(54) ومن كلام له عليه السلام
(فتداكوا عليَّ): تدافعوا عليَّ أي دفع بعضهم بعضاً، من الدكِّ وهو: الدفع. وقوله: عليَّ، أي: من فوقي.
(تداك الإبل): مثل تدافع الإبل.
(الهيم): جمع أهيم وهي: العطاش، قال الله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ }[الواقعة:55].
(يوم وردها ): وردها الماء لتشربه، يقال: هذا يوم وردي، أي يوم ورود الحمَّى علي.
(قد أرسلها راعيها): من غير ترتيب بينها، ولا مناوبة في شربها.
(وخلعت مثانيها): حبالها التي تثنى عليها للإمساك لها.
(حتى ظننت): خيل إليَّ من جهة الظن لكثرة ازدحامهم عليَّ.
(أنهم قاتلي): بالازدحام على أخذ كفي.
(أو بعضهم قاتل بعض):حيث [كان] بعضهم على بعض.
(لدي): في موضعي ومكاني وحوزتي .
(وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره ورأسه وعينه [حتى منعني النوم ]): إحاطة بأحواله، واشتمالاً على جميع أموره في الإقدام والإحجام.
(فما وجدت يسعني ): فما لقيت أمراً يكون لي فيه سعة عند الله وفسحة يعذرني بها.
(إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله): إلا أحد أمرين :
إما قتالهم لمخالفتهم الحق وبغيهم فيما جاءوا به، وإما الكفر بما أتاني به الرسول وأثرته عنه، وأخبرني به حيث قال لي: ((إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والما رقين عن الدين )) ، فإن لم أقدم على قتالهم كان ذلك رداً لما جاء به محمد صلى الله عليه وآله.
(فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب): من حيث كان تعب القتال منقطعاً وتعب العقاب غير منقطع.
(وموتات الدنيا): [بما] يكون من الجروح ومعاناة الحرب موتة بعد موتة.
(أهون عليَّ من موتات الآخرة): لأن موتات الآخرة لا آخر لها، وموتات الدنيا لها آخر، وهو الموت الحقيقي، فلأجل هذا تجرعت حربهم وصبرت عليه.
(55) ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
(أما قولكم أكل ذلك كراهية الموت؟): أراد أنه ليس الأمر كما زعمتم من ذلك، وإنما كان لأمور سأحكيها لكم.
(فوالله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليَّ): هذا كلام أورده على جهة الاستعارة، ومعناه: ما أبالي دخلت على الموت بالوقوع بين أسنة الرماح ونصال السيوف، أو خرج الموت إليَّ فأزهق روحي وأنا على فراشي، وواضع خدي على الوسادة، فاستعاره لما فيه من البلاغة والوفاء بالمطابقة، والتكافؤ بذكر الشيء ونقيضه.
سؤال: لِمَ أضاف الدخول إلى نفسه، وأضاف الخروج إلى الموت فقال: (دخلت على الموت أو خرج الموت إليَّ) و[لِمَ] لم يعكس الأمر في ذلك، فما وجهه؟
وجوابه: هو أن الدخول في الحرب تغرير بالروح ووقوع في خطر عظيم ومهلكة كبيرة فلما كان الأمران عنده مستويين أضاف إلى نفسه أعظمهما وهو الدخول، لما فيه من الغرر وركوب الخطر والمسامحة بالنفوس التي هي أعز الأشياء وأغلاها.
(وأما قولكم: شكاً في أهل الشام): من أن تأخري كان من أجل شكي وأنا على غير بصيرة في حربهم.
(فوالله ما دفعت الحرب يوماً): أخرتها وتقاعدت عن إنجازها.
(إلا وأنا أطمع): أرجو وأؤمل.
(أن تلحق بي طائفة): تتبعني فرقة من هذه الفرق الباغية والأحزاب المختلفة.
(فتهتدي بي): فأكون سبباً لها في الهداية، واتباع الحق والصواب، وأكون إماماً لها في ذلك.
(وتعشو): لتستدل وتميل.
(إلى ضوء ناري): إلى هدايتي ونور بصيرتي، يقال: عشوت إلى النار أعشو عشواً إذا استدللت[بها] .
(وذلك): إشارة إلى ما ذكره من الهداية واللحاق به.
(أحب إليَّ من أن أقتلها على ضلالها): وهي ضالة بمخالفتي والبغي عليَّ ولو قتلتها فليس علي في ذلك من جناح في قتلها.
(وإن كانت تبوء بإثمها): أي يكون عليها وباله، ومنه قوله تعالى:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ }[البقرة:61]، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ }[البقرة:90].
قال الأخفش: صار عليهم وباله.
(56) ومن كلام له عليه السلام
(ولقد كنَّا مع رسول الله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا): أراد جميع الأقارب، كما كان في بدر [وغيره] وسائر الغزوات مع الرسول عليه السلام تقرباً إلى الله تعالى وإرضاءً له.
(ما يزيدنا ذلك): القتل للآباء والأبناء.
(إلا إيماناً): بالله وتصديقاً به.
(وتسليماً): وانقياداً لأمر الله وحكمه.
(ومضياً): جرياً، من قولهم: مضى في طريقه إذا جرى فيها.
(على اللقم): أراد الطريق، وسمي لقماً؛ لأنه يلتقم الناس، كما يسمى سراطاً لأنه يسترطهم أي يبتلعهم بسلوكهم له.
(وصبراً على مضض الألم): وجع الألم، من قولهم: أمضني الجراح إذا أوجعك.
(وجداً): الجد: نقيض الهزل.
(في جهاد العدو): استئصال شأفته وقطع دابره.
(ولقد كان الرجل منَّا): ممن يكون على ديننا.
(والآخر من عدونا): ممن لا يدين ديننا.
(يتصاولان): يتواثبان بالسلاح، يصول كل واحد منهما على صاحبه يريد قتله.
(تصاول الفحلين): أي مثل تصاول الفحلين، وصؤل البعير بالهمز إذا صار يقتل الناس ويعدو عليهم.
(يتخالسان أنفسهما): يريد كل واحد منهما أن يختلس نفس صاحبه بالسيف.
(أيهما يسقي صاحبه كأس المنون): والمنون: هو الموت والسقي والكأس من باب الا ستعارة، كما قال تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }[البقرة:93].
(فمرة لنا ): تكون الريح والدائرة والغلبة لنا عليهم في الأخذ والقتل والسبي، كما كان في بدر وحنين وغيرهما من المغازي.
(ومرة لعدونا): في الانتصار علينا كما كان في أُحد ومؤتة من الأخذ والقتل.
(منَّا): بقتل بعضنا وسلامة الآخرين، صبراً منَّا واحتساباً.
(فلما رأى الله صدقنا): علم من باطن قلوبنا الصدق في نصرة دينه والصبر في جهاد عدوه.
(أنزل بعدونا الكبت): الإذلال والمهانة، ويقال: كبته لوجهه أي صرعه.
(وأنزل علينا النصر): عليهم والغلبة لهم.
(حتى استقر الإسلام): تبتت قواعده، وقامت دعائمه.
(ملقياً جِرانَه): الجِران هو: مقدم عنق البعير، وانتصاب ملقياً على الحال من الإسلام، يقال: ألقى بجرانه إذا استقر به المكان.
(ومتبوِّئاً أوطانه): تبوأت المكان إذا اتخذته مبآءةً ، وأراد أنه استقر في أماكنه التي بلغها.
(ولعمري): هو مبتدأ محذوف الخبر أي لعمري قسمي.
(لو كنَّا نأتي ما أتيتم): من المخاذلة وقلة التناصر.
(ما قام للدين عمود): استعارة له من أعمدة الخيمة التي لا تنتهض إلا به.
(ولا اخضرَّ للإيمان عود): استعارة من عود الشجرة فإنه لا يورق ولا يثمر إلا إذا اخضر.
(وايم الله): جمع يمين، حذفت نونه لكثرة الاستعمال، وهو مبتدأ وخبره محذوف أي قسمي.
(لَتَحْتَلِبُنَّها دماً): أي الأيام، والضمير يفسره شاهد الحال، ودماً انتصابه على التمييز بعد المفعول.
(ولتُتْبعُنَّها ندماً!): على خذلانهم لي وتأخرهم عن متابعتي، وليعلمن مكاني بعد استبدالهم لغيري، ولقد كان الأمر كما قال، أبدلهم الله بأمير المؤمنين مروان بن الحكم وبالحسن الأكبش الأربعة من أولاده فطغوا وبغوا وخالفوا وغيَّروا.
(57) ومن كلام له عليه السلام لأصحابه
(أما إنه سيظهر عليكم بعدي): يليكم على جهة الاستظهار عليكم بعد وفاتي.
(رجل رَحْبُ البلعوم): الخطاب لأهل الكوفة، والرحب: هو الواسع، ومنه الرحبة، والبلعوم هو: مجرى الطعام إلى المعدة.
(مندحق البطن ): الاندحاق هو: الظهور، يقال: دحقت رحم الناقة إذا ظهرت من الولادة، وأراد أنه ظاهر البطن، وعنى بذلك زياداً فكانت هذه صفته، ويجوز أن يكون كنى بذلك عن كثرة أكله، كما قال الله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ }[المائدة:75]، جعله كناية عن قضاء الحاجة.
(يأكل مايجد): [يخضم ما وقع في يده وقدر عليه.
(ويطلب ما لا يجد)] : مما فات عن يده ولم يقدر عليه.
(فاقتلوه): فإنه مستحق للقتل لفجوره وفساده وبغيه على أهل الحق وعناده.
(ولن تقتلوه): نفى قتله منهم على جهة المبالغة بلن، لما يعلم من عجزهم عن ذلك وتسلطه عليهم بالقهر والا ستيلاء والغلبة منه، وكان أمير المؤمنين قد استعمله على بعض الولايات كالأهواز وغيرها من النواحي، فلما قتل أمير المؤمنين التجأ إلى معاوية ولحق به.
(ألا وإنه سيأمركم بسبي): يحكى أنه لما استولى على الكوفة واستظهر عليها بعد قتل أمير المؤمنين جمع الناس في مسجدها ليأمرهم بلعن أمير المؤمنين وسبه، فلما عزم على ذلك أصابه الله بالفالج ، وهي: ريح تصيب الإنسان تفسد أعضاءه كلها، فلما وقع عليه ذلك خرج حاجبه فأمرالناس بالانصراف فانصرفوا، وردَّ الله غيظه عليه، وكان وقحاً ، متحامقاً، ذا رأي في المكر والخديعة.
ويحكى عن معاوية أنه قال: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للأناة والبديهة معاً.
(وبالبراءة مني): مما أنا عليه من الدين والدعاء إلى الله تعالى.
(فأما السب فسبوني): إذا حملكم على ذلك بالقهر بالسيف.
(فإنه لي زكاة): تطهير من الذنوب لما يكفر الله به عني من الذنوب للصبر عليه الآن وكظم الغيظ.
وفي الحديث: ((ما جرع عبد قط جرعتين بأعظم عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم، أو جرعة مصيبة يلقاها بصبر جميل)).
(ولكم نجاة): عن القتل بالسيف لأجل الإكراه، وهذا من أمير المؤمنين تساهل في حق نفسه وتواضع لله تعالى، وهضم بجانبه حيث أباح الأذية له بالإكراه، وقد تقرر أن ما كان ضرره راجعاً إلى الغير كالقتل والقذف فإنه لا يدخله الإكراه.
(وأما البراءة فلا تبرَّءوا مني): وإذا أمركم بالبراءة مني فلا تفعلوا؛ لأن البراءة مني خروج عن الدين وانسلال عن الحق.
سؤال؛ كيف أمرهم بسبِّه عند الإكراه، ونهاهم عن البراءة عنه، وكلاهما في باب الإكراه على سواء بل نقول: البراءة منه ضرر راجع إليهم فأبيح بالإكراه؛ بخلاف سبه فإن ضرره راجع إليه؛ فلهذا لم يدخله الإكراه؟
وحوابه؛ هو أنَّا قد ذكرنا أن إباحته لسبِّ نفسه إنما هو على جهة الهضم لنفسه وإسقاط حقها، وهو مما يدخله الإكراه، فأما البراءة منه فهو [في] الحقيقة ضرره راجع إلى الغير، وهو ما يحصل فيه من إيهام الخطأ على أمير المؤمنين، وأنه داعي إلى الضلالة بالتبري عنه ويحط من منصبه في كونه داعياً إلى الله تعالى، مستقيماً على دينه الحنيف وحجته الواضحة، وما هذا حاله فلا يباح بالإكراه لما يتضمن من نقص الدين وثلمه، وإبطال أبهته فافترقا.
(فإني ولدت على الفطرة): تعليل للمنع من التبري عنه، أي أني خلقت في أول حالتي على الإيمان والهدى من توحيد الله وتنزيهه، وذلك لأن الله تعالى [إذا] أعطى الإنسان العقل في أول الفطرة، فلو لم تعرض له أسباب الضلال بعد ذلك، فكان مقتضى ذلك معرفة الخالق وتوحيده ولزوم سبيل الهدى وطريقه.
(وسبقت إلى الإسلام والهجرة): أما الإسلام فظاهر، فإن الرسول عليه السلام بعث يوم الإثنين، وأسلم أمير المؤمنين يوم الثلاثاء، ما سبقه أحد من الخلق إلى الإسلام، وأما الهجرة فكذلك.
سؤال؛ كيف قال: سبق إلى الهجرة، وهو لم يهاجر مع الرسول يوم هاجر من مكة، ولم يكن مصاحباً له إذ ذاك؟
وجوابه؛ هو أن تخلفه ما كان إلا من أجل أمر الرسول له بالوقوف لقضاء ديونه ورد ودائعه، فلم يسعه مخالفة الرسول فيما أمر به، ولم يكن يتخلف عنه لولا ذلك، فلهذا وصف نفسه بالسبق إلى الهجرة بالقصد والداعي والإرادة والعزم على ذلك.
(58) ومن كلام له عليه السلام كلَّم به الخوارج
(أصابكم حاصب): الحاصب هي: الريح الشديدة التي تثير بشدتها الحصباء، كما قال تعالى في قصة قوم لوط: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا }[القمر:34].
(ولا بقي منكم آبر): وهذا دعاء عليهم، والآبر هو: الذي يؤبر النخل ويصلحه، كما يقال: ما بقي منهم نافخ نار، ويروى آثر وهو: الذي يأثر الحديث ويرويه، كما يقال: ما بقي منهم مخبر، فأما آبز بالزاي فمعناه بعيد فلا وجه له ، على أنه لما وقع من أمر التحكيم [ما وقع] ، وكان الدعاء إلى التحكيم خديعة ومكراً من معاوية بإشارة عمرو بن العاص، فقالت الخوارج بعد ذلك: هذا خطأ وكفر في دين الله، وقد كفرت يعنون أمير المؤمنين وكفرنا، فتب حتى نبايعك.
فقال عليه السلام مجيباً لهم:
(أبعد إيماني بالله): تصديقي به، واعترافي بوحدانيته.
(وجهادي مع رسول الله [صلى الله عليه] ): وبذل نفسي للمجاهدة مصدقاً لما جاء به الرسول ومعترفاً به.
(أشهد على نفسي بالكفر): أقرُّ بأني كافر بالله؛ لأن الإقرار شهادة على النفس.
(قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين): فالضلال حاصل لسبب الكفر الذي طلبوه منه وعدم الهداية حاصلة بترك الحق وإهمال الدين .
(فأوبوا شر مآب): دعاء عليهم، وآب الرجل إذا رجع إلى أهله، وشر مآب انتصابه على المصدرية كضرب السوط، وأراد جعل الله رجوعكم أشر حال عليكم.
(وارجعوا على [أثر] الأعقاب): في التولي عن الدين فساقاً خارجين عن الإسلام، يقال: فلان رجع على أعقابه إذا ارتد وكفر وفسق.
(أما إنكم ستلقون بعدي): تجدون بعد موتي وانقضاء خلافتي.
(ذلاً شاملاً): لا يبقى أحد منكم إلا ناله.
(وسيفاً قاطعاً): يقطع دابركم ويستأصل شأفتكم بالقتل .