(فيا لها حسرة): فيا للنداء ومناداها محذوف تقديره فيا قوم، واللام متعلقة بفعل محذوف تقديره اعجبوا لها، وحسرة منصوب على التمييز أي من حسرة.
([على] كل ذي غفلة): على كل صاحب غفلة.
(أن يكون عمره عليه حجة): من أن يكون عمره عليه من أعظم الحجج وأقوى البراهين حيث أمهل غاية الإمهال من غير تزود.
(وأن تؤديه أيامه إلى شقوة! ): وأن تكون أيامه المجعولة سبباً في نجاته إلى نيل الخسارة بالنفس والشقوة بالكسر هي: الحالة والشقوة بالفتح هو: الشقاء.
(نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة): لا تكسبه بطراً ولا أشراً.
(ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية): فإنه لا غاية من الطاعة إلا والله مستحق لها فما يقع من ذلك فهو تقصير في حق الله.
(ولا تحل به بعد الموت ندامة): حل به الغضب إذا خالطه وخامره، وأراد به أنه لا يخالطه بعد الموت ندامة إذ لاينفع الندم في تلك الحال.
(ولا كآبة): والكآبة: سوء الحال، وإنما نكَّر قوله: (شقوة، ونعمة، وغاية، وندامة، وكآبة) دلالة على ما لها من الموقع والمبالغة.

اللَّهُمَّ، أدخلنا برحمتك تحت هذه الدعوة المرفوعة، وتقبَّل منَّا ومنه هذه الكلمات المسموعة.
(63) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً): أراد أنه تعالى منزَّه عن تجدد الأحوال والصفات عليه، وأن صفات ذاته تعالى أزلية ليس لثبوتها أول ولا غاية ، فليس شيء من أحواله متقدماً على غيرها من الحالات الثابتة لذاته، فلهذا قال: لم يسبق له حال حالاً، يشير إلى ما قلناه فلم تكن الأولية في حقه متقدمه على الآخرية، فيوصف بالقبلية، وتوصف الآخرية بالبعدية، ولا كان الظهور له سابقا فيكون موصوفاً بالقبلية ويكون وصفه بالبطون، يوصف بالبعدية، بل الأولية والآخرية ثابتان معاً في حالة واحدة؛ لأن أوليته بلا نهاية فهو أول لكل موجود، وآخريته بلا نهاية فهو آخر لكل موجود، وظهوره إنما هو بالأدلة، وبطونه إنما هو عن الحواس، وقوله: فيكون منصوب ؛ لأنه جواب للنفي .
(كل مسمى بالوحدة غيره قليل): أراد أنه موصوف بالوحدة من غير تعدد وما هذا حاله فإنه لايقال فيه: قليل؛ لأن القلة والكثرة إنما تكون فيما يكون متعدداً فلهذا يكون النقصان فيه قلة والزيادة عليه كثرة، وغيرمنصوب لأنه اسثناء موجب.
(وكل عزيز غيره ذليل): لأن كل عزيز سواه فعزه إنما يكون من جهة غيره إما بسيف قاهر [وإما بعشيرة غالبة وإما بمال ممدود، ومن كان عزه لا بغيره فعزه] لامحالة بذاته، وهو تعالى عزه من جهة ذاته، فلهذا لم يوصف بالذلة في حال.
(وكل قوي غيره ضعيف): لأن قوة غيره إنما كانت بأسباب عارضة، وأمور مكتسبة سواه فإن قوته لذاته.

(وكل مالك غيره مملوك): لأن ملك غيره من جهته تعالى، وأماملكه فإنما هو من جهة نفسه .
(وكل عالم غيره متعلم): لأنه هو العالم لذاته، وسواه لاعلم له إلاماكان من جهة الله .
(وكل قادرغيره يقدر ويعجز): أراد أن كل من عداه فهو قادر بقدرة ، ومن هذه حاله ربما عرض له العجز كماتعرض له القدرة، ومن كان قادراً لذاته فإنه لايعرض له العجز بحال
(وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات، ويصمه كبيرها ): أراد أن كل سميع سواه فإنه إنما يسمع بالآلات، والآلة مركبة على تركيب مخصوص، فربما لَطُفَ الصوت وخفي وبَعُدَ فلا يدركه لزوال شرط إدراكه، وربما كبر الصوت فغيَّر البنية عن حالها وأفسدها، فلهذا أصمه كبيرها ؛ لزواله عن حد الاستقامة.
فأما من إدراكه لذاته فلا يغيب عنه صغيرها وإن دق، ولا يصم حاسة عن إدراك كبيرها لما كان مفسداً لها.
(ويذهب عنه ما بَعُدَ منها): إما من لايشرط انتقال محال الأصوات، فإنما لم تدرك الأصوات البعيدة، لحصول السواتر بيننا وبينها وهذا هو قول أكثر المتكلمين، وإما على قول من يشترط انتقال محال الأصوات كما هو المحكي عن النظام فإنما لم يدرك البعيد منها لوجود المانع من انتقالها.
(وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام): لأن من عداه إنما يبصر بالآلة والحاسة، وربما كانت على صفة في الإدراك تزول عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، من القرب والبعد واستقامة البصر، وغير ذلك من الموانع وهو تعالى مبصر لذاته فلا يشترط في حقه إلا وجود المدرك لا غير.

(وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر): أراد أن كل من كان موصوفاً بالظهور، فهو غير موصوف بالبطون، لأنه يكون كذباً، وهكذا عكس ما قلناه؛ لأن من كان ظاهراً فإنما يكون ظهوره بالمشاهدة، ومن هذه حاله فلا يكون باطناً بحال، وما كان خفياً باطناً من الأمور فلا يكون ظاهراً بحال، لما في ذلك من المناقضة، فأما الله تعالى فإنه يصدق عليه وصفنا له بالظهور والبطون من غير مناقضة في ذلك لصلاحية ذلك في حقه.
(لم يخلق الخلق لتشديد سلطان): لأن السلطنة في حق غيره إنما تكون شدتها وكمال قوتها باجتماع الجند والأعوان من أرباب الدولة لنفوذ الأمر وتقوية الإيالة ولا يمكن تقدير ذلك لغيره بحال.
(ولا تخوف من عواقب الزمان): لطرؤ الطوارئ ووقوع الحوادث فيكون الخلق أعواناً له على ذلك وأصلاً في دفعه.
(ولا استعانة على ند مثاور): ولا فعل ذلك استعانة على مثل له يأخذ بثأره منه وينقم بِذَحْلهِ الذي هو عنده له.
(ولا شريك مكاثر): ولا استعانة على مشارك له في ملكه، متكاثر بما يخلق من الخلق فخراً على ذلك الشريك وتطاولاً عليه.
(ولا ضد مناف ): ولا له ضد فيقال: إنه يريد زواله ونفيه فيتكثر بالخلق إعانة له على ذلك، فما كان خلق هذه المكونات لشيء مما ذكرناه لبطلان ذلك.
(ولكن خلائق مربوبون): هم خلائق أوجدهم بقدرته مربوبون مملوكون في جميع أمورهم ومدبرون في كل أحوالهم، لايملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
(وعباد داخرون): مقهورون في حكم الرق، والدخور هو: الذل والصَّغار من دخره إذا صغره وأذله.

(لم يحلل في الأشياء فيقال: هو فيها): لو حلَّ في بعض المحالِّ كما يزعمه بعض الزنادقة، لقيل هو فيه ولو كان فيه لكان محدثاً؛ لا ستحالة سبق الحال على محله وهو بلا أول فبطل حلوله.
(كائن): أي ثابت غير مستقر في المحالِّ، وذلك باطل بالبرهان العقلي.
(ولم ينأ عنها فيقال: هو منها مباين): النأي: البُعْدُ، وقد نأى عنه أي بَعُدَ، وأراد لم ينأ عنها بالبُعْدِ الحسي الذي يكون بينه وبينها فراغات وأمكنة ولو كان الأمر هكذا لكان يقال [فيه] : إنه مباين لها أي بعيد عنها وهذ محال في حقه لأنه ليس حاصلاً في جهة فيشار إليه بالقرب والبعد.
(لم يؤده ما خلق ابتداء): أراد أنه لم يثقله والأود: الثقل يقال: آدَهُ يَؤدُهُ أَوْداً إذا أثقله، ما أوجده على جهة الابتداء له من غير سبب له في ذلك.
(ولا تدبير ما ذرأ): ولا أثقله أيضاً تدبير ما ذرأ من الخلق لكثرتهم، وبلوغهم مبلغاً عظيماً لا يعلمه إلا هو.
(ولا وقف به عجز عمَّا خلق): الواحد من الخلق إذا عجز عن فعل شيء وقف عنه وتوقف عن إتمامه، فلهذا قال: لم يقف به عجز؛ لأنه قادر من جهة الذات فلا يطرؤ عليه العجز بحال.
(ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر): الولوج: الدخول في الشيء، يقال: ولجت المنزل ولوجاً إذا دخلت فيه ، وأراد أن الشبهة لم تدخل عليه فيما خلق، وأحكم خلقه من الأقضية العجيبة، والتقديرات المحكمة والأمور المتقنة، بل كل شيء عنده بمقدار، وصادر على منهاج الحكمة وقانون المصلحة.
(بل قضاء متقن): صادر على جهة الإحكام.
(وعلم مبرم ): قوي رصين لا يتغير، ومنه خيط مبرم أي مفتول طاقين لقوته وحصافته.
(المأمول مع النقم): المرجو للعفو مع القدرة على الانتقام.

(المرهوب مع النعم): المخشي سطوته عند إفضاله بالنعم على جهة الاستدراج، ولهذا قال عليه السلام:
((يا ابن آدم، إذا رأيت الله يتابع عليك النعم فاحذره))، ولهذا قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }[الأعراف:182]، بالإملاء وترادف النعم.

(64) ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين
(معاشر المسلمين، استشعروا الخشية): الشعار من اللباس ما يلي الجسد، والدثار: ما كان فوقه، وأراد البسوا الخشية واجعلوها ملاصقة لقلوبكم.
(وتجلببوا السكينة): الجلباب هو: الملحفة، قالت امرأة ترثي قتيلاً:
تَمْشِي النُّسُورُ إليه وهي لاهيةٌ ... مَشْيَ العَذَارَى عليهنَّ الْجَلاَبِيْبُ
وأراد اجعلوا السكينة جلباباً شاملاً عليكم.
(وعضوا على النواجذ): وضعه هاهنا كناية عن الصبر.
(فإنه أنبى للسيوف عن الهامّ ): نبا الشيء عني إذا بَعُدَ وتجافا، وأنبئته إذا رفعته، وأراد أن العضُّ على النواجذ أشد تجافياً وأكثر تباعداً للسيوف عن أن تعضُّ عليها الهام وتمسكها، والهامُّ: جمع هامة وهي الرأس.
(وقلقلوا السيوف): حركوها.
(في أغمادها): في قرابها ، ليكون ذلك أسرع لسلها عند الحاجة إليها.
(قبل سلها): قبل الحاجة إلى سلها.
(والحظوا الخزر): الخزر هو: النظر بمؤخرالعين ازدراءً للعدو واستصغاراً لحاله، ومنه قولهم:
تخازرت [عيني] ومالي من خزر
(واطعنوا الشزر): من شمال ويمين وخلف وقدام.
(ونافحوا بالظُّبا): المنافحة: مثل المكافحة، وهي استقبال العدو بالسيوف مسلولة في وجهه، واشتقاقه من نفح العرق بالدم إذا نزل .
(وصلوا السيوف بالخطا): أراد استعملوها مع كل خطوة فإنه أمضى لمضاربها، ومن هذا قال بعضهم:
إذا قصرت أسيافُنا كان وصلُها ... خطانا إلى أعدائِنا فنضارب
(وأكملوا اللامّة): آلة الحرب كلها لما فيه من مزيد النفع وكثرة التشجع وفي الحديث: ((ما كان لنبي إذا لبس لامة حربه أن ينزعها حتى يقاتل )) .

(واعلموا أنكم بعين الله): بحفظ من الله تعالى وكلايته ورعايته كما قال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }[الطور:48]، و{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }[القمر:14].
(ومع ابن عم رسول الله ): مصاحبين لمن هو أقرب الخلق إلى الرسول، وأنصرهم لدينه، وأكثرهم جهاداً في سبيله.
(فعاودوا الكر): ليكن منكم العودة إليه مرة بعد مرة، والكر هو: الرجوع إلى القتال والمواظبة على ذلك.
(واستحيوا من الفر): من الانكشاف عن المعركة وموضع القتال، إذ الثبوت لايدني أجلاًلم يحضر، والفرار لاينجي من أجل قد قرب.
(فإنه عار في الأعقاب): العارهو: السبة والملامة في الأعقاب، أراد من يعقب الإنسان ويخلفه، وكان الرجل إذا فعل فعلاً يلام عليه عُيِّر به أولاده بعده، قالت ليلى الأخيلية :
لَعَمْرُكَ مَا فِي الموتِ عارٌ على الفَتى ... إذا لم تُصِبُه في الحياةِ الْمَعَايِرُ
أي المعايب.
(ونار يوم الحساب): لما ظهر فيه من الوعيد، بقوله: {وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }[الأنفال:16].
(وطيبوا عن أنفسكم نفساً): أراد ولتكن خواطركم منشرحة بتحقق البصيرة في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وطيبوا نفوساً بهذا، وانتصاب نفساً على التمييز بعد الفاعل.
(وامشوا إلى الموت مشياً سُجُحاً): وسيروا إليه سيراً سهلاً، والسجح: السهل، ومنه قولهم: ملكت فأسجح، أي سهِّل.

(عليكم بهذا السواد الأعظم): قوله: عليكم من باب الإغراء، كقولك: عليك زيداً ودونك عمراً ، وعليك ودونك اسمان من أسماء الأفعال ينصبان ما بعدهما، فعليك زيداً أي الزمه، ودونك عمراً أي خذه، وكان القياس هاهنا طرح حرف الجر، ولكنه أتى بالباء دالة على الملاصقة، كأنه قال: ألصقوا نفوسكم بهذا السواد الأعظم أي الجيوش المتكاثرة من أهل الشام وأحزابهم .
(والرواق المطنَّب): الرواق: الخيمة، والمطنب: المجعول له أطناب عظيمة، وأراد خيام معاوية ومضاربه، وفي الحديث: ((حيث ضرب الشيطان رواقه ومد أطنابه )) .
(فاضربوا ثبجه): الثبج من كل شيء: وسطه وثبج الرمل: معظمه.
(فإن الشيطان كامن في كسره): الكسر: الجانب، يقال: قعد في كسربيته، أي في جانبه، وأراد بالشيطان إما إبليس لإضلاله لهم وإغوائه إياهم فهو حاصل معهم أينما كانوا، وإما معاوية لخدعه بأصحابه ومكره بهم، فكلاهما محتمل.
(قد قدم للوثبة يداً): أراد إذا أمكنته فرصة وثب عليها متقدماً.
(وأخَّر للنكوص رجلاً): أراد وإذا لم يمكنه فرصة تأخر ليحصلها من بعد، وإنما علق الوثوب باليد لأنه عند الوثوب يعمل يديه ويتكل عليهما، وعلق النكوص على الرجل لأنه يعملها ويتكل عليها في التأخر لامحالة.
(فصمداً صمداً): أي اقصدوه قصداً، وإنما كرره لما فيه من مزيد التأكيد.
(حتى يتجلى لكم عمود الحق): يتضح لكم منار الحق عما يشوبه من تكدير الشبه، واستعاره من عمود الصبح عند تجليه عن ظلمة الليل.
(وأنتم الأعلون): لما معكم من الحق والبصيرة.
(والله معكم): بالتأييد والنصر.
(ولن يَتِرَكُم أعمالكم): ينقصكم أجور أعمالكم وثوابها على جهادكم.

وأقول: إن هذا لكلام من يقتحم موارد الموت، وينغمس في غمار الحرب مصلتاً سيفه، فيقطُّ الرقاب، و يجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً كما كانت خلائق أمير المؤمنين وشيمه.

36 / 194
ع
En
A+
A-