوحاه إلى سماء الدنيا فتسترقه الشياطين، ويأتون به إلى الكهان فيكذبون عليه أضعافه، فلما نزل القرآن، وحرست السماء بالشهب ارتفعت الكهانة وبطلت بعد النبوة.
(المنجم كالكاهن): لأن المنجم يدعي إضافة هذه الآثار كلها إلى النجوم، والكاهن هو: الذي يدعي تعاطي علوم الغيوب ، وكلاهما كاذب فيما يقوله.
(والكاهن كالساحر): لأن الساحر يدعي أنه يخلق، فهو في كذبه مثل كذب الكاهن.
(والساحر كالكافر): وأراد أنه كافر إذا كان يزعم أنه يخلق مثل خلق الله تعالى، فهو كفر وردة وإن اعترف بأن ما جاء به مخرقة وكذب فلا كفر هناك.
(والكافر في النار): لكفره خالداً فيها مخلداً بلا خلاف بين الأمة، إلا شذوذاً ذهبوا إلى خلاف ذلك، وهو قول مردود، فلا حاجة إلى إبطاله.
(سيروا على اسم الله وعونه): اغزوا وسافروا أي وقت شئتم، من غير تعريج على أقوال أهل التنجيم، واذكروا اسم الله عند خروجكم، واطلبوا منه المعونة في أسفاركم.
واعلم: أن القول بالنجوم يكون على وجهين:

أحدهما: أن يقال: بأنها أحياء ناطقة، وتضاف هذه الآثار إليها، وأنها معبودة خالقة رازقة كما هو مذهب الصابئة وغيرهم، وهذا كفر لا محالة.
وثانيهما: أن تكون هذه الآثار مضافة إلى الله تعالى، وأنها مسخرة مدَّبرة لما يريد الله فيها من المصالح، وأنه تعالى أجرى العادة بأنه لا يفعل بعض الأفعال إلا عند طلوعها وغروبها، فهذا لا بأس به، ولا يطرق خللاً في اعتقاد التوحيد.

(78) ومن كلام له عليه السلام في ذم النساء بعد حرب الجمل
(معاشر المسلمين ، إن النساء نواقص الإيمان): اعلم أن هذا الكلام يشير به إلى عائشة، والسبب في خروجها إلى البصرة محاربة لأمير المؤمنين هو أن طلحة والزبير ويعلى بن منية اجتمعوا في مكة وعائشة واقفة بها، فتلاوموا على قتل عثمان، وضربوا لسهام الرأي، وقالوا: كيف لنا بأن تكون معنا أم المؤمنين فأتوها، وقالوا لها : أنت قتلت عثمان لطعنها عليه وعيبها إياه،و ذكروا لها أنه لا توبة لها إلا بالمسير معهم حتى تقتل قتلة عثمان ويرد الأمر إلى أهله، فسارت معهم لهذه الشبهة من غير أن تكون على بينة من أمرها وبصيرة من حالها، ولهذا لما نبح عليها كلاب الحوأب همت بالرجوع حتى شهدوا لها بالزور ، ويقال: إنَّها أول شهادة في الإسلام بالزور ، ولا شك في فسقها، وهلاكها عند خروجها لحرب أمير المؤمنين بلا خلاف بين الأمة لبغيها عليه، لولا أن الله تداركها برحمة منه بالتوبة عن ذلك، وسبب ذلك مطاوعتها لغيرها، والانقياد له، ولهذا قال أمير المؤمنين:
(امتحنت بأربعة لم يمتحن بها قبلي أحد: عائشة، وهي أطوع الناس، والزبير مع شجاعته، وطلحة مع سخائه، ويعلى بن منية مع كثرة ماله) .
(نواقص الحظوظ، نواقص العقول): ومن هذا حاله كيف يكون زعيماً لغيره، و محتكماً لأمره.
ثم فسر عليه السلام ما ذكره من هذه الخصال فقال:
(أما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصوم أيام حيضهن): ومن نقص إيمانه نقص قدره عند الله تعالى.
([وأما نقصان] عقولهن؛ فشهادة الامرأتين منهنَّ بشهادة الرجل الواحد): لأن العقل إذا كان وافراً فصاحبه شديد التحفظ على ثقة في الأمر من الزلل، فعضد إحداهما بالأخرى إشارة إلى ذلك.

(وأما نقصان حظوظهنَّ فمواريثهنَّ على النصف من مواريث الرجال): إشارة إلى قوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ }[النساء:176] وهذا حيث يكون تعصيب الرجال لهن.
(فاتقوا شرار النساء): اللواتي لا دين لهنَّ؛ لأنه إذا انضمَّ إلى هذه الخصال قلة الدين ازداد الضرر وكثر لا محالة.
(وكونوا من خيارهنَّ على حذر): اللواتي فيهنَّ الصلاح لأن الغي والجهل إذا كان فيهنَّ طباعاً فإنه لا يؤمن شر هذه الخصال.
(ولا تطيعوهن في المعروف): أراد أنهن إذا منعن عما يكون معروفاً متواطئاً عليه بين الخلق كان صواباً حسناً.
(حتى لا يلغن في المنكر): لأن من مُنِعَ من الأمور المباحة، ولم يؤذن له في فعلها علم لا محالة أنه لا يطاع فيما يَهِمُّ به من الأمورالقبيحة المنكرة، وناهيك باسترذالهنَّ أن الله تعالى نقصهنَّ في هذه الأمور مع ما ينضاف إلى ذلك من المنع من القضاء والإمامة.

(79) [ومن كلام له عليه السلام]
(أيها الناس، الزهادة قصر الأمل): أراد أن غاية الزهد ونهاية أمره هو تقصير الأمل، لأن من قصر أمله زكا عمله.
(والشكر عند النعم): أراد أنه لا يستحق الشكر إلا لأجل النعمة.
(والورع عند المحارم): أي أنه لا يظهر الورع الصحيح إلا عند موافقة المحارم، فإن هو امتنع [عند] عروضها كان الورع متحققاً، وإن هو واقعها كان الورع باطلاً.
(فإن عزب ذلك عنكم): عزب عنه حكمه إذا بَعُدَ، وأراد إن بَعُدَ ذلك والإشارة إلى ما تقدم من الورع والشكر.
(فلا يغلب الحِمام صبركم): الحِمام بالكسر في الفاء هو قدر الموت، وأراد إن بَعُدَ عليكم الوفاء بما ذكره من هذه الأمور فلا يردن الموت عليكم وأنتم مخلُّون بهذه الواجبات عليكم، بل يأتيكم وأنتم صابرون على تأديتها وغير مُخِلين بها.
(ولا تنسوا عند النعم شكركم): ما يجب عليكم من شكرها، وإنما أضاف الشكر إليهم لما لهم به من مزيد الا ختصاص، كأنه قال: الشكر الذي يكون لائقاً بكم وتكونون أحق به.
(فقد أعذر الله إليكم): أعذرإليه إذا صار ذا عذر، ومنه المثل: أعذرمن أنذر، قال زهير:
على رِسْلِكمْ إنَّا سَنُعْدِي وراءكم
فتمنعُكم أرْماحُنا أو سَنُعْذَرُ
(بحجج مسفرة ظاهرة): بأعلام بينة واضحة لا لبس فيها.
(وكُتُب بارزة العذر واضحة): وكتب على ألسنة الرسل قاطعة لمعاذيركم، مو ضحة للحجة عليكم.
(فالدنيا دار أولها عناء): تعب وشدة ومكايدة الشرور.

(وآخرها فناء): زوال وتغير، إما بالإعدام على رأي أكثر المتكلمين في أن الله يعدم العالم ويعيده إلى حالته الأولى في العدم، وإما بالتغيير لنظامه كما هو المختار عندنا، وإليه تشير ظواهر الشريعة ونصوصها، وقد ذكرنا ما نختاره في الكتب العقلية.
(في حلالها حساب): من أين اكتسبه؟ وَفِيْمَ أنفقه؟.
(وفي حرامها عقاب): خلود في النار في عقاب دائم.
(من استغنى فيها فتن): بلذاتها وزخارفها، وكانت سبباً لفتنته بإعراضه عن الآخرة.
(ومن افتقر إليها حزن): لما يرى من تنعم أهلها بها، ومكابدته لشدائد الفقروعظائمه.
(ومن ساعاها فاتته): ومن جرى معها في حبها وطلب لذاتها سبقته ، ولم يدرك لها غاية.
(ومن قعد عنها واتته): تأخر عن طلبها، وصار مصاحباً لها بالرفق كفاه اليسير منها.
(ومن أبصر بها بصَّرته): جعلها له عبرة يتعظ بها ، وينظر إلى مصارع من رغب فيها أرته العجائب من ذلك.
(ومن أبصر إليها): بالرغبة إليها والاطمئنان.
(أعمته): عن إبصار المواعظ والا نتفاع بها.

(80) ومن خطبة له عليه السلام عجيبة تسمى [الغراء] وإنما سميت الغراء أخذاَ لها من غرة الفرس؛ لما فيها من المواعظ الدينية الظاهرة، والحكم البينة
(الحمد لله الذي علا بحوله): الحول هو: القوة، وأراد بالعلو ها هنا القهر والغلبة، وأراد أنه قهر بقوته.
(ودنا بطوله): الدنو هو: القرب، والطول هو: المن، وأراد أنه قريب من الخلق بما أنالهم من طوله، ونعمته عليهم، ولطفه بهم، ورحمته إياهم.
(مانح كل غنيمة وفضل): منحه إذا أعطاه، والغنيمة والفضل هو: العطاء من غير استحقاق.
(وكاشف كل عظيمة وأزل): الكاشف هو: الرافع، وأراد أنه الرافع لكل بلوى وشدةمن شدائد الدنيا وأهوالها، والأزل هو: الشدة.
(أحمده على عواطف كرمه): العواطف: جمع عاطفة، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يجعل اشتقاقها من العطف وهو الميل، يقال: عطفت أي ملت؛ لأن نعم الله مائلة إلى الخلق.
وثانيهما: أن يكون اشتقاقها من عطف إذا أشفق عليه، وتكون العاطفة ها هنا مصدر كالعافية والكاذبة.
(وسوابغ نعمه): السابغة هي: الكاملة، ومنه قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }[لقمان:20] أي أكملها.
(وأومن به أولاً بادياً): لكونه أولاً بلا بداية، وبادياً أي ظاهراً لا لبس في إثباته.
(وأستهديه قريباً هادياً): أطلب منه الهداية لكونه قريباً بالرحمة فاعلاً للهداية لمن أرادها.
(وأستعينه قاهراً قادراً): وأطلب منه الإعانة؛ لكونه قاهراً لمن عصاه، قادراً على فعل الإعانة.
(وأتوكل عليه كافياً ناصراً): أكل أمري إليه؛ لكونه كافياً لمن استند إليه ناصراً لمن استعان به.

(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله لإنفاذ أمره): أي لإخلاصه عما يقطعه، أخذاً من قولهم: نفذ السهم إذا خلص عن القوس، ومنه قولهم: نفذ السهم عن الرمية إذا خلص عنها، و أراد أنه خالص فيما أمر به من الطاعات.
(وإنهاء عذره): أنهيت الشيء إذا بلغته ، وأراد إبلاغ ما أعذربه إليهم وإيصاله .
(وتقديم نذره): وأن يكون إنذاره سابقاً إليهم، والنذر والعذر إما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار، وإما جمع عذير ونذير.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): بخوفه ومراقبته في السر والعلانية.
(الذي ضرب لكم الأمثال): لتتعظوا بها وتكون زاجرة لكم عن الوقوع في المكاره، وحاثة لكم على الإتيان بمراداته.
(ووقّت لكم الآجال): جعلها منتهى للبثكم في الدنيا، ومتنفساً لفعل الأعمال الصالحة.
(وألبسكم الرياش): وأنعم عليكم من الفاخر من اللباس تلبسونه.
(وأرفغ لكم المعاش): الرفغ والرفاغة بالغين المعجمة هي: الرخاء والسعة في العيش.
(فأحاط بكم الإحصاء): أراد وجعل الإحصاء وهو: الحصر، محيطاً بأعمالكم صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِي‍رٍ وَكَبِي‍رٍ مُسْتَطَرٌ }[القمر:53].
(وأرصد لكم الجزاء): أعد لكم الجزاء على الأعمال كلها، من قولهم: أرصدت له كذا إذا أعددته له.
(وآثركم بالنعم السوابغ): آثرته بكذا إذا جعلته مستبداً به ، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر:9] وأراد جعلكم مستبدين من جهته بالنعم الكوامل.
(والرفد الروافغ): أراد العطايا الواسعة، جمع رفدة وهي العطية، مثل نعمة ونعم.
(وأنذركم بالحجج البوالغ): التي لا أحد في البيان والوضوح إلا وقد بلغته.

39 / 194
ع
En
A+
A-