(حتى أورى قبس القابس): أورى الزند: إذا ظهرت ناره، والقبس هو: شعلة النار ، والقابس هو: الفاعل لذلك، واستعاره ها هنا لما أتى به الرسول عليه السلام من الفوائد الدينية والآداب الحكمية.
(وأضاء الطريق): أنارها وأوضحها.
(للخابط): أي من أجل الخابط ، وهو الذي يمشي على غير طريق.
(وهديت به القلوب): أصابت هدايتها ببركته.
(بعد خوضات الفتن ): بعد أن خاضت إلى ذلك غمرات الحروب وتجرع غصصها.
(وأقام موضحات الأعلام): العلم هو: ما ينصب لمعرفة الطريق، وأراد أنه أقام الحجة الموضحة لأعلام الهداية وطرق النجاة.
(ونيرات الأحكام): وأقام الأحكام النيرة من علوم الشريعة وأخبار النبوة.
(فهو أمينك): الأمين من عذابك.
(المأمون): المجعول أميناً على خلقك من جهتك فيما أرسلته به، ويحتمل أن يكون الأمين والمأمون بمعنى واحد، مثل قولهم: أنا حبيبك المحبوب.
(وخازن علمك): حافظ علمك الذي علمته إياه عن الإهمال حتى يضعه حيث أمرته .
(المخزون): الذي خزنته عندك حتى بلغته إياه.
(وشهيدك يوم الدين): إشارة إلى قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا }[النساء:41] بعد شهادة الأنبياء على أممهم.
(وبعيثك بالحق): إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ }[البقرة:119].
(ورسولك إلىالخلق): إشارة إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }[النساء:79].
[اللَّهُمَّ، افسح له مفسحاً في ظلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك]
(اللَّهُمَّ، أعلِ على بناء البانين بناءه): اجعل منزلته ومحله أرفع المنازل والمحال عندك في الدنيا والآخرة.

(وأكرم لديك منزله ): المنزل بفتح الميم والزاي: النزول والحلول، وأراد اجعل استقراره في الجنة أكرم نزوله .
(وأتمم له نوره): أكمل له هداه الذي بعثته به بكثرة الأتباع واتساع علم شريعته.
(واجزه من ابتعاثك له): واجعل له عندك جزاءً من أجل ابتعاثك له على صفات محمودة.
(مقبول الشهادة): فيما شهد به على أمته.
(مرضي المقالة): فيما قاله ونطق به، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }[النجم:3].
(ذا منطق عدل): صاحب لسان صدق، لا يزوغ في مقالته.
(وخِطة فصل): الخِطة بالكسر: ما يخطُّه الإنسان من الأرض ليعمره، والخُطة بالضم هي: الأمر والقصة ، وهو المراد ها هنا؛ لأن غرضه أنه ذو أمر فصل ليس هزلاً.
(اللَّهُمَّ، اجمع بيننا وبينه): وافق بيننا وبينه.
(في برد العيش): الذي لا أذية فيه ولا تكدير للذته.
(وقرارة النعمة): ومستقرالكرامة التي لا ظعون عنها لساكنها.
(ومنى الشهوات): وغاية الأماني المشتهاة.
(وأهواء اللذات): التي يهواها كل مخلوق.
(ورخاء الدَّعة): التي لا تنغيص فيها.
(ومنتهى الطمأنينة): وغاية القرارالمطمئن.
(وتحف الكرامة): ونفائس الإكرام وعظائمه، وأراد بما ذكره نعيم الجنة، فإنه جامع لما ذكره من أمر الأوصاف وأبلغ.
اللَّهُمَّ، أكرمنا بجوارك في دار الكرامة.

(71) ومن كلام له عليه السلام لمروان بن الحكم بالبصرة
قالوا: أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، فاستشفع فيه الحسن والحسين إلى أميرالمؤمنين "، فكلماه في ذلك فخلا سبيله، فقالا [له] : يبايعك ياأمير المؤمنين؟ فقال:
(ألم يبايعن‍ي بعد قتل عثمان؟): أراد ليس هذه البيعة بأولى من تلك، فإذا غدر في تلك فهو غادر في هذه.
(لا حاجة [لي] في بيعته): لقلة جدواها وعدم الفائدة فيها.
(إنَّها كفُّ يهودية): قيل: إن الحكم والد مروان كان يهودياً باليمامة، وقيل: أراد أن الغالب في اليهود هو الغدر ، فلهذا شبهه بأكف اليهود، وهذا هو الأقرب في كلامه.
(لو بايعن‍ي بكفه لغدر باسته): أراد إن وفى من جهة فهو يغدر من جهة أخرى، وقوله: لغدر باسته فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الباء متعلقة بغدر كما هو الظاهر، وعلى هذا يكون معناه لو بايعني بكفه لغدر في دهره كله، أخذاً من قولهم: فلان ما زال على است الدهر مجنوناً.
قال أبو نخيلة :
ما زال مذْ كان على استِ الدهر
ذا حَمق ممرى وعقل يَحْرى
وثانيهما: ألا تكون الباء متعلقة بغدر ويكون قد تم الكلام من قوله : لغدر، وقوله: باسته، كلام مستأنف، وهي كلمة شتم للعرب، قال الحطيئة :
فباستِ بني قيْسِ واستاه طيّ
وباست بني دودان حاشا بني نَصر
وفي نسخة أخرى: (لغدر بسبته): السبة: الاست أيضاً.
(أما إن له إمرةً كلعقة الكلب أنفه): كانت خلافته عشرة أشهر، ويحكى أنه قال لخالد بن يزيد بن معاوية : يا ابن رطبة الاست، وكانت أم خالد زوجة له خلف عليها بعد يزيد، فبلغها ذلك، فيروى أنها قعدت على وجهه حتى قتلته ، وإنما قال: كلعقة الكلب أنفه إشارة إلى قرب مدتها وتقاصر أطرافها.

(وهو أبو الأكبش الأربعة): عنى بالأكبش الأربعة أعظم أولاده وهم: عبد الملك، وعبد العزيز، ومحمد والحكم، فهؤلاء هم أنفس أولاده، وكان له أحد عشر ذكراً.
(وستلقى الأمة منه ومن ولده موتاً أحمر): وكان أولهم عبد الملك بن مروان، وآخرهم مروان بن محمد بن مروان، وعلى إثره انقضت الدولة الأموية، ثم بويع للسفاح بعده، وكان مدتها من لدن معاوية إلى مروان بن محمد تسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، وكانت عدة خلفائها أربعة عشر رجلاً، جميعهم كانوا على الظلم والفسق والفجور والانهماك في أنواع اللذات المحظورة، وإهمال الخلق، فلهذا قال عليه السلام: تلقى الأمة منه موتاً أحمر، يشير إلى ذلك.

(72) ومن كلام له عليه السلام في بيعة عثمان
(لقد علمتم أني أحق بهامن غيري): أراد الخلافة لما كان [من الرسول في حقي من الأخبار ولفضلي وتقدمي وسابقتي وغير ذلك] من الأدلة الدالة على كونه أحق بها وأولى.
(والله لأُسْلَمَنَّ ): أمرها ولأبعدنَّ عن التلبس بها.
(مهما سلمت أمور المسلمين): أراد مهما كان الحيف عليَّ فلا أبالي مهما كان الدين مستقيماً، وأحكام الدين جارية على قانونها.
(ولم يكن فيها جور): ظلم وعدوان في مخالفة كتاب الله وسنة رسوله.
(إلا عليَّ خاصة): وفي هذا دلالة على تظلمه وتوجعه في نفسه.
(التماساً لأجر ذلك وفضله): بترك حقي وكظم غيظي، وتحمل الغيظ والصبر عليه.
(وزهداً فيما تنافستموه): أي علا قدره عندكم، من قولهم : نفس الشيء إذا علا قدره، وأراد تنافستم فيه ولكنه حذف الحرف وعداه بنفسه.
(من زخرفه): يعني الذهب.
(وزبرجه): أراد الزينة {كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }[الزخرف:35].

(73) ومن كلام له عليه السلام في مقتل عثمان
(أولم ينه أمية علمها بي عن قرفي!): قرفه إذانقصه وعابه، وأراد أولم يمنع بني أمية ما يعلمون من حالي وخصالي التي انفردت بها، وصفاتي التي تميزت بها من بين الخلائق عن نقصي وعيبي.
(أما وزع الجهال سابقت‍ي عن تهمت‍ي!): وزعه إذا كفَّه، وأراد أما كفَّ الجهال الذين لا علم لهم ولا دراية بسابقتي في الدين في نصرته والجهاد لمن خالفه، وقرابتي من الرسول عن أن يتهموني بما لايليق بي فعله مما زعموه من قتل عثمان، وأني راضٍ به!!
(ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني): وللذي زجرهم الله به من قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }[النساء:112]، وغير ذلك من الآيات الوعيدية أبلغ مما أنطق به.
(أنا حجيج المارقين): أنا مخاصم من مرق من الدين كالخوارج ومفحم لهم بالحجة، وإنما أنا خابر لأمورهم وسابر لها بالفحص عن أحوالهم، من قولهم: حججت شجته بالميل ، إذا دريت بغورها لتعالجها، والمارق هو: الخارج من الدين، أخذاً له من مروق السهم إذا خرج من الجانب الآخر.
(وخصيم المرتابين ): خصمه إذا نازعه وشاجره، وأراد أنا منازع الشاكين في دين الله، وأهل الريبة في الصدق.
(على كتاب الله تعرض الأمثال): فمن وافقت صفته صفة الأبرار والصالحين فهو منهم، ومن وافقت صفته صفة الفجار وأهل الشقاوة فهو منهم، فهو الصادق الذي لا يكذب، والميزان الذي لا يحيف.

(وبما في الصدور تجازى العباد): أراد أن المجازاة إنما تكون بما في سراير القلوب وضمائرها دون ظاهرها، فربما كان ظاهر عمل سوءاً وهو عند الله زاكياً وعكسه، فالمجازاة على الحقيقة بما في القلوب من ذلك.

(74) ومن خطبة له عليه السلام]
(رحم الله امرأ سمع حكماً فوعى): الرحمة من الله تعالى في الدنيا بفعل الألطاف الخفية، كقوله: {ولولا رحمة ربي} وفي الآخرة ثواب، كقوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا }[الأنبياء:75] وأراد أعطي موعظة فحفظها قلبه ، وانتفع بها في دينه.
(ودعي إلى رشد فدنا): إلى ما يرشده في الدين والدنيا فقرب له وأصغى إلى داعيه.
(وأخذ بحجزة هاد فنجا): الحجزة بالضم هي: معقد الإزار، وهو استعارة هاهنا، ضرب بيده على معقد إزار داعي الخير، فأنجاه عن الحيرة والشبهات.
(راقب ربه): أي جعله رقيباً عليه، أي شاهداً في السر والعلانية.
(وخاف ذنبه): وأشفق من عقوبته.
(قدَّم خالصاً): سبَّق لنفسه عملاً خالصاً عن الرياء.
(وعمل صالحاً): وفعل فعلاً يصلح أن يكون مقبولاً، ويصلح أن يكون مثاباً عليه.
(اكتسب مذخوراً): طلب الاكتساب لما يصلح ادّخاره من الأعمال المرضية.
(واجتنب محذوراً): جانب من الأفعال السيئة ما يجب الحذر منه.
(رمى غرضاً): الغرض: ما يرمى، وأراد أصاب غرضاً أو رمى غرضاً فأصابه برميه، والمراد من هذا هو إحراز المقصود في أمره كله.
(وأحرز عوضاً): أي أحرز ما يكون عوضاً عن الأعمال الصالحة وهو أجرها وثوابها.
(وكذَّب مناه ): أراد لم يعرِّج على الأماني ولم يتكل عليها؛ لأنها دأب العجزة وأهل الكسل.
(جعل الصبر مطية نجاته): وهو استعارة، وأراد أنه ركب عليها فينجو من الأهوال والشدائد.
(والتقوى عدة وفاته): لأن لكل شيءٍ عدة، وعدة الموت هو التقوى لله والخوف منه.
(ركب الطريق الغراء): أي سار الطريق الواضحة، أخذاً لها من غرة الفرس.

(ولزم المحجة البيضاء): أي لم يسلك يميناً وشمالاً، وإنما استقام على المنهاج الواضح.
(وبادر الأجل): عاجل المدة التي قدَّرها الله له فاغتنمها وعمل فيها.
(واغتنم المهل): من الغنيمة، والمهل هي: أيام المهلة، وأراد جعلها زماناً لاغتنام الأعمال الصالحة.
(وتزوَّد من العمل): جعله له زاداً إلى الآخرة، وهو تقوى الله تعالى، كما قاله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }[البقرة:197].

(75) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به بني أمية
(إن بن‍ي أمية): أراد من كان في أيامه من بني أمية، ومن يأتي بعده.
(ليفوقونن‍ي تراث محمد تفويقاً): أي يعطونني من المال قليلاً قليلاً كفواق الناقة، وهو: الحلبة الواحدة من لبنها، وأراد بتراث محمد ما كان لرسول الله الولاية في أخذه وصرفه في وجهه من جميع الأموال كلها فهو إليه، وتأكيده بالمصدر مبالغة في فعلهم لذلك.
(والله لئن عشت ): بقيت له مدة أعيش فيها.
(لأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللّحّامِ): أخرجها من أيديهم وأسلّها من تحت معاطفهم، كما يفعل القصَّاب الذي يقطع اللحم.
(في الوِذَامِ التَّرِبَة): في الأكراش، الواحدة منها وَذَمَةٌ، التي قد وقعت في الترب ونفضت منه فتساقط منها، ويروى: (في التراب الوذمة): وهو من القلب، و[هو] جعل الموصوف صفة والصفة موصوفاً، وهو من بديع البلاغة وغريب الفصاحة وقد يجيء القلب في الفاعل والمفعول، كما قال: بلغت سوأتهم هُجْر.

38 / 194
ع
En
A+
A-