(ولا يعطى البقاء من أحبه): وليس يكون البقاء واقفاً على اختيار مختار، وإنما هي آجال مقدرة وأمور مقضية في الموت والبقاء عند علاّمها: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ }[فاطر:11]، وقوله: فما ينجو من الموت، بعد قوله في صفة الأولياء والأعداء ما قاله، من باب الاستطراد، إذ كان لا ملاءمة بينهما.
(39) ومن خطبة له عليه السلام
(منيت بمن لايطيع إذا أمرت): أراد بليت، من قولهم: منيته إذا ابتليته بكذا، ثم لا يريد طاعتي إذا أمرته بها.
(ولا يجيب إذا دعوت): ولا يلبي دعوتي بالإجابة إذا ما ناديته.
(لا أبا لكم): قد قررنا شرحه، والمراد ها هنا فُهِمَ بتأخرهم عن الإجابة عن النداء ونكوصهم عن امتثال مراده عند أمره لهم.
(ما تنتظرون بنصرتكم لربكم): ما ترتقبون في القيام بأمر الله والنهوض للجهاد في سبيله؛ حيث قال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد:7].
(أما دين يجمعكم): أراد أن الهوى وإن كان مختلفاً من حيث كان لكل واحد غرض؛ لكن الدين وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، هو الجامع للأغراض وهو جامع المختلفات لما في أهله من الغيرة والحمية والعزة.
(ولا حمية): الحمية هي: الاحتماء.
(تحمسكم ): بالسين والحاء المهملين أي تغضبكم.
(أقوم فيكم): أنادي في أمكنتكم.
(مستصرخاً): طالباً لمن ينصرني، ويكون عوناً لي على ما أريده.
(وأناديكم): وأهتف بكم.
(متغوثاً): مستجيراً في أنديتكم.
(فلا تسمعون لي قولاً): لميلكم إلى التخاذل، وجنوحكم إلى الراحة.
(ولا تطيعون لي أمراً): لعزمكم على المخالفة، وجدكم على المعارضة.
(حتى تكشفت الأمور): اتضحت، من كشفه إذا أوضحه.
(عن عواقب الإساءة): إساءتكم لي لمخالفتكم لأمري، فكان عاقبة ذلك المذلة والهوان.
(فما يدرك بكم ثأر): فانتهى بكم الذل إلى أنكم لا تدركون ذحلاً لأحد منكم، والثأر: الذحل، والثائر: الذي لا يترك ذحله حتى يأخذه.
(ولا يبلغ بكم مرام): ولا ينتهي بنجدتكم إلى مقصد من المقاصد الدينية والدنيوية.
(دعوتكم): وأمارة ما قلته فيكم من الهوان والذل أني ناديتكم.
(إلى نصر إخوانكم): إلى الإعانة لمن كان أخاً لكم في الدين.
(فجرجرتم): الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته ضجراً به وكراهة للجمل.
(جرجرة الجمل الأشر ): الأشر بالشين المثلثة الفوقانية هي: البطر، ومنه أشر الرجل إذا بطر، والأسر بالسين المثلثة التحتانية: احتقان البول، ومنه قولهم: أسر الرجل إذا أصابه هذا الداء، وكله محتمل ها هنا؛ لأن الجرجرة تحتمل أن تكون من البطر، ومن شدة هذا الداء، ومراده المبالغة في تخاذلهم.
(وتثاقلتم): وجنحتم إلى الدعة من الثقل، وهو نقيض الخفة.
(تثاقل النضو الأدبر): النضو هو: البعير المهزول فإنه بطيء الحركة لهزاله وضعفه.
(ثم خرج إليَّ منكم جنيد متذايب ): ثم كان [في] عاقبة الأمر بعد مكابدة الشدة خرج إليَّ جنيد، وإنما حقَّره لضعفه وحقارته، ومن للتبعيض أي جنيد هو بعض منكم،
متذايب: مضطرب، من قولهم: تذايب الريح إذا اضطرب هبوبها، وسمي الذئب ذئباً لاضطراب مشيه.
(40) ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا لله
قال: (هذه كلمة حق يراد بها باطل): اعلم أن الخوارج لما طعنوا عليه في أمر التحكيم حاجَّه ابن الكوّاء وقال له: لِمَ حكَّمت الرجال في دين الله؟ فصرخ أمير المؤمنين بأعلى صوته، وقال:
(إني لم أُحكِّم الرجال، وإنما حكَّمت كتاب الله فإن حكموا به قبلت وإلا رددت).
فقال له ابن الكوّاء: فلمَ حكَّمت أبا موسى الأشعري؟ فقال لهم:
(إنكم جئتم به مترعاً ، وقلتم: لا نرضى إلا به) فقال ابن الكوَّاء: إنه قد ضل وأخطأ، فقال له أمير المؤمنين:
(أرأيتم لو أرسل رسول الله مؤمناً يدعو الكفار فارتد على عقبه كافراً هل كان يضر رسول الله شيئاً)؟
قالوا: لا
قال: (فما ذنبي إذا ضل أبو موسى).
قال ابن الكوَّاء: فَلِمَ تركت التسمي بإمرة المؤمنين في كتابك، وكتبت اسمك واسم أبيك؟ فقال أميرالمؤمنين:
(أليس رسول الله قد فعل ذلك، فإنه لما انعقد صلح الحديبية بينه وبين سهيل بن عمرو، وكتب النبي عليه السلام: ((هذا ما صالح عليه محمد رسول الل ه سهيل بن عمرو))، فقال سهيل: إنّا لو أقررنا أنك رسول [الله] ما حاربناك، فاكتب اسمك واسم أبيك، فقال لي : ((اكتب محمد بن عبد الله فإن ذلك لايضر نبوتي شيئاً )) فهكذا أنا).
فقال له ابن الكوّاء: خصمتنا ورب الكعبة .
فلما قالوا: لا حكم إلا لله، وغرضهم إبطال إمامته بالتحكيم، فقال:
هذه وإن كانت كلمة حق، فإن الخلق والأمر والقبض والبسط لله، ولكنكم قصدتم مقصداً فاسداً، وهو بطلان أمري بالتحكيم.
(نعم [إنه] لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة): ويبطلونها بما زعموه.
(وإنه لا بد للناس من أمير): مراعاة لمصالحهم، وإقامة لأمور دينهم.
(بر): عادل.
(أو فاجر): ظالم غشوم.
(يعمل في إِمْرَتِهِ المؤمن): يفرغ للأعمال الصالحة عن شواغل الفتن.
(ويستمتع فيها الكافر): ويفرغ لطلب المعيشة وإصلاحها، وهذه إشارة منه عليه السلام إلى أن إمرة الفاجر فيها صلاح عام كما ذكر، وقد أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وآله بقوله:
((إمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم )) لما في ذلك من كفِّ البغاة وزمِّ المتسلطين على الخلق بالفتن وإثارتها.
(وَيُبَلِّغُ الله فيها الأجل): أراد الأجل الذي قدره الله تعالى وحتمه بالموت دون ما يحصل بالقتل، فإن المقتول كان يجوز بقاؤه ويجوز موته، فأما الميت فلا شك في كونه مستوفياً لعمره المقدر له، فأشار بذلك إلى ما قلناه.
(ويجمع الله فيها الفيء ): الضمير في قوله: فيها راجع إلى الإمرة، وأراد بالفيء المغنم؛ لأن أمره إلى الإمام يقسمه في أهله كما أمر الله.
(ويقاتل به العدو): أراد الإمام، والضمير له، إما أهل الحق ، وإما أهل البغي والفسوق وأهل التمرد.
(وتأمن به السبل): بقوته وشدة بسطته، وأراد الطرقات.
(ويؤخذ به): أراد بقوته ونفوذ سلطانه.
(للضعيف): حقه.
(من القوي): المتكبر عن أداء حقه بقوته.
(فيستريح برٌّ ): في ظله وكنفه.
(ويستراح من فاجر): بكفِّه وزمّه عمَّا أراد من التسلط على غيره من الضعفاء.
ثم لما سمع ولوعهم بذكر التحكيم، قال:
(حكم الله أنتظر فيكم): ما يقدِّره لي ويقوِّي عليه عزيمتي من سلامتكم إن رجعتم، أو قتلكم إن نكصتم على أعقابكم، ثم قال:
(أما الإِمْرَة الْبَرَّة): الصادرة على رضوان الله، والعاملة بأحكامه.
(فيعمل فيها التقي): فيفرغ وَيُقْبِلُ على عمله للآخرة وإصلاح دنياه.
(وأما الإمرة الفاجرة): المخالفة لأمر الله التي يكون مزاجها الظلم.
(فيتمتع فيها الشقي): فيكون فيه متاع لأهل الشقاء وبلغة لهم.
(إلى أن تنقطع مدته): ببلوغ أجله.
(وَتُدْرِكَهُ منيته): يعني الموت.
سؤال؛ لِمَ قال في الإمرة البرة: يعمل فيها التقي، وخص الإمرة الفاجرة يتمتع[بها] الشقي، وكلاهما [لا بد له] من المتعة؟
وجوابه؛ هو أن المؤمن ليس غرضه المتعة، وإنما غرضه التجارة بالأعمال الصالحة، المتاجر الرابحة بالجنة، وأما الشقي فأعظم أغراضه هو المتعة إذ لا همَّ له في الآخرة، فلهذا خالف بينهما لما ذكرناه، فذكر ما هو الأهم من مقصد كل واحد منهما.
(41) ومن خطبة له عليه السلام
(إن الوفاء توءم الصدق): أتأمت المرأة إذا ولدت ولدين في بطن واحد، وأراد أن الوفاء والصدق أخوان، وهذا صحيح فإنه لا وفاء لكاذب في كل ما قال أو عقد به، ويحمله الكذب على الغدر، والإخلال بقوله ووعده.
(ولا أعلم جُنة أوقى منه) الجُنة بالضم: ما سترك من لباس وغيره، أوقى من الوقاية، والمعنى أن الصدق أعظم ما يستتر به الإنسان من العيوب.
(وما غدر من علم كيف المرجع ): أراد ويستحيل الخدع والمكر ممن علم المعاد إلى الآخرة، وتحقق حالها في المناقشة.
(ولقد أصبحنا في زمان): صرنا إلى مدة، وأصبح من الأفعال التي يقترن مضمون الجملة بأزمانها مثل كان.
(اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً): الكيس هو: الظرف وحسن التصرف، وأراد أنهم استعملوه وعدوه من الظرف، وحسن التصرف في أمورهم.
(ونسبهم أهل الجهل[فيه] ): وعزاهم من لا بصيرة له بذلك .
(إلى حسن الحيلة): إلى جودة التصرف، والحيلة هي الاسم، والمصدر هو الاحتيال.
([مالهم] قاتلهم الله!): تعجب من جهلهم فيما زعموه من ذلك.
(قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ): أراد تكذيبهم فيما توهموه من ذلك بأنه يرى الحوَّل الذي حول الأمر، والقُلَّبُ الذي قلبها ظهراً لبطن، وحنكته التجارب.
(وجه الحيلة): الخديعة والمكر.
(ودونه مانع من الله ونهيه): ويحول بينها وبينه الترغيبات بالأوامر بالكف عنها، والترهيبات بالنواهي بالوقوع فيها.
(فيدعها): فيكفُّ عنها ويتركها.
(رأي عين): رؤية ظاهرة مكشوفة كرؤية المبصرات، وانتصابه علىالمصدرية، كقولك: ضربته ضرب السوط، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال أي منكشفة.
سؤال؛ أيُمّا أوقع في البلاغة تنكير العين كما وقع في كلامه هاهنا، أو تعريفها كما وقع في التنزيل، في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ }[آل عمران:13]؟
وجوابه؛أن كل واحد منهما لا غبار عليه في البلاغة والفصاحة، [و] لكن ما جاء به القرآن أبلغ؛ لأن اللام دالة على البلاغة، لأن اللام إن كانت للعهد فالغرض مثل رؤية ما تعهدون من أعينكم المبصرة، وإن كانت للجنس فالغرض مثل رؤية جنس الأعيان المبصرة في التحقق والقطع، وتنكير العين لا يكون معطياً هذه المعاني، فمن ثمَّ كان التعريف أبلغ.
(بعد القدرة عليها): بعد تمكنه منها وقدرته على تحصيلها.
(وينتهز فرصتها): ويغتنم نوبته منها، من الفرصة وهي: النوبة، يقال: أخذ فرصته من البر أي نوبته.
(من لا حريجة له في الدين): من لا يضيق صدره بترك الدين، ولا يحتفل به، من الحرج وهو: ضيق الصدر.
(42) ومن خطبة له عليه السلام
([أيها الناس] إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان): إن أعظم ما يقع منه خوفي عليكم خصلتان.
([اتباع] الهوى): وهو ما تدعو إليه النفوس وتحبه.
(وطول الأمل): وهو إبعاد مدة الآجال وتنفسها.
(فأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق): لأن النفوس أمَّارة بالسوء فاتباع هواها مجانبة للحق وانصراف عنه.
(وأما طول الأمل فينسي الآخرة): لأن في طول الأمل اشتغالاً بالعاجل من الدنيا، ومن أقبل على الدنيا أدبر عن الآخرة لا محالة.
(ألا وإن الدنيا قد ولت): أدبرت.
(جذَّاء ): من الجذِّ وهو: القطع، والغرض إما تولية جذَّاء، وإما مدبرة جذَّاء، فالأول وصف للتولية، والثاني وصف حال الدنيا، ويروى بالحاء المهملة أي سريعة، وسماعنا بالجيم وهو الأول.
(فلم يبق فيها إلا صبابة[كصبابة الإناء] ): الصبابة: البقية القليلة لتوليها وإدبارها.
(اصطبَّها): افتعال من صبَّه إذا سكبه وأهرقه.
(صابُّها): المريد لصبها، وهذا الأسلوب من أنواع البديع يسمى الاشتقاق، وهو أن يأتي بألفاظ متعددة يجمعها أصل واحد، فإن الصبابة والاصطباب والصاب مأخوذة من صبِّ الإناء، ومن هذا قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ }[الروم:43]، وقوله عليه السلام: ((ذو الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله تعالى )) .
(ألا وإن الآخرة قد أقبلت): جاءت مقبلة.
(ولكل واحد منهما): أراد الدنيا والآخرة.
(بنون): استعاره من الأولاد والأمهات لأجل ولوعهم بها.
(فكونوا من أبناء الآخرة): مريديها ومبتغيها .
(ولا تكونوا من أبناء الدنيا): طالبيها ومريديها.
(فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة): وهذا كله تمثيل بحال الأم والأولاد، وكل ما ذكره ترغيب عن الدنيا وتزهيد عن اتباعها.
(وإن اليوم): ما نحن فيه من أيام الدنيا.
(عمل): زمان عمل.
(ولا حساب): وليس زماناً للحساب.
(وغداً): عبارة عن زمن الآخرة.
(حساب): زمن حساب.
(ولا عمل): لانقطاع التكليف، ومشاهدة أمور الآخرة.