(لو كان يطاع لقصير أمر): هذا مثل مشهور، وكان ها هنا هي الناقصة، وفيها ضميرالشأن والقصة، وسبب ذلك هو أن جذيمة الأبرش قد كان قتل أبا الزباء عمرو بن الظرب، فأرسلت إليه الزباء تستدعيه إلى نكاحها وزينت له ذلك بانضمام ملكها إلى ملكه فاغتر جذيمة بذلك، وعزم على المسير إليها، واستصوب ذلك نصحاؤه إلا قصيراً مولاه فإنه نهاه عن ذلك فخالفه جذيمة، وسار نحو الزباء، فلما قرب من بلد الزباء استقبله جنودها مع الأسلحة وأحاطوا بجذيمة، فقال له قصير: انصرف فلم يقبل جذيمة قوله، وقتلوه، فقال قصير: لايطاع لقصير أمر، فصار مثلاً.
(فأبيتم عليَّ): فكرهتم ما قلته، ورددتم رأيي علي.
(إباء المخالفين الجفاة): الذين دأبهم المخالفة لأمرائهم فيما يقولونه من مصلحتهم، والجفاء: خلاف البر، يقال: جفاه إذا لم يبره.
(والمنابذين العصاة): المنازعين له في الرأي عصياناً وتمرداً منهم، واستمرت بهم هذه المنازعة والمخالفة.
(حتى ارتاب الناصح بنصحه): خالطت الريبة وهي الشك من كان ناصحاً، وأدخلت عليه الشك في قتاله معي والنصح لي.
(وضن الزند بقدحه): الضن من الضنة، وهي البخل، والزند: عودان أعلى وأسفل، فالأعلى منهما زند، والأسفل زندة يوريان النار، والقدح: ما يخرج منهما من النار، واستعاره ها هنا لما هو فيه من عدم قبول رأيه وبذله للنصح.
(فكنت أنا): فيما بذلته للنصيحة.
(وأنتم ): فيما خالفتم.
(كما قال أخو هوازن): دريد بن الصمة :
(أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى
فَلَمْ تَسْتَبِيْنُوا النُّصْحَ إلا ضُحَى الْغَدِ )
وكان من قصته أن أخاه عبد الله بن الصمة غزا قوماً، وغنم منهم، وساق إبلهم وأقام بمنعرج اللوى فنهاه دريد عن المقام بذلك الموضع، وقال له: إن القوم سيطلبونك ويتبعونك فلجّ أخوه وأقام، ثم ظعن دريد، ولحق القوم أخاه فقتلوه وأفلت دريد، فقال هذا البيت، فتمثل به أمير المؤمنين، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن إعرابه وموضع التمثيل منه ظاهران، فلا حاجة بنا إلى شرحه.
(36) ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهر
هؤلاء قوم كانوا في معسكر أمير المؤمنين فتأخروا عن متابعته بغياً وعناداً، وهم القرَّاء، وكان عددهم إلى زهاء أربعة الآف فأبلغ إليهم في الإعذار والتخويف، فأبوا فقال لأصحابه:
(اقتلوهم، فوالله ما يقتل منكم عشرة، ولا يبقى منهم عشرة) وكان فيهم ذو الثُّديَّة، وكان من جملة ما خاطبهم به من التخويف والإبلاغ في المعذرة.
(فإني نذير لكم): النذير هو: المعلم، والإنذار هو: الإعلام، وهو لا يكون إلا في الأمور المخوفة، قال تعالى: {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }[سبأ:46].
(أن تصبحوا صرعى): مقتولين في مصارعكم، وهي: أماكن القتل.
(بأثناء هذا النهر): جوانبه ونواحيه.
(وأهضام هذا الغائط): الأهضام: جمع هِضْمٍ بكسر الفاء، وهو: ما اطمأن من الأرض واستدق، والأهضم من الخيل: ما استدق أعلاه جنبيه.
قال ابن السكيت: ما استدق أهضم، وهو عيب فيها، والغائط: ما اطمأن من الأرض وكان واسعاً.
(على غير بينة من ربكم): من غير حجة واضحة أخذتموها من كتاب الله أو سنة رسوله.
(ولا سلطان مبين معكم): ولا برهان صاحبكم وأدليتم به في مخالفتكم هذه وبغيكم في تأخركم عن معسكري بغياً وعناداً.
(قد طوَّحت بكم الدار): أذهبتكم حالتكم هذه في داركم إلى مذهب من الحيرة، والتطويح: التحير.
(واحتبلكم المقدار): الاحتبال افتعال، واشتقاقه من الأحبولة، وهي: شرك الصائد، والمقدار هو: التقدير، قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد:8] والمعنى: واصطادكم التقدير بسوء آرائكم .
(وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة): بلغت جهدي في المنع عنها لما فيها من الفتنة، ووقوع الشك والريبة، والفت في أعضاد المسلمين عن قتال عدوهم، وقطع دابره، واستئصال شأفته.
(فأبيتم عليَّ): فغلبتموني وعلا رأيكم على رأيي حيث كان سبباً لفتنتكم بتأخركم عني.
(إباء المخالفين المنابذين): فعل من يريد انشقاق العصا لمخالفته، ومنازعتي لما أنا فيه؛ فكان لكم الغلبة في أمر هذه الحكومة.
(حتى صرفت رأيي إلى هواكم): انقدت لما قلتموه، وساعدت إلى ما أردتموه من ذلك، وإنما ساعد إلى التحكيم لأمرين:
أما أولاً: فلما يرجوه من الصلاح، والتئام الشعب ، وقصده المتابعة لأمر الله وحكمه لما بذلوه.
وأما ثانياً: فإنما أجاب إليه ضرورة لما رأى من اتفاق الأكثر من عسكره عليه.
قال أبو جعفرالإسكافي : ويدل على أن أمير المؤمنين كان غير راض بهذه الحكومة أنه قال: (لقد أمسيت أميراً وأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً واليوم منهياً) كل هذا دلالة على عدم رضاه، وإنما كان لما ذكرناه.
(وأنتم معاشر [العرب] ): جمع معشر، أي أقوام من جهات كثيرة قد اجتمعتم.
(أخفَّاء الهام): يشير بذلك إلى ما يعتريهم من كثرة الطيش والفشل وعدم الاتئاد في الأمور كلها، والهام هو: موضع الدماغ وجعله كناية عن ذهاب الوقار عنهم.
(سفهاء الأحلام): والسفه: نقيض الحلم، وأصله من سفهت الريح الشجر إذا مالت به، والمعنىأن الجهل مال بهم عن الحق والاستقامة.
(ولم آت لا أبالكم بُجُراً): البُجرُ بضم الفاء هو: الشر والأمر الأعظم، قال:
اُرمي عليها وهي شيء بُجُر
أي عظيم، وقوله: لا أبا لك كلمة تستعمل تارة في المدح، والغرض به أنك منفرد لا يلد أب مثلك، وتارة في الذم ومعناه لا أبا لك تقر عينه بك، وغرضه هاهنا ذمهم مما فعلوه.
(ولا أردت بكم ضراً): ولا قصدت فيما أشرت به من ترك التحكيم مضارة بكم ولا إضراراً، وفي بعض النسخ: (ولا أردت بكم عُراً) والعُر بالضم: قروح تصيب مشافر الإبل، تكوى غيرها فتبرأ، وفي المثل:
كذي العُر يُكْوَى غيره وهو راتع
واستعاره هاهنا للشر، فحصل من كلامه هاهنا أنه عليه السلام لم يرض بالتحكيم لما ذكرناه، ثم إن رضي به فإنما رضي به لما يرجو فيه من الصلاح وانسداد الأمر، ثم إذا رضي به فإنما رضي بأن يكون الحكم هو ابن عباس، ولهذا قال: (قد رموكم بحجر الأرض) : يعني عمرو بن العاص: (فدعوني أرميهم بفتى من قريش ابن عباس)، قالوا: لا نرضى إلا برجل من أهل اليمن، فقال:
(هذا الأشتر من أهل اليمن).
فقالوا: لا، فقال: (من ترضون؟)، قالوا: نرضى بأبي موسى، وإنما رضوا به؛ لأنه كان واقفاً عنه متخلفاً عن مبايعته مع سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ، ثم إنما رضي بأبي موسى إذا كان حاكماً بكتاب الله، فأما إذا حكم برأيه فلا، فلما ساعدهم إلى ما قالوه من أمر التحكيم، وخُدِعَ أبو موسى بما كان من عمرو، وردوا اللآئمة علىأمير المؤمنين، وقالوا له: أخطأت وكفرت، وتحزب هؤلاء، وجعلوا لهم أميراً واعتزلوه واعترضواالناس بالسيف، واجتمع إليهم أحزاب حتى بلغوا اثني عشر ألفاً، وكانوا يقتلون الأطفال فضلاً عن البالغين فقاتلهم بعد إبلاغ العذر إليهم وقتلهم عن آخرهم ، ولهذا قال عليه السلام:
(ما رأيت إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل علىمحمد) فهذا منه دلالة على توجه الأمر عليهم في قتالهم لما كان منهم من البغي والفسوق والتمرد بمخالفته وحربه .
(37) ومن كلام له عليه السلام يجري مجرى الخطبة
(فقمت بالأمر): أراد ما كان من إمامته واجتماع الناس إليه بعد قتل عثمان، قام بالأمر إذا نهض واستقل بأعبائه.
(حين فشلوا): وقت اعتراهم الفشل، وهو عبارة عن عدم الثبوت، وكثرة الانزعاج في تلك الحال، ومرج أمرهم مروج الخاتم في اليد.
(وتطلعت): تطلع للأمر وطالعه إذا أشرف عليه، وكان متحققاً له.
(حين تعتعوا ): تعتع في كلامه إذا تردد فيه، وتعتعت الرجل إذا أقلقته وأزعجته عن حاله.
(ومضيت): مضى في الأمر إذا نفذ فيه، من قولهم: سيف ماضي المضارب إذا كان نافذاً.
(بنور الله): بحجج الله، وما أعطاني من البصيرة النافذة.
(حين وقفوا): تحيروا، وغرضه بذلك حكاية ما وقع من الاضطراب قبل البيعة، والاستقرار بعد تقرير إمامته.
(وكنت أخفضهم صوتاً): أخفاهم كلاماً؛ لأن خفض الصوت أمارة صادقة على عظم اليقين وتحقق البصيرة، ورفع الصوت أمارة على الفشل والانزعاج.
وحكي عن الأصمعي أنه كالم المفضل بن سلمة في مسألة فطالت أصوات المفضل وعلت، فقال له الأصمعي: لو نفخت في الشؤم تكلم كلام النمل وأضب .
(وأعلاهم فوتاً): أرفعهم سبقاً إلى معالي الأمور الدينية كلها.
(فَطِرت بِعِنَانِها): الضمير للإمامة، والعنان هو: ما يمسك به الراكب يملك به رأس الفرس، واستعاره هاهنا لاستحكامه في الأمر وإتقانه لأحواله.
(واستبددت برهانها): الاستبداد هو: الإيثار، والرهان: جمع رهن، وهو ما يجعل من العوض عند السباق، وصرت في أمري كله واستقراري على الدين.
(كالجبل لا تحركه القواصف): مثل الجبل في الرسوخ فلا يضطرب، والقواصف: جمع قاصفة وهي الريح الشديدة، قال تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ }[الإسراء:69].
(ولا تزيله العواصف): ومستقراً في موضعه لا يزول عنه، والعواصف: جمع عاصف وهي الريح عند المطر.
(لم يكن لأحد فيَّ مهمز، ولا لقائل فيَّ مغمز): الغمز والهمز واللمز أمور واحدة، وهو: عبارة عن نقص الإنسان والغض فيه، ويكون بالعين ، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }[المطففين:30]، ويكون باليد كقوله:
وكنتُ إذا غمزتُ قنَاةَ قومٍ ... كسرتُ كُعُوْبهَا أو تَسْتَقِيْمَا
وأراد أنه عليه السلام على نهاية الكمال في خصال الإمامة واستنهاض آلة الإيالة والسياسة.
(الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له): أراد أن من كان عاجزاً لا يقدر على أخذ حقه فهو عندي بمنزلة العزيز في أخذ حقه والانتصار له.
(والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه): يعني ومن كان قوياً فلا تمنعني قوته عن أخذ الحق منه وإنصاف غيره منه.
(رضينا عن الله قضاءه): طابت نفوسنا عن كل ما قضى الله فينا مِمَّا يسر النفوس ويكرهها.
(وسلمنا له أمره): في كل ما حكم به وأنفذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله، حاكياً عن الله: ((من لم يرض بقضائي، ويصبر على بلائي ، فليتخذ رباً سواي)) .
(أتراني أكذب على رسول الله [صلى الله عليه (وآله) وسلم ] فوالله لأنا أول من صدقه) : أترى إذا كان مبنياً لما لم يسم فاعله فهو يفيد الظن، وإذا كان مبنياً لما يسمى فاعله فهو بمعنى الرؤية، وقد يكون مستعملاً في العلم، أني أكذب على رسول الله في كل ما أخبرني به وحكيته أنا عنه، فأنا أول من آمن به؛ لأن الرسول عليه السلام بعث يوم الإثنين، وأسلم أمير المؤمنين يوم الثلاثاء ، فمن كان أول من آمن كان أبعد من الكذب لا محالة.
(فنظرت في أمري ): تدبرت أمري وأعملت فكرتي.
(فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي): فيه تأويلان:
أحدهما: أن يكون مراده أن إمامتي ووجوب طاعتي كانت قبل البيعة بما كان من النص من جهة رسول الله عليَّ باستحقاقي للإمامة، وجعله لإياي وصياً وولياً، فلهذا كانت طاعتي سابقة لما كان من أمر البيعة، ولهذا قال: أتراني أكذب على رسول الله في ادعائي للإمامة بالنص منه.
(وإذا الميثاق في عنقي لغيري): يريد أن الرسول قد كان أخذ عليه الميثاق في أنه يفعل أموراً ووافقه عليها لما جعله إماماً للأمة، فالميثاق للرسول في عنقه.
وثانيهما: أن يكون مراده أن طاعتي للخلفاء قبلي قد سبقت بيعتي، ويكون مراده بأن الميثاق في عنقه لغيره أنه صار تحت حكم غيره تابعاً له، ولهذا قال: فنظرت إشارة إلى ما كان منه في أول الأمر من إزالته عمَّا كان مستحقاً له والاستئثار بما هو أولى به من غيره وأحق به لا محالة.
(38) ومن خطبة له عليه السلام
(وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق): أراد أن من أدلى بشبهة ونصر مذهبه بها فإنه يروجها ترويجاً، ويقربها تقريباً تشبه الحق، ولهذا يلتبس حالها على ضعفاء الأفهام، ومن قعد به العجز عن إدراك البصيرة.
(فأما أولياء الله): الذين اصطفاهم للولاية، ونوّر بصائرهم، وصفّى أذهانهم للتمييز بين الحق والباطل.
(فضياؤهم): فنورهم.
(فيها): الضمير للشبهة.
(اليقين): التحقق والقطع بهداية الله تعالى وحسن إلطافه لهم باتباع الحق.
(ودليلهم): رائدهم .
(سمت الهدى): طريق الهدى وقصده، ويحتمل أن يكون مراده الهدى المقطوع بصحته؛ لأن السمت عبارة عن السير بالحدس والظن، فلهذا قال: دليلهم سمت الهدى.
(وأما أعداء الله): الذين أراد إنزال الضرر بهم .
(فدعاؤهم فيها الضلال) أي هو دينهم لانهماكهم فيه وإكبابهم عليه.
(ودليلهم العمى): لانحرافهم عن الحق وانصرافهم عنه.
سؤال؛ لِمَ قال في حق الأولياء: فضياؤهم اليقين، وقال في حق الأعداء: فدليلهم العمى، ولم يعكس الأمر في ذلك؟
وجوابه؛ أن الغرض الأهم للأولياء التنوير لقلوبهم بنور الحق، واستيقان الأدلة الواضحة والقطع بها، والأهم الأعظم لأعداء الله هو الحض لمن اتبعهم على الضلالة وسلوك طريق الجهالة، فلهذا خصهم بالدعاء، وخص الأولياء بالضياء لما ذكرناه.
(فما ينجو من الموت من خافه): وضع الخوف مكان الهرب؛ لأنه سبب فيه، والمعنى لا ينجو من الموت من هرب منه.