(65) ومن كلام له عليه السلام في معنى الأنصار
قالوا: لما انتهت أخبار السقيفة وأنباؤها إلى أمير المؤمنين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، قال عليه السلام:
(ما قالت الأنصار؟): أخبار ما كان في أمر السقيفة طويلة، وذلك أنه لما توفي رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] واختار الله جواره، تركوا أهم الأشياء وهو غسل رسول الله وجهازه ودفنه وبكَّروا إلى سقيفة بني ساعدة، وهي بالقرب من المدينة للاشتوار فيمن يقوم بالأمر فجرى هناك شجار طويل، وا دَّعاها كل واحد، وأمير المؤمنين لم يحضرها وغيره من جُلّة الصحابة وأكابرهم، فانتهت الأنباء إلى أمير المؤمنين بمقالة الأنصار في ذلك:
(منَّا أمير، ومنكم أمير ): يعنون قريشاً، فقال:
(هلا احتججتم عليهم بأن رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويُتجاوز عن مسيئهم!).
(قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟): أراد بذلك [أن] يبطلوا مقالتهم هذه ودعواهم فيما ادعوه من أن الإمامة كائنة فيهم: ويقال لهم:
(لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم): لأن من كان أميراً فالوصية إليه في الخلق وليس الوصية به.
سؤال؛ أرى أمير المؤمنين عوَّل في إبطال مقالتهم على الوصية بهم، ولم يذكرلهم الخبر عن الرسول ((بأن الأئمة من قريش )) كما احتج به أبو بكر عليهم وأبطل مقالتهم به، فأراه عدل عنه؟

وجوابه؛ هو أن ما ذكره أمير المؤمنين أقطع للجاجهم وأحسم لمادة شغبهم، لأنهم معترفون بصحة الوصية لما لهم فيه من مزيد النفع والشرف، ولعلهم ينكرون ما قاله أبو بكر من الحديث أو يعترفون به، لكن يحتاجون إلى صحته ونقله، فلهذا كان الاحتجاج عليهم بما يعترفون به ليكون إلزاماً، وهو أفحم للخصم وأقطع للمادة في الخصومة.
(ثم قال [ عليه السلام] : فما قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة): أراد أن مقالتهم هذه تلزمهم القول بإمامتي وأني أحق بها لأمرين:
أما أولاً: فإذا كانت غاية حجتهم أنهم من شجرة رسول الله لاغير وليسوا من الثمرة، ومن يكون جامعاً للشجرة والثمرة فهو أحق لامحالة بها باضطرار العقول على منهاج استدلالهم.
وأما ثانياً: فالثمرة لامحالة أطيب من الشجرة وأعلا حالاً وأعظم فضلاً، فإذا كانت الإمامة مستحقة بالأدنى، كيف لاتكون مستحقة بالأشرف والأعلا، فهذا هو مراده بما أشار إليه من كلامه هذا.

(66) ومن كلام له عليه السلام في محمد بن أبي بكر لما قلده مصر فملكت عليه وقتل رحمه الله تعال‍ى
(وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ): وقد عزمت وتقوى في خاطري، تولية هاشم لما فيه من مزيد الصلاحيه والنهضة والقوة.
(ولو وليته إياها لما خلىَّ لهم العرصة ولا أنهزهم الفرصة): أراد أني لو عزمت على توليته إياها، فإنه كان شديد الأنفة، عظيم السطوة كثير الهيبة في أفئدتهم، وكان لا يترك لهم فسيحة فيما يتعلق بأمر الدين مما يتعلق بإصلاح الدولة وأمر السياسة، ولا يجدون له فرصة فيغنموها عليه، لشدة شكيمته، فجعل ما ذكره كناية عما فصلناه في أمرهاشم بن عتبة.
(بلا ذم لمحمد بن أبي بكر): أراد وليس ما ذكرته في هاشم، فليس تقصيراً في همة محمد بن أبي بكر، ولا تعجيزاً لحاله في ذلك، وكانت مصر من أهم الأعمال والولايات عنده، وقد كان ولاها الأشتر فمات في الطريق قبل وصوله، ثم ولاها محمد بن أبي بكرفا ستشهد فيها .
(فلقد كان لي حبيباً): يحبني وأحبه.
(وكان لي ربيباً): الربيب: ابن امرأة الرجل من غيره ، وهكذا الربيبة أيضاً.

(67) ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه
(كم أداريكم): المدارة للناس هي: الملاينة، وأرادكم أليِّن لكم عريكتي ومعاطفي، وأسَّهل لكم خلائقي.
(كما تدارى البكار العمدة): البكار: جمع بكر وهو الفتى من الإبل، والعمدة هو: انشداخ داخل سنام البعيرمن الركوب وظاهره سالم، فإن البعير يشفق ويحاذر عن أن ينُالها بشيء.
(والثياب المتداعية): المسرعة إلى البلاء؛ لأن كل واحد منها يدعو الآخر إلى الانخراق.
(كلما حيصت من جانب): خيطت من جهة ولفقت.
(تهتكت من آخر): من جانب آخر لهونها ورثتها، فحالي معكم فيما أدعوكم إليه مشبه لما ذكرته.
(كلما أطل عليكم): أطل بالطاء والظاء جميعاً كما مضى في غيره .
(منسر من مناسير أهل الشام): الْمَنْسِر بالنون والسين منقوطة بثلاث من أسفلها: القطعة من الخيل من أصحاب معاوية.
(أغلق كل رجل منكم بابه): رده وصار محتجباً به.
(وانجحر انجحار الضَّبَّة في جحرها): الضب: حيوان يكون في الخبوت، يقال: إنه إذا رأى الماء مات، وقوله: انجحر انجحار الضبة في جحرها، من باب الاشتقاق، كقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }[الروم:30] وغيره.
(والضَّبُع في وجارها): الوجار بالجيم هو: موضعها ومكانها، وأراد بما ذكره أن الجيوش من أهل الشام إذا رأوها فعلوا ما ذكره فشلاً عن القتل، وطيشاً عن ملابسة الحرب.
(الذليل والله من نصرتموه): لأن من حاله هذه فالمنتصر به يكون وحده لا محالة لتفرقهم عنه فهو ذليل لانفراده.
(ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل): الأفوق من النبال: الذي لا فوق له، والناصل: الذي ليس في أسفله نصله، وأراد قلة النفع به؛ لأن ما هذا حاله من السهام فلا نفع للرامي به.

(إنكم والله لكثير في الباحات ): الباحات: جمع باحة وهي ساحات الدور.
(قليل تحت الرايات): الرايات: جمع راية، وهو العلم يكون في الحرب.
(وإني لعالم بما يصلحكم): يجمع أغراضكم ويقوَّي دواعيكم إلى اتباعي.
(ويقيم أودكم): اعوجاجكم من أخذ المال من غير وجهه وصرفه فيكم على غير حله والا نقياد لأهوائكم كلها.
(ولكن‍ي والله لا أرى صلاحكم بإفساد نفسي): أراد أني إن تابعت أغراضكم خالفت الدين، وكان عليَّ ضرر ذلك، ولكم غنمه في اتباعي لما وافقكم، وفي ذلك فساد نفسي وإهلاكها.
(أضرع الله خدودكم): أي أذلها، من الضراعة، وهي: الذل والخضوع، وأراد بالخدود الوجوه؛ لأنها أعز ما يكون في الإنسان، فإذا ذل فغيره بالذل أحق وأولى.
(وأتعس جدودكم): الإتعاس هو: الإهلاك، وأصله الكبَّ، وهو ضد الانتعاش.
(لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل): أراد أن ولوعهم بالباطل أكثر من ولوعهم بالحق فلأجل هذا عرفوا ذاك وأنكروا هذا.
(ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق!): وأراد أيضاً أن إماتتهم للحق وإبطاله أكثر من إبطالهم للباطل لكثرة تعلقهم بالباطل، ونفورهم عن الحق.

(68) وقال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
السحر والسحرة هو: الوقت قبل الفجر.
(ملكتن‍ي عين‍ي): غلبني النوم، وهو من لطيف الا ستعارة وعجيبها؛ لأن النوم إذا جاشت مراجله ملك الإنسان واستولى عليه وأضافه إلى العين لأنها أول ما يظهر فيه علامة النوم.
(فسنح لي رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): من السنوح وهو: العروض.
(فقلت: يارسول الله، ماذا لقيت من أمتك؟): من مكابدة الشدائد ومعاناة العظائم.
(من الأود): الاعوجاج في طرقهم.
(واللدد): وهو شدة الخصومة في مخاطبتهم.
(فقال عليه السلام: ((ادع عليهم ))): لاستحقاقهم لذلك.
(فقلت: اللَّهُمَّ، أبدلن‍ي بهم خيراً منهم): جوارك في الآخرة ومرافقة أوليائك والكون معهم في دار كرامتك.
(وأبدلهم بي شراً من‍ي ): ممن يكون والياً عليهم، لايراعي لهم حقاً، ولا يعلِّمهم معالم دينهم.
وأقول: لقد استجاب الله منه هذه الدعوة فنقله إلى جواره، واختار له ما عنده، وأبدلهم به معاوية ويزيد وزياد والحجاج، وغيرهم ممن لا يعرج على صلاحهم، ومنهمك في الدنيا، ولا يخطر بباله خاطرة من الدين وأحواله.

(69) ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل العراق
(أما بعد، يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيمها، وطال تأيمها): أراد بالعراق أهل الكوفة والبصرة، فإنما مثلكم، إما في قولكم بألسنتكم من نصرتي ومخالفتكم في أفعالكم بخذلاني، وإما في أمري لكم بالجهاد لعدوكم ونكوصكم على أعقابكم في ذلك، فكله محتمل كما ترى، كمثل الحامل التي علقت بولد فلما تمَّ عددها أملصت أي أسقطت، والملص: الزلق، ومات قيمها: زوجها، وطال تأيمها: مكثت زماناً طويلاً بلا زوج.
(وورثها أبعدها): القرابة الأبعدون بعد موتها.
(أما والله ما أتيتكم اختياراً؛ ولكن جئت إليكم شوقاً ): أراد ما جئت إليكم [إلا] بغير خبرتي لكم وتجربتي إياكم، فمن خبر أحوالكم وجربها لم يطمع في نصرتكم له، وإنما جئت إليكم شوقاً إلى نصرتكم لي، وإعانتكم على أموري كلها فانكشف الحال على خلاف ذلك.
(ولقد بلغن‍ي أنكم تقولون: [عليٌّ] يكذب): فيما يقوله من أخباره التي أخبرنا بها.
(قاتلكم الله!): استغراق في التعجب من مقالتهم هذه.
(فعلى من أكذب؟): فيما أخبرت به.
(أعلى الله؟): أتكون فريتي كما زعمتم على الله؟
(فأنا أول من آمن به): ومن سبق إيمانه بالله فليس مستحقاً أن يكون كاذباً عليه.
(أم على نبيه؟): أو تكون فريتي على الرسول.
(فأنا أول من صدَّقه): في نبوته فيستحيل أن أكذب عليه.
(كلا والله): ردع وزجر لهم عن هذه الفرية، وتهكم بهم في هذه المقالة.
(ولكنها لهجة): لسان صدق وكلمة حق.
(غبتم عنها): غابت أذهانكم عن ضبطها ومعرفة معناها.

(ولم تكونوا من أهلها): ممن يختص بها ويعرف قدرها، وأراد باللهجة، إما ما يأمر به من المصالح، ويذكره من المواعظ الشافية، وينهى عن المفاسد، وإما ما كان عَهِدَ إليه الرسول عليه السلام في أمر إمامته وتقريرها، وتعريفه بما يؤول إليه أمره في ذلك.
(ويل امِّه ): أراد ويل لأمه، لكنه حذف لا وجره، وحذف همزة أم، وفي حركة اللام الباقية الضم على الأصل؛ لأنه مرفوع، والكسر على الاتباع.
والويل: كلمة عذاب، وتستعمل تارة مضافاً، وليس فيه إلا النصب على المصدرية، كقولك: ويلك وويله وويل زيد، وتارة مفرداً، إما منصوباً كقولك: [ويلاً لك] وويلاً له، وإما مرفوعاً على الابتداء كقولك: ويل له وويل لزيد، قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }[الجاثية:7]، قال كعب بن زهير :
وَيْلُمَّهَا خلةٌ لو أنَّها صدقت
موعودُها أو لو ان النصحَ مقبولُ
(كيلاً): أي مكيلاً، وانتصابه على التمييز.
(بغير ثمن!): يعني من غير عوض ممن ابتاعه.
(لو كان له وعاء): فيه روايتان:
أحدهما: وعاء، أي لو كان لمن يسمعه أذن تعيه وتكون قابلة له.
وثانيهما: وعَّا جمع واعٍ نحو جاهل وجهَّال، أي لو كان رجال يقبلونه ويقرُّ في صدورهم.
({وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ })[ص:88]: فهذه الآية قد وقعت في هذه الخطبة أحسن موقع حتى صارت إنساناً لمقلتها، وطرازاً لحلتها، أبهى من الوشي المرقوم، وأذكى رائحة من المسك المختوم.

(70) ومن خطبة له عليه السلام علَّم الناس فيها الصلاة على الرسول [صلى الله عليه وآله]
(اللَّهُمَّ، داحي المدحوات): الدحو هو: البسط والمدُّ، قال الله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30] وأراد باسط الأرضين المبسوطات.
(وداعم المسموكات): وممسك السماوات المرفوعات؛ لأن المسموك هو: المرفوع، والدعامة تمسك الأشياء عن السقوط.
(وجابل القلوب): جبله على الشيء إذا طبعه عليه، ومنه الجبلَّة، وأراد وطابع القلوب.
(على فطرتها شقيها وسعيدها): [و] جاعلها على فطرة أي خلقة تكون متمكنة معها من تحصيل الشقاوة والسعادة، وقادرة على ذلك، وهذا ظاهر في خلقة الإنسان، فإن الله تعالى ركَّبه تركيباً ينال به كل واحد من الأمرين على قدر ما يشاء ويريد.
(اجعل شرائف صلواتك): الصلاة من الله تعالى هي الرحمة، وأراد اجعل أشرف ما يكون من رحمتك.
(ونوامي بركاتك): وأزيد ما يكون من إحساناتك الفاضلة.
(على محمد عبدك ورسولك): الشاكر لنعمائك، والمتحمل لأداء رسالاتك.
(الخاتم لما سبق): من نبوة الأنبياء قبله، لقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }[الأحزاب:40].
(والفاتح لما انغلق): إما لما اندرس من الشرائع قبله فإنها كانت قد امحت آثارها واندرست أعلامها، وإما لما استعجم من المشكلات والأسرار البديعة.
(والمعلن): الإعلان هو: الإظهار، والمعلن هو: المظهر.
(للحق ): للدين القيم من إثبات الصانع وتوحيده.
(بالحق): بالمعجزات الباهرة، والأدلة القاهرة.

(دافع جيشات الأباطيل): المزيل، من دفع الشيء إذا أزاله عن موضعه، وجيشات: جمع جيشة، واشتقاقها إما من جاش البحر إذا زخر، أو من جاش القدر إذا غلت، والأباطيل: جمع لم يسمع له مفرد؛ كأنه جمع لإبطيل؛ لئن باطل لا يجمع على أباطيل، فلهذا قدر مفرده، وأراد أنه مزيل بما جاء به من الحق زواخرالشبه والتمويهات.
(والدامغ): الدمغ هو: هيض قِحْف الرأس وكسره.
(صولات): جمع صولة وهي: الاستطالة، يقال: صال الجمل إذا غلب وقهر عن أن يملك رأسه.
(الأضاليل): جمع لا واحد له؛ لأن الضلالة لا تجمع على أضاليل، وإنما يقدّر له واحد وهو إضليل.
(كما حمِّل فاضطلع): الكاف متعلقة باجعل، والضلاعة: القوة، واضطلع أي قوي، والمعنى اجعل شرائف صلواتك مشبهة في تقريرها وثبوتها، لما حُمِّل من أعباء النبوة، وقوي على حمله وقام به.
(قائماً بأمرك): ماضياً عزمه في إبلاغ ما أمر به.
(مستوفزاً في مرضاتك): الوفاز: العجلة، أي مستعجلاً في تحصيل الأمور المرضية لك.
(غير ناكل عن قُدُمٍ): نَكَلَ يَنْكُلُ إذا خاف وجبن، والناكل هو: الجبان، وأراد أنه غير جبان عن تقدم فيما أمر به وأجدَّ بإبلاغه.
(ولا واهٍ في عزمٍ): وَهَى أمره إذا ضعف، أي أن عزيمته فيما همَّ به من أمر الدين لا تضعف.
(واعياً لوحيك): حافظاً لما أوحيته إليه، غير مبدل ولا مغيِّر.
(حافظاً لعهدك): لما عهدته إليه عن الضياع والإهمال.
(ماضياً على نفاذ أمرك): مستمراً، من قولهم: مضى لحاجته إذا مر طالباً لها على إبلاغ ما أمر به وإيصاله، وهذه الأسماء كلها منصوبة على الحال من اسم الرسول.

37 / 194
ع
En
A+
A-