(لم يطلع العقول على تحديد صفته): أراد أن العقول وإن دلت على كونه قادراً وعالماً وحياً وسائر صفاته؛ فإنها قاصرة عن الاطلاع على كنه حقيقة القادرية والعالمية، وغيرهما من الصفات؛ لأن حقيقة الذات إذا كان غير معلوم للبشر ، فهكذا حالة الصفة أيضاً خلافاً للمعتزلة وأكثر المتكلمين، وقد رمزنا إلى ذلك في كتبنا العقلية، وذكرنا الحق فيه.
(ولم يحجبها عن واجب معرفته): الضمير للعقول، وأراد أنها وإن لم تطلع على حقيقة الصفة فإنها غير محجوبة عن واجب معرفته بما أظهر لها من البراهين على ذلك.
(فهو الذي تشهد له أعلام الوجود): فهو المعهود بشهادة الأدلة الوجودية.
(على إقرار قلب ذي الجحود): على أن قلوب الجاحدين مقرة بوجوده وإن كانت ألسنتهم منكرة لوجوده عناداً وجحوداً وتمرداً وضلالاً.
(تعالى الله عمَّا يقول المشبهون له): بالخلق في الجسمية، والأعضاء والجوارح، والكون في الأمكنة والحلول في المحالِّ.
(والجاحدون له): بنفي وجوده، وإثبات أمور كاذبة، وخيالات باطلة كالعقول والأفلاك كما تزعمه الفلاسفة، أو إثبات نجوم مؤثرة في هذه العوالم كما يزعمه أهل التنجيم، وغير ذلك من المذاهب الرديئة والأقاويل المنكرة.
(علواً كبيراً): تعالياً يكبر عن أن ينال بحد وصفه.

(50) ومن خطبة له عليه السلام
(إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع): أشار بما ذكره إلى الأسباب الموجبة لوجود الفتن ووقوعها فقال: هي أهواء تتبع أي: أنها أمور تفعل متابعة للهوى للنفوس، ويوافق بها مراداتها، والنفوس أمارة بالسوء.
(وأحكام تبتدع): تخترع من غير دلالة عليها.
(يخالف [فيها] كتاب الله): إما تخالفه بأن لا يكون فيه ما يدل عليها، وإما تخالفه بأن تكون مناقضة لحكمه.
(ويتولى عليها رجال رجالاً): أراد ويقهر فيها رجال لرجال آخرين بالاستيلاء والسلطنة، وهذه التولية تكون منحرفة عن الحق.
(على غير دين الله): على غير مراده وقصده، وعلى مخالفة أمره وكتابه.
(فلو أن الحق خلص من لبس الباطل): أراد أن الحق لو تميز عما يشوبه من التباس الباطل به وتعلقه به [و] من بعض وجوهه.
(انقطعت عنه ألسن المعاندين ): بتجلي وتوضح، وعند وضوحه وانكشافه ينقطع عنه ألسنة من عانده بالإنكار له والجحود.
(ولو أن الباطل خلص من مزاج الحق): أراد أن الباطل لو تميز عن أن يمازجه شيء من الحق.
(لم يخفَ على المرتادين): لم تلحقه خفية على الطالبين له، والمرتاد هو: الطالب، وفي الحديث: ((إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله )) أي يطلب له موضعاً ليناً.
(ولو أن الحق خلص من لبس الباطل): امتاز عن تعلقه وشموله له.
(انقطعت عنه ألسن المعاندين ): لأنه يصير واضحاً جلياً، لامطعن فيه لأحد ممن يخالف الحق ويعدل عنه.
سؤال؛ أراه في كلامه هذا سمى تعلق الباطل بالحق لبساً، وسمى تعلق الحق بالباطل مزاجاً وكل واحد منهما له اتصال بالآخر، فما وجه التفرقة بينهما؟

وجوابه؛ هو أن اتصال الباطل بالحق له تأثير عظيم، فله فيه موقع جليل بحيث يلتبسه ويغطي عليه، فلهذا سمى اتصاله به لبساً، بخلاف اتصال الحق بالباطل؛ فإن حكمه ضعيف لا يكاد يوجد فيه ، فلهذا سمى اتصاله بالباطل مزاجاً؛ لأن المزاج يكون أقله كمزاج الخمر بالماء والعسل فإنه يكون جزءاً قليلاً منها.
(ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث): الإشارة بقوله من هذا ومن هذا إلى الحق والباطل، والضغث: قبضة من حشيش، وفي مثالهم: ضغث على إبّالة، والإبّالة هي: الحزمة الكبيرة، ومراده يؤخذ من هذا نصيب ومن هذا نصيب.
(فيمزجان): يخلطان بعضهما في بعض بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر.
(فهنالك): إشارة إلى مو ضع الامتزاج؛ لأن هنا موضوع للإشارة إلى الأمكنة، واللام دالة على البعد.
(يستولي الشيطان): يشتد أمره، ويستحكم سلطانه.
(على أوليائه): أتباعه وأعوانه، بإيثار الباطل والانقياد له، وغمص الحق واجتنابه.
(وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى): بما كان منهم من إيثار الحق [واتباع] آثاره، والإعراض عن الباطل وإهداره، وفي كلامه هذا من الحث على طلب البصائر، والتشمير على ساق الجد في تحصيلها ما لا يخفى على الأذكياء.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن آثر الحق على هواه، وترك الباطل وراء ظهره وتعدَّاه.

(51) ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه على شريعة الفرات بصفين، ومنعوهم من الماء
والشريعة: مشرعة الماء، وهي: مورد من يشرب منه:
(قد استطعموكم القتال): سألوكم القتال وطلبوه منكم، من قولهم: استطعمت فلاناً إذا سألته أن يطعمك، يشير بذلك إلى بغيهم وعنادهم.
(فأقروا على مذلة): المذلة: الذل والهوان.
(وتأخير محلة): الْمَحَلَّة بالفتح هو: المنزل، يقال: هذه مَحَلَّةُ القوم أي منزلهم، والإقرار: من القرار، وهو نقيض الظعون، والتأخير: هو نقيض التقدم، والمعنى في هذا هو أن القوم قد طلبوا منكم القتال ودعوكم إليه، فإن لم تعطوهم إياه وتمنحوهم الضرب بالصوارم والطعن بالرماح فاقعدوا في أماكنكم على الذل، وتأخروا عن المراتب العالية، وهذا منه عليه السلام تهييج لهم على القتال، وإلهاب لأحشائهم في اقتحام موارد الموت، ولا يجوز أن يكون، قوله: فأقروا من الإقرار لأنه عدّاه بعلى، فلهذا كان من القرار.
(أرووا السيوف من الدماء): أوصلوها أكنافهم واقطعوا بها أوصالهم؛ لتكون السيوف شاربة من دمائهم راوية.
(ترووا من الماء): بقتلهم والوصول إلى ما حازوه من الماء فترووا منه.
(فالموت في حياتكم مقهورين): أراد أن حياتكم بالتأخر عن القتال وركوب المذلة هو الموت بعينه لما فيه من الخمول والنقص في الأعين.
(والحياة في موتكم قاهرين): أراد أن موتكم بالقتل هي الحياة في الحقيقة في الآخرة الدائمة لما فيه من العز ومنشور الذكر بقهركم لهم وإذلالكم إياهم.

(ألا وإن معاوية قاد لُمَّة من الغواة): اللُمَّة: الجماعة، حذفت لامه وعوض منها مثل كُرّة وقُلَّة، وإنما ذكره باسمه المعروف به، ولم يقل: ألا وإن صاحبهم ليدل بذكر لقبه على ما اشتمل عليه من لقب له في الصفات الخبيثة، والسمات السيئة، وقوله: قاد تعريض بجهلهم وأنهم لا يملكون بصيرة لأنفسهم في مخالفته بهم، عماة عن الحق، غواة عن طريقه، طغاة أجلاف.
ويصدق ذلك أن رجلاً من أهل الشام قاتل قتالاً شديداً، فقال له بعض أصحاب أمير المؤمنين: يا فتى، أتدري من تقاتل؟ قال نعم، إن أصحابي يخبروني أن صاحبكم هذا لا يصلي، فقال له: فكيف تقول ذاك، وهو أول من صلى وأجاب الرسول إلى الهدى، وأصحابه أهل القرآن والفقه، فرجع الفتى وترك القتال، ثم عاد إلى أصحابه فقالوا: خدعك العراقي، فقال: لا والله، ولكنه نصح لي، وخلّى المحاربة .
(وغمَّس عليهم الخبر): غمَّس بالسين المثلثة التحتانية والغين والعين جميعاً إذا لبس الأمر فلا يدرى من أين يؤتى، وأراد أنه لبَّس عليهم أمورهم وأتى لهم من كل جهة.
(حتى جعل نحورهم أغراض المنية): حتى أوردهم حياض الموت، والغرض بغين منقوطة هو: ما يرمى من قرطاس وغيره، وأراد أنه صير نحورهم هدفاً للنبال ودرَّية للرماح من أهل الحق.
واعلم: أن كلامه في هذه الخطبة مشتمل على نوعين من أنواع البديع:
أولهما: قوله: (أرووا السيوف من الدماء ترووا من الماء): وهذا يسمى التجنيس المزدوج، ونظيره قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ }[آل عمران:54]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }[النساء:142]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ }[البقرة:194]، وهو كثير.

وثانيها : الطباق، وهو قوله: قاهرين، ومقهورين، وحقيقة الطباق؛ أن يأتي بالشيء وضده، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا }[التوبة:82] ومنه قول دعبل :
لا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيْبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى
وقول الجعدي :
فَيَا عَجَبا كَيْفَ اتَّفَقْنَا فَنَاصِحٌ ... وفيٌّ وَمَطْوِيُّ عَلَى الْغِلِّ غَادِرُ
وهذان النوعان لهما موقع عظيم في البلاغة.

(52) ومن خطبة له عليه السلام
(ألا وإن الدنيا قد تصرمت): التصرم هو: الزوال والتفرق، أي ذهبت قليلاً قليلاً، كقوله تعالى: {نَزَّلْنَا الذّكْرَ }[الحجر:9].
(وآذنت بانقضاء): الإيذان: هو الإعلام، والانقضاء: هو الذهاب، ومنه قولهم: انقضى الأمر أي ذهب.
(وتنكَّر معروفها): إما صار ما كان منها معروفاً منكراً لكثرة ما يعرض له من التغيير، وإما صار المعروف فيها منكراً لقلة من يفعله ويأتيه.
(وأدبرت حذَّاء): أي أنها ولت مسرعة، واشتقاقه من الحذذ وهو خفة شعر الَذنَب.
(فهي تحفز بالفناء سُكانَها): الضمير للدنيا، أراد أنها تعجل بالموت من كان لابثاً فيها.
(وتحدو): تسوق.
(بالموت جيرانها):من كان معمراً فيها.
(وقد أمرَّ منها ما كان حلواً): يعني أن حلاوتها ممزوجة بمرارة، فما يحلو منها شيء من لذاتها إلا وأعقبه مرارة من ضرائها.
(وكدر منها ما كان صفواً): فما يصفو منها شيء من نعيمها إلا وكان عاقبته الكدر من بؤسها.
(فلم يبق منها): لزوالها وتقضي الأكثر منها.
(إلا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الإداوة): السَمَلة بالسين بثلاث من أسفلها هو: البقية من الماء، والإداوة: إناء من أدم للماء.
(أو جرعة كجرعة المَقَلة): والمَقَلة بفتح القاف والميم: حجرصغيرة توضع في أسفل الإناء، لقسمة الماء، وذلك يكون عند قلة الماء في المغاور.
(لو تمززها): يمصُّها .
(الصديان): المتقطع جوفه من العطش.
(لم ينقع): بالقاف، من قوله: نقع الماء العطش نقوعاً إذا سكَّنه.
(فأزمعوا عباد الله الرحيل): الإزماع هو: الثبات في الأمر.
قال الكسائي : يقال: أزمعت الأمر، ولا يقال: أزمعت عليه .
وأراد اثبتوا على الانتقال.
(عن هذه الدار): دار الدنيا.

(المقدور على أهلها بالزوال): المحكوم على من كان فيها من أهلها والساكنين [فيها] بالذهاب والعدم
(ولا يغلبنَّكم): ولا يقهركم، من غلبه إذا قهره.
(منها الأمل): ما تأملونه من الحياة والميل إلى لذاتها المنقطعة.
(ولا يطولنَّ عليكم [فيها] الأمد): ما نفس لكم من هذه الآجال فهي حقيرة بالإضافة إلى انقطاعها.
(فوالله لو حننتم حنين الُولَّه العِجَال): الحنين: هو شدة الشوق، والُولَّه: جمع واله وهو: الذي ذهب عقله من شدة الوجد والحزن، والعِجَالُ: جمع عجالة وهي الناقة التي تسرع إلى ولدها.
(ودعوتم بهديل الحمام): الهديل بدال منقوطة من أسفل هو: صوت الحمام، يقال: هدل هديلاً مثل هدر هديراً، وإنما قال عليه السلام: بهديل الحمام؛ لأن العرب تزعم أنه كان على عهد نوح عليه السلام فرخ اصطادته جوارح الطير قالوا: فليس حمامة إلا وتبكي عليه إلى الآن.
(وجأرتم جؤار متبتِّلي الرهبان): الجؤار: هو التضرع، والتبتل: هو الانقطاع من الدنيا وإهمالها إلى الله تعالى، والرهبان: جمع راهب، وهم هؤلاء الذين يكونون في الصوامع رغبة إلى الله وانقطاعاً إليه، وتخلياً عن الدنيا، فهم حابسون لأنفسهم فيها.
(وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد): أما الخروج من الأولاد فهجرهم، والخروج من الأموال بإنفاقها لله تعالى وفي سبيله.
(التماس القربة إليه): طلباً للزلفة.
(في ارتفاع درجة عنده): من رفيع المنازل التي أعدها لأوليائه.
(أو غفران سيئة أحصتها كتبته ): الملائكة الموكلون بالكتابة للأعمال.
(وحفظها رسله): الملائكة الموكلون بالحفظ، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الإنفطار:10-11].

(لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه): اللام هي جواب القسم، والمعنى أن تلك العناية منكم والاجتهاد يكون قليلاً بالإضافة إلى مثل ما أعد الله للأولياء من الكرامة وقرة الأعين.
(وأخاف عليكم من عقابه): الذي أعدَّ لأعدائه من النكال والويل.
(وتالله): قسم ثاني، والأول عام لكونه جاء بالواو، والثاني خاص لكونه جاء بالتاء احتكاماً في البلاغة، وتوسعاً في الفصاحة، وقد جاء الأمران في كتاب الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ} {وتالله}.
(لو انماثت قلوبكم انمياثاً): ذابت أفئدتكم ذوباً.
(وسالت عيونكم): دموع أعينكم جارية على خدودكم من العبرة.
(رغبة إليه): طمعاً فيما عنده من الثواب.
(ورهبة منه): لما عنده من أليم العقاب.
(دماً): انتصابه على التمييز أي سالت دماً، وما بينهما من الكلام عارض.
(ثم عمرتم في الدنيا): طالت أعماركم وأنتم على هذه الحالة من الرغبة والرهبة وذوب القلوب، وسيلان الأعين دماً خشية من الله.
(ما الدنيا): ما هذه هي: الظرفية، والتقدير مدة كون الدنيا.
(باقية لكم): دائمة لكم وأنتم فيها دائمون.
(ما جزت أعمالكم): ما هذه للنفي، وهي جواب القسم بالنفي، والأول كان بالإثبات، والمعنى ما كافت أعمالكم.
(-ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم-): ولو لم تتركوا غاية مما تقدرون عليه.
(نِعَمَه): منصوب على المفعولية بجزت ، وما بينهما متوسط عارض.
(عليكم ): الواقعة عليكم والشاملة لأحوالكم.
(وهداه إياكم إلى الإيمان): ونعمته باللطف إلى الهداية إلى الدين بما كان من إرسال الرسل، وبعث الأنبياء وغير ذلك من الألطاف الخفية.

(53) [ومن خطبة له عليه السلام في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية]
ثم ذكر صفة الأضحية وهي ما يذبح في أيام النحر، يقال لها: إضحية وأُضحية بكسر الهمزة وضمتها، وضحية وأضحاة:
(ومن تمام الأضحية): إكمالها لتكون مجزية عن السنة.
(استشراف أذنها): استشرف الشيء إذا رفع بصره إليه ووضع كفه على حاجبه ليتحقق أمره ويتيقنه فيطالع أذنها.
(وسلامة عينها): لا يعتريهما شيء من التغير الذي يطرأ عليهما.
(فإذا سلمت العين): من العوارض كالعمى والعور وغير ذلك.
(والأذن): من القطع والشق والخرم والثقب.
(سلمت الأضحية): أجزت.
(وتمت): السنة بذبحها.
(ولو كانت عضباء): قال أبو زيد: العضب كسر القرن الداخل، وهو المشاش .
(تجر رجلها إلى المنسك): أراد ولو كانت عرجاء فلا بأس بذبحها، وهذا يدل على اعتبار حالة العين والأذن في الأضحية لا غير، من غير زيادة على ذلك، والمنسك: موضع النسك، وقياسه الفتح، وكسره هو المسموع وإن خالف القياس.

33 / 194
ع
En
A+
A-