(وأثرة يتخذها الظالمون سنة ): الأثرة بالتحريك هي الاسم، والمصدر منها هو الأثر بالسكون، وأراد يستأثر عليكم بالأموال، وتؤخذ منكم كرهاً، يتخذها الفسقة وأهل الجور سنة، يجرونها مجرى السنة، في الحث عليها والمواظبة على فعلها فيكم، بلوى من الله تعالى وامتحاناً لما كان من جهتهم من البغي والفسوق.
(59) ومن كلام له عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج، وقيل له: إن القوم قد عبروا جسر النهر
الجسر: القنطرة التي يعبر عليها.
يحكى أنهم لما شقوا العصا وتخلفوا عنه وعزموا على المشاقة والحرب له واعتراض الناس بالسيف والقتل للصغير والكبير، وكان متوجهاً إلى حرب معاوية وأهل الشام فرجع إليهم، وقال:
(إن مصارعهم دون النطفة): مقاتلهم حيث صرعوا بيننا وبين النطفة، أراد به الفرات، وهو من الكنايات الرشيقة التي استبدَّ بها وكان مقتضياً لها.
(والله لا يفلتن منهم عشرة): يقول لأصحابه بل يقتلون عن آخرهم.
(ولا يهلك منكم عشرة): بل تنقلبون وافرين مُسَلَّمِيْنَ بعد قتلهم، وهذا منه على الأمر إخبار بالأمور الغيبية المستورة بإعلام الرسول له بذلك وتسلية لأصحابه في الظفر بأعدائهم والانتصار عليهم، وتشجيع لهم على الحرب والإقدام، فلما قتلوا قالوا له: هلك القوم بأجمعهم، فقال:
(كلا والله؛ إنهم نطف في أصلاب الرجال): أراد أن هؤلاء الموجودين وإن هلكوا بالقتل فسيأتي بعدهم آخرون منهم نفوس لم تخلق، ولا وجدت نطفهم بل هي في أصلاب الرجال.
(وقرارات النساء): القرارة: مايستقر فيها الماء القليل.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ما علمي بالقرآن في جنب علم أمير المؤمنين به إلا كالقرارة في المثعنجر ، أراد أنهم نطف مستقرة في قراراتها وهي أرحام النساء، والمعنى أنهم أجنة في بطون أمهاتهم، ونطف في أصلاب آبائهم.
(كلما نجم منهم قرن): نجم القرن إذا ظهر، ومنه نجم النبات إذا ظهر.
(قطع): استأصل الله شأفتهم بالسيف من أهل الحق.
(حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين): [حتى يكون في أعقابهم لصوص يأخذون أموال الناس خفية وسلابين] يأخذون أموال الناس جهرة [ثم] سلباً منهم كالطَّرارين والمختلسين.
(لا تقتلوا الخوارج بعدي): اعلم أن الخارجي اسم لمن يظهر على إمام الحق، ويمنعه عن القيام بأمر الله، مع اعتقاده لحق ما جاء به، ولا بد من اعتبار هذه القيود الأربعة : أن يكون المخروج عليه مقطوعاً بإمامته.
وأن يكون مانعاً له عن القيام بأمر الله مع أن له منعه.
وأن يكون معتقداً لحق ماهو فيه بالشبهة والتأويل، فمن هذه حاله فهو خارجي مستحق للأحكام التي سارها أمير المؤمنين في أهل البغي، كما قال أبو حنيفة : لولا سيرة أمير المؤمنين في أهل البغي ما كنَّا نعرف أحكامهم، فأما من عداهم من أهل الفسوق كالظلمة وأهل الجور فإنهم قد زادوا عليهم، والطرَّار والمختلسين، وغيرهم من أهل الفسوق، كما أن الكفَّار قد زادوا على الفسَّاق في الحكم، ولهؤلاء أحكام تخالف أحكام أولئك، موضعها الكتب الفقهية، فأراد لاتقتلوا الخوارج بعد موتي إلا مثل قتلي لهم، ولا تسيروا فيهم إلا مثل سيرتي، ولم يرد أنهم لا يقتلون بعده على الإطلاق، فإن حال غيره من الأئمة كحاله في ذلك بالإجماع من جهة الأمة.
(فليس من طلب الحق فأخطأه): بما عرض له من الشبهةوالتأويل، أراد بذلك الخوارج فإنهم تأولوا ما جاءوا به من البغي بشبهة عرضت لهم في ذلك.
(كمن طلب الباطل فأدركه): أراد معاوية، فإن فعله لما فعل من المحاربة ليس عن شبهة، وإنما كان على جهة المشاقة والتمرد والفسوق، فلهذا كان حاله مخالفاً لحال هؤلاء الخوارج، وهكذا الحال في الظلمة والفساق في عصرنا هذا، فإنهم زادوا على الخوارج في الحكم وأنافوا عليهم في ذلك، فلهذا لم يكونوا مشاركين لمن ذكرناه في الاسم والحكم.
(60) ومن كلام له عليه السلام لما خوِّف من أمر الغيلة
(وإن عليَّ من الله جُنة حصينة): الجُنة: ما يستر من درع أو غيره، والحصينة: المانعة، ومنه اشتقاق الحصن والحصان؛ لأنهما يمنعان صاحبهما عن السوء.
(فإذا جاء يومي): اليوم الذي قدر الله خروج نفسي فيه.
(انفرجت عني): الفرج هو: الشق، ومنه سمي الفرج لشقه، عني أي جاوزتني بانفراجها.
(وأسلمتني): من قولهم: أسلمه للقتل وزال عنه.
(فحينئذ): جاء يومي وانفرجت عني، والتنوين بدل من هذه الجمل السابقة.
(لا يطيش السهم): الذي أُرْمَى به بل يقع عليَّ.
(ولا يبرأ الكلم): الذي جرحت به، يقال: كلمه بالسيف إذا جرحه.
(61) [ومن خطبة له عليه السلام]
(ألا وإن الدنيا دار): يقام فيها مدة، ويلبث فيها أياماً.
(لا يسلم منها إلا فيها): أراد أنها موضع النجاة ومكان التجارة، و موضع التزود للآخرة، فلا تقع السلامة من شرها إلا فيها؛ لأن الآخرة ليست داراً للأعمال.
(ولا ينجى بشيء كان لها): يعني أن السلامة لاتكون بشيء من الأعمال التي تكون من أجلها أصلاً، وإنما تكون بما كان من أجل الله وطلب وجهه، فأما ما كان للدنيا فهو باطل ضائع.
(ابتلي الناس بها فتنة): امتحنهم الله تعالى بسببها محنة عظيمة، مزج حبها بأفئدتهم، وزين زهرتها في أعينهم.
(فما أخذوه منها لها): مما استهلكوه مما أعطاهم الله منها لطلب لذاتها، والتفاخر فيها.
(أخرجوا منه): نزعوا منه ولم يكن باقياً لهم دائماً.
(وحوسبوا عليه): لما أخذوه من غير حله، وأنفقوه واستعملوه في غير وجهه.
(وما أخذوه فيها لغيرها): وما استهلكوه مما أعطاهم الله منها لوجه الله تعالى، وطلباً للدار الآخرة.
(قدموا عليه): أحسن مقدم من الثواب والأجر العظيم.
(وأقاموا فيه): في الجنة حيث لا يظعن الساكن، ولايرحل المقيم.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها مع الإيمان بك والتصديق برسلك.
(وإنها عند ذوي العقول): الضمير للدنيا عند ذوي الأبصار المنتفعين بعقولهم.
(كفيء الظل، بينا تراه سابغاً): والظل: عبارة عما يسقط عن كل منتصب، بينا هو بين نشأت عنه الألف ، والسابغ هو: الفايض، ومنه قولهم: درع سابغة إذا كانت فايضة.
(حتى قلص): ارتفع وشمر.
(وزائداً حتى نقص): وأراد بذلك من طلوع الشمس إلى زوالها، فإن الظل لايزال ينقص بعد زيادته إلى أول الزوال، ثم يزيد بعد ذلك، وسابغاً وزائداً منصوب على الحال من الضمير في تراه.
(62)ومن خطبة له عليه السلام
(واتقوا الله عباد الله): التقوى هي: الإتيان بالطاعات، والانكفاف عن المعاصي، واشتقاقها من الوقاية؛ لأنها تقي صاحبها عن العقاب.
(وبادروا آجالكم بأعمالكم): أجل الإنسان: منقطع عمره، والمبادرة هي: المعاجلة، وأراد عاجلوا بأعمالكم قبل حلول الموت بكم.
(وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم): يقال للشرِي: بيع؛ لأنه يقع للثمن، وأراد واشتروا الآخرة الباقية بالدنيا الزائلة عنكم.
(وترحلوا فقد حُد يَ لكم): ترحل وارتحل إذا انتقل، والحدو هو: السوق، يعني انتقلوا عنها، وقد سيق بكم، ونهاية من يستاق هو الوصول إلى الغاية.
(واستعدوا للموت فقد أظل بكم): اطلبوا أهبة الموت فقد أشرف ودنا، وقوله: أظل بكم، إما بالطاء بنطقة من أسفلها أي أشرف، وإما بالظاء بنقطة من أعلاها أي دنا وقرب، وكلاهما محتمل كما ترى.
(وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا): ومثِّلوا أنفسكم بحال قوم صرخ بهم صارخ وهم نيام، فانتبهوا على أفزع ما يكون وأسرعه، من شدة الخوف والفزع
(وعَلِمُوا أن الدنيا ليست بدار لهم فاستبدلوا): الضمير للقوم، وتحققوا عذائر الصارخ أن الدنيا ليست بدارٍ لهم على الحقيقة؛ لزوالها، فعملوا على الاستبدال بها غيرها.
(فإن الله لم يخلقكم عبثاً): وإنما دخلت الفاء ها هنا دالة على انقطاع الجملة التي بعدها عمَّا قبلها، ومشعرة بالمباينة، بخلاف ما إذا كانت الجملتان في حكم الجملة الواحدة فإن الفاء لاتدخل، كقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ[شَيْءٌ عَظِيمٌ] }[الحج:1] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى:43] وهذا كثير الوقوع في كتاب الله تعالى، وفيه تحريك للرغبات إلى إحراز علم الإعراب، وشرف موقعه، وأراد أن الله خلقكم إحساناً من جهته ولم يكن ذلك لغير غرض: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً }[المؤمنون:115] والغرض هو الوصول إلى منافع الآخرة ودرجاتها.
(ولم يترككم سُدى): السُدى بالضم والفتح هو: الإهمال، أي لم يترككم مهملين عن الرعاية والحفظ والعناية.
(وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت ينزل به): أراد أن الغاية التي بين الحصول في الجنة أو في النار، ليس إلا حلول الموت ونزوله، فإنه عند معاينته ونزوله يرى مكانه من الجنة أو من النار، نسأل الله حسن الاستعداد لنزوله وهجومه.
(وإن غاية تنقصها اللحظة): اللحظة هي: حركة العين للإبصار، يقال: لحظني بعينه إذا أبصرني بها، وإنما كانت اللحظة ناقصة لها؛ لأنها تقرب منها وتدلي إليها.
(وتهدمها الساعة): هدمه إذا أبطله وأفسده، والساعة: عبارة عن الوقت الحاضر.
قال القطامي :
وكنَّا كَالْحَرِيْقِ لِذِيْ نَفَاخٍ ... فَتَخْبُو سَاعَةً وَتَهُبُّ سَاعا
والنَّفَاخُ هي: الريح إذا جاءت بقوة وشدة.
(لجديرة بقصر المدة): فلان جدير بكذا أي حقيق به، والمعنى أنه حقيق بأن تكون مدته قصيرة.
(وإن غائباً يحدوه الجديدان الليل والنهار): وإنما قيل لهما: جديدان؛ لأنهما لا يَخْلَقان ولا يبليان عمر الدهر.
(لحري بسرعة الأوبة): الحري: الحقيق أيضاً بالشيء، والأوبة هي: الرجوع.
(وإن قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة): أراد وإن قادماً يقدم على ربه إما بالشقاوة لتفريطه، وإمابالسعادة لتأهبه.
(لمستحق لأفضل العدة ): لأهل أن يكون مستحقاً لأفضل العدة وأعلاها وأشرفها.
(فاتقى عبد ربه): هذا خبر في معنى الأمر، وأراد ليتق الله امرؤ.
(نصح نفسه): بالمعاملة بالتقوى، والنصيحة لله تعالى.
(قدَّم توبته): خوفاً من الموت أن يسبقه عليها.
(غلب شهوته): بالانكفاف عن المحرمات، وحذف الواو من هذه الجمل نوع من أنواع البديع يسمى التعدية، وهذا كقولك: فلان يهب الألوف، يكرم الضيوف، يقود الجيوش.
(فإن أجله مستور عنه): لا يعلم متى يرد عليه بالانقطاع.
(وأمله خادع له): بالتغرير والتسويفات الباطلة.
(والشيطان موكل به): مجعولاً لمكان المحنة وشدة البلية كالوكيل الملازم الذي لاينفك عنه.
(يُزَيِّن له المعصية ليركبها): يُحَسِّنها في عينه ويهوِّن أمرها ليواقعها ويكون مرتكباً لها بغروره.
(ويمنيه التوبة ليسوِّفها): أراد ويخدعه بالأماني الكاذبة في انتظاره للتوبة فيقول: سوف أفعل سوف أفعل.
(حتى تهجم عليه منيته): هجم عليه السيل إذا أتاه على بغتة، وأراد بالمنية الموت.
(أغفل ما يكون عنها): وهو في أشد ما يكون من الغفلة عنها، وانتصاب أغفل على الصفة للمصدر، أي هجوماً يغفل فيه عنها، وما نكرة موصوفة كقولك: ربما تكره النفوس.