(فما فداك من واحد منهما مالك ولا حسبك!): يريد أنه بعد ما أسره ما استخلصه من أيديهم مال فيطمع فيه، ولا حسب فيهاب ويخاف سطوته؛ لأن الأسير في العادة إنما يطلق لأحد [هذين] الأمرين، وما فيك واحد منهما، وما أطلقت بعد الأسر إلا مَنًّا عليك بجز الناصية، إذ لا يرجى منك واحد منهما.
(وإن امرأً دلَّ على قومه السيف): يعني أعان عليهم فتك الأعداء، بأن دلَّهم حتى قتلوهم بالسيف .
(وساق إليهم الحتف): الحتف: الموت، وأراد بما ذكره [في ذلك] حديثاً كان للأشعث مع خالد بن الوليد غرَّ فيه قومه، حتى أوقع يوم اليمامة فيهم خالد وقعة عظيمة، وخدعهم، ومكر بهم .
(لخليق أن يمقته الأقرب): فلان خليق بكذا إذا كان حقيقاً به.
وفي نسخة أخرى: (لحري) والحري بالشيء هو الأحق به، والمقت: البغض، فيبغضه القريب بخدعه ومكره.
(ولا يأمنه الأبعد): لإساءته إلى قريبه.
سؤال؛ لمَ أضاف المقت إلى الأقرب، وأضاف عدم الأمان إلى الأبعد، ولم يعكس الأمر في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن البغض أمر خاص، وهو إنما يكون لمن تعرف خلائقه في الرداءة فلهذا خصه بالقريب، وأما الأمان فهو أمرعام، وقد يكون حاصلاً في حق من لا يعرف حاله، فلهذا خصه بالأبعد.

(20) ومن خطبة له عليه السلام
(فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم): المعاينة من رؤية العين، كالمناصرة من النصرة ، أراد أنكم لو شاهدتم ما شاهده الأموات من رؤ ية الملائكة، وهول الموت، وتحقق الأحوال كلها، والتحفظ على الأعمال.
(لجزعتم): لقلَّ صبركم عن احتمالها.
(وولهتم ): الوله: الفزع، ولفزعتم مما ترون من شدة الأهوال.
(وسمعتم وأطعتم): أجبتم إلى تحصيل الواجبات، وترك المحرمات بالسمع والطاعة لمشاهدة الأمور العظيمة الموجبة للإلجاء، وفي ذلك بطلان التكليف.
(ولكن محجوب عنكم ما عاينوا ): من الأهوال لما يريد الله من بقاء التكليف عليكم، ولمصلحة استأثر الله بعلمها، والإحاطة بها.
(وقريب ما يطرح الحجاب): بهجوم الموت، ومعاينة ما عاينوا، ثم إن هذه الكلمة أعني قوله: وقريب ما يطرح الحجاب، مع اختصاصها بالجزالة في اللفظ، والبلاغة في المعنى لبالغة في الموعظة والزجر كل غاية، و(ما) إما زائدة، وإما مصدرية.
(ولقد بُصِّرتم): بما نصب لكم من الأدلة، وتخويف الرسل من عقاب الله باقتحام محارمه.
(إن أبصرتم): إن كان لكم من أنفسكم زاجر.
(وأُسمعتم): الوعيدات كلها، والقوارع العظيمة.
(إن سمعتم): إن أصغيتم آذانكم لها، ونجعت فيكم.
(وهُديتم): بنصب الأدلة وإيضاح الحجج، وبما ركب في عقولكم من اجتناب ما يردي، وحسن اتباع ما ينجي.
(إن اهتديتم): إن ظهر [لكم] على أنفسكم الهداية بتأدية الواجب عليكم، والانكفاف عن المحرمات.
(لحق أقول لكم ): أنطق بالحق الذي لاوصم فيه، وبالجد الذي لا هزل يتطرق إليه، ويحتمل أن يكون قسماً بصدق قوله، ولهذا جاء جوابه باللام .

(لقد جاهرتكم العبر): يريد أعلنت، من قولك: جهرالرجل بكلامه إذا أعلنه، أو أبدأت لكم حالها من قولهم: جاهربالعداوة إذا أبداها فهي معلنة أمرها[لهم] ، مبدية أحوالها في الوعظ والتذكير.
(وزجرتم): منعتم عن ارتكاب المحارم.
(بما فيه مزدجر): بما فيه نهاية الازدجار، وغاية الاتعاظ من القوارع والتخويفات على ألسنة الرسل والعلماء.
(وما يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر): أراد أنه لا يبلغ عن الله تعالى ما فيه مصالح العباد إلا الملائكة أو الرسل ، فأما الملائكة فهم مخصوصون بإبلاغ ذلك إلى الأنبياء، والأنبياء يبلغونه إلى الخلق فهم مبلغون عن الله تعالى بواسطة الملائكة، فلهذا قال: لا يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر، وهو يشير إلى نفسه أيضاً فإنه مُبَلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما حمل من هذه المواعظ.

(21) ومن خطبة له عليه السلام
(فإن الغاية أمامكم): الغاية هي: منقطع الشيء وحدُّه، وأراد بذلك الجنة والنار، فإنهما الغايتان لكل مخلوق، فإن مصيره لا محالة [إما] إلى جنة وإما إلى نار، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أوالنار)) ، وهما أمام لكل واحد يأمُّهما .
(وإن وراءكم الساعة): أراد أن الجنة والنار قائدتان لكم بالأزمة، وأن الساعة سائقة لكم من ورائكم.
(تحدوكم): مأخوذ من حدو الإبل وهو سوقها، وقد حدوت الإبل أحدوها حدواً إذا سقتها، ويقال: لريح الشمال حَدْوَاء؛ لأنها تحدو السحاب أي تسوقه، فمن كان مقوداً بزمامه، مسوقاً من خلفه فخليق بأن يكون مسرعاً به، واصلاً إلى غايته.
(تخففوا تلحقوا): معناه: ليكن همكم التخفف من الأوزار، وطرح أثقال الدنيا تلحقوا بأهل النجاة، فإن الناجي من سبق، وإن الهالك من تأخر.
(فإنما ينتظر بأولكم آخركم): يريد أن من سبق فهو في مهلة الانتظار لمن تأخر عنه حتى يكمل الكل، فلينظر الناظر ما اشتملت عليه هذه الخطبة من الكلام[الذي] قصرت أطرافه، وطالت به بلاغته، وقلَّت كلماته، وكثرت معانيه، وعظمت فصاحته، حتى مال راجحاً بكل كلام، وصار إماماً له وأي إمام .

(22) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها أصحاب الجمل
(ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه): ذمر أي حث أعوانه واستلحقهم.
(واستجلب خيله ): أي طلب الإجلاب بها والانتصار، وما قصده بذلك إلا.
(ليعود): ليرجع.
(الجور): الظلم، وإنما سمي جوراً؛ لأنه يعدل به عن طريق العدل والإنصاف.
(إلى أوطانه): إلى أماكنه التي يستوطنها، ويجعلها مقاماً له.
(ويرجع الباطل إلى نصابه): النصاب هو: الأصل، يريد ليعود إلى أصله ومستقره من الإغواء والدعاء إلى الضلالة.
(والله ما أنكروا عليّ منكراً): أي ما وجدوا منكراً فينكرونه، وما غرضهم إلا البغي والصد عن الدين.
(ولا جعلوا بيني وبينهم نِصفاً): النصف بكسر الفاء هو الاسم من الانتصاف، والمصدر هو الإنصاف، أي ما أرادوا الانتصاف من نفوسهم فيقصدون أخذ الحق وإعطاءه.
(وإنهم ليطلبون حقاً): وهو المطالبة [لقتلة] عثمان بدمه :
(هم تركوه): تضييعاً لحقه، وإهمالاً لما يلزم من الذب عنه.
(ودماً هم سفكوه): يعتلون عليَّ بدم عثمان، وهم على الحقيقة سفكوه بالخذلان له، والتأليب عليه، وهو يخاطب بذلك طلحة والزبير، لأنهما تأخرا عن نصرته عند حصره وألبّا عليه.
(فلئن كنت شريكهم فيه): أراد إن كنت قد شاركتهم في قتله وكان رأيي معهم في ذلك.
(فإن لهم لنصيبهم منه): فنحن شركاء في ذلك، فما بالهم يضيفون قتله إليّ على انفرادي، وهم قد شاركوني فيه.

(وإن كانوا ولوه دوني؛ فما التبعة إلا عندهم): وإن كانوا استبدوا هم بقتله والدعاء إلى ذلك والتجميع [عليه] فما التبعة من الإثم وسائر التبعات في القتل إلا مستقره عندهم دوني، وعلى كلا الحالين فلم ينصفوا من نفوسهم الحق في ذلك، ولا أدلوا بحجة قاطعة يعذرون فيها، ولا قصدوا بذلك إلا أنهم.
(يرتضعون أماً قد فطمت): الأم إذا فطمت ولدها تقلص ما في ثديها من اللبن وزال، وأراد بذلك أنهم يجعلون قتل عثمان وطلب ثأره بزعمهم وصلة وذريعة إلى ما لايصلون إليه أبداً، وطلب ارتضاع الأم بعد فطامها، جعله استعارة لاستحالة ما طلبوه من ذلك.
(ويحيون بدعة قد أميتت): أراد بإحياء البدعة الميتة هو أن أهل الجاهلية كانوا يأخذون البريء بذنب المجرم، فمطالبتهم لي بدم عثمان إحياء لهذه البدعة وقد أماتها الله تعالى، وأزال آثارها بالإسلام.
(وإن أعظم حججهم ): فيما يأتون به، ويدلون من أباطيلهم.
(لعلى أنفسهم): يريدون بها الانتصار، وهي في الحقيقة نصرة عليهم؛ لأن الحجة التي يأتي بها المحتج تقريراً لمذهبه وإثباتاً له، ثم تكون حجة عليه فهذا هو الغاية في إدحاضه، وإبطال رونقه، وإذهاب جماله.
(يا خيبة الداعي!): خاب الرجل إذا لم ينل مطلوبه، والخيبة المصدر، وتارة تكون مرفوعة على الابتداء كقولك: خيبة لزيد، وتارة تكون منصوبة على المصدرية ، متصلاً بها حرف النداء كقولك: يا خيبة زيد ، ويا خيبة الداعي، والمنادى محذوف ، أي ياقومي، كقوله تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ }[يس: 30] وغير مصدر كقولك: خيبة لزيد، كقولهم: صدعاً له وعقراً.

قال الكسائي: ويقال: وقعوا في وادٍ يُخُيّب بضم الياء والخاء المعجمة أي في الباطل ، وأراد بالداعي معاوية وأهل الشام.
(من دعا!): من الأجلاف وأهل الغباوة الذين لا بصيرة لهم.
(وإلى ما أجيب!): من البدع والضلالات، وإقامة عمود الفتنة، ومن وما استفهام وارد على جهة التعجب، ومن في موضع نصب بدعا، وما في موضع جر بالحرف قبلها.
(وإني لراض بحجة الله عليهم): ببرهانه الذي احتج به عليهم، حيث قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ }[الأنفال: 1] ولا تقوى ولا إصلاح مع البغي والفساد.
(وعلمه فيهم): أراد حكمه، حيث قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }[الحجرات: 9] فإن أعطيت هذين الأمرين قبلتهما، لما يكون فيهما من المصلحة.
(فإن أبوا): أي كرهوا ما قلته، وخالفوا أمر الله في ذلك.
(أعطيتهم حدَّ السيف): حدُّ السيف: شباته ، وحدُّ الرجل: بأسه، يقول: مالهم عندي بعد الإدبار عما قلته إلا القتل بالسيف ، وهو من الكنايات الرفيعة.
(وكفى به شافياً من الباطل): لما فيه من هدم مناره.
(وناصراً للحق!): لما فيه [من] إشادة معالمه.
(ومن العجب بعثهم إليَّ أن أبرز للطعان!): من هاهنا دالة على التبعيض، والمعنى أن بعض ما يعجب منه ويكثر منه العجب أنهم أرسلوا [الرسل] ، والبعث: الإرسال، قال الله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ }[البقرة: 213] أي أرسلهم أن أبرز للرماح للطعن.
(وأن أصبر للجلاد): وأن أكره نفسي على الصبر لجلاد السيوف، والمجالدة: هي المضاربة بالسيف، يقال: اجتلد القوم وتجالدوا، إذا فعلوا ذلك.

(هبلتهم الهبول!): الهبول [جمع هبل و] هي: المرأة التي لا يعيش لها ولد، وهبلته أمه إذا ثكلته، وهذا وارد على جهة الدعاء عليهم، أي ثكلتهم أمهاتهم، ويحتمل أن يكون الهبول من أسماء الداهية، وهبلتهم الهبول أي ركبتهم الداهية [من قولهم] : هبله اللحم إذا ركبه وعظم فيه.
(لقد كنت): يحتمل في كان أن تكون هي الناقصة، ويكون معناه: لقد كنت على ما أنا عليه من الشدة والبسالة، ويحتمل أن تكون هي التامة، ويكون معناها: لقد وجدت وحصلت .
(وما أهدد بالحرب): لشدة ممارستي لها وولوعي بها.
(وما أرهَّب بالضرب): بالصوارم؛ لكثرة اشتياقي إلى الموت، فقد قال في كلام قد شرحناه من قبل: إنه آنس به من الصبي بثدي أمه.
(وإني لعلى يقين من ربي): فأنا مشتاق إلى لقائه.
(وفي غير شبهة من ديني): فأحب الانتقال إليه.

(23) ومن خطبة له عليه السلام، يحض فيها على صلة الرحم
(أما بعد؛ فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض): أما بعد كلمة يستعملها الفصحاء في الخطب والرسائل، وبعد فيها تستعمل مضافة، كقولك: أما بعد حمد الله، ومقطوعة عن الإضافة كقولك: أما بعد فإن الأمر كذا، والأمر في قوله عليه السلام: إن الأمر ينزل من السماء، فإنه عبارة عن التقدير والقضاء، ونفوذ الحكم والإمضاء من جميع الكائنات في العالم كله، فإنه ينزل من السماء على حسب المصلحة، كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }[الذاريات: 22].
(كقطر المطر): القطر: جمع قطرة كتمرة وتمر، وإنما شبهه بالقطر لما فيه من الكثرة، وتراكم العدد وانتشاره.
(إلى كل نفس ما قدِّر لها ): المراد يصل إلى كل نفس ما قدر لها، وسبق به العلم في الأزل.
(من زيادة): في أجل أو رزق أو جسم أو غير ذلك مما يكون مصلحة.
(أو نقصان): من هذه الأمور كلها، فإن كل شيء عنده بمقدار معلوم، وأمر مقدر محتوم: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }[يس: 12].
(فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة): الغفيرة: الزيادة والكثرة، والرؤية هاهنا يحتمل أن تكون من رؤية العين، ويحتمل أن تكون من رؤية العلم.

(في أهل أو مال أو نفس فلا يكون له فتنة): أراد أن الواحد إذا رأى لغيره زيادة في النفس بكثرة الأولاد، والزيادة في الأجسام أيضاً بأن تكون كاملة عظيمة، أو زيادة في الأهل بكثرة العشائر والتكثر بالأصهار وسائر القرابات، أو زيادة في الأموال: العقارات، والدور، والحيوانات، وغير ذلك من الأموال، فلا يكون الضمير للأخ فتنة بأن يحسده على ما أوتي، فإن شغله بذلك شغل بما لا فائدة فيه، ولا ثمرة له، مع ما فيه من الوعيد والتعرض للأُثمة من جهة الله تعالى، وذلك يكون على وجهين:
أحدهما: أن يريد وصول تلك النعم بعينها إلى نفسه، وهذا هو الحسد بعينه، فيريد وصولها إليه وزوالها من أخيه، وقد ورد ذم الحسد في كتاب الله تعالى، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، كقوله صلى الله عليه وآله: ((ما ذئبان ضاريان في زريبة أحدكم بأسرع من الحسد في حسنات المؤمن)) وهو مذموم على كل حال.
وثانيهما: أن يريد مثل ما لأخيه ولا يريد زوالها منه، فهذه هي الغبطة وليست حسداً، ومنه قولهم: اللَّهُمَّ، غَبْطاً ولا هَبْطاً، أي نسألك الغبطة، ونعوذ بك أن نهبط عن حالنا ، وهي محمودة.
(فإن المرء المسلم): السالم في إيمانه عما يشونه .
(ما لم يغش دناءة): ما شرطية، وغشي الشيء إذا تلبَّس به واختلط، ومنه قولهم: غشيهم الليل، وقد دنأ الرجل دناءة ودنؤة أي سقط في فعله، والدنيئة: النقيصة، ورجل دنيء إذا كان سافلاً خبيثاً، ومعناه تغشاها، أي يتلبس بها وتكون فعلاً[له] .
(تظهر): تكون مكشوفة، من ظهر الشيء إذا كان مكشوفاً.

24 / 194
ع
En
A+
A-