(ركّاب عشوات): العشوة: أن تركب أمراً من غير بيان، يقال: أوطاني عشوة أي أمراً ملتبساً، وقد جعلت المبالغة في قوله: ركّاب، على أن معناه أن ركوبه كثير بمنزلة ضرَّاب لمن يكثر ضربه، وفي قوله: عشوات، يعني أنها ليست عشوة واحدة، وإنما هي عشوات كثيرة.
(لم يعض على العلم): يريد أنه ليس علىالحقيقة في أمره في فتواه.
(بضرس قاطع): ببصيرة نافذة، والعض بالضرس من الاستعارات الحسنة.
(يذري الروايات إذراء الريح): ذرت الريح التراب، وأذرته إذا أذهبته وطيرته ذرواً وذرياً، قال الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا }[الذاريات:1] أراد به الريح، والإذراء مصدر أذرت، وذرواً وذرياً مصدران لذرت.
(الهشيم من النبات): المتكسر البالي، ومراده من ذلك أنه ينشرالروايات، ويذيعها كذباً وافتراء وتقولاً كنشر الريح لهشيم النبات ودقاقه ويابسه من غير ورع يَحْجُرُ، ولا بصيرة نافذة، وأبلغ مما ذكرته أنه:
(لا مَلِيءٌ والله بإصدار ما ورد عليه[ولا هو أهل لما فوض إليه] ): الْمَلِيءُ: الحقيق بالشيء، يقال: فلان مَليء بكذا، إذا كان حقيقاً به، والإصدار هو: الرجوع، يقال: أصدرته فصدر أي أرجعته فرجع، ومراده من ذلك أنه لجهله ليس حقيقاً بأن يرجع ما ورد عليه من الفتاوى على وجهها لما هو عليه من الغباوة.

(لا يحسب العلم في شيء مما أنكره): حسَب الشيء بفتح العين يحسُبه بضمها، إذا عدَّه وقدَّره، وحَسِبَه بكسرها يحسَبه بكسرها وفتحها إذا ظنَّه، قال الله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ }[إبراهيم:47] بالكسر والفتح جميعاً، وسماعنا فيه بالضم هاهنا، ومراده أنه لم يقدر جهله وتهالكه في الإعجاب بنفسه، لايعد ما أنكره علماً بل يعتقد أن ما معه هو العلم بعينه وأن ما عداه جهل.
(ولا يرى أن من وراء ما بلغه منه مذهباً لغيره): إذا فتحت حرف المضارعة من يرى فهو يعني يعلم، وإن ضممتها فهو بمعنى يظن، والمعنيان متقاربان، والمعنى فيه هو أنه [لايعلم و] لا يغلب على ظنه أن من وراء ما يبلغه ويصل إليه رأياً لغيره قد سبق إليه فيقطع برأيه اعتماداً عليه، وغرض أمير المؤمنين تعويله على رأي نفسه، وترك الالتفات إلى ما سواه، وهذا إنما يكون منكراً على أحد وجهين:
أما أولاً: فبأن تكون المسألة اجتهادية، فيوجب علىالناس التزام قوله جهلاً منه، والمسألة خلافية وهو ظاهر كلامه، ولهذا قال: إن من وراء ما بلغه مذهباً لغيره.
وأما ثانياً: فبأن يكون خلاف ما قاله قد وقع عليه الإجماع، فتكون فتواه بعد ذلك خطأ لمخالفته للإجماع القاطع، فالإنكار عليه لا يليق إلا على ما ذكرناه.
(وإن أظلم عليه أمر اكتتم به): كتم الشيء وأكتمه إذا أضمره وستره، يقول: إذا وقع في معضلة، وانسدت عليه حميع مسالكها أضمرها في نفسه، ولم يذاكر بها العلماء ولم يطلب فيها وجه الحق من جهة غيره، وإنما أضمرها.

(لما يعلم من جهل نفسه): لأن جهله بوجهها وجهله بمعرفة نفسه، هو ضم جهل إلى جهل، فلو جهل وجهها وعرف حال نفسه في القصور عن إدراكها وفزع إلى من هو أفضل منه في حلها لكان قد سلم من أحد الجهلين.
(تصرخ من جور قضائه الدماء): الصراخ هو: الصوت، من جوره: من حيفه وظلمه، أي من أجل جور قضائه الدماء إما بالزيادة فيكون ظلماً، وإما بالنقصان فيكون فيه إهدار للدماء وإبطال لحقها.
(وتعج منه المواريث إلى الله): العجيج: رفع الصوت، وهو أبلغ من الصراخ، وعجيجها إنما يكون بإعطاء من لا يستحقها أو بحرمان من يستحقها، وهذا أنهى ما ذكره من الإنكار على مسألة قد وقع فيها الإجماع ثم حكم بخلافه، وإما أن تكون مسألة اجتهادية، وليس أهلاً للاجتهاد، ولا حاز منصبه فعلى أحد هذين الوجهين يتوجه إنكار حكمه، وإبطاله ، إسناد الصراخ إلى الدماء، وإسناد العجيج إلى المواريث واد من أودية الاستعارة، والغرض المبالغة في حيفه في المواريث والدماء، ومن بليغ الاستعارة قول ابن المعتز يمدح امرأة:
أثمرتْ أغصانُ رَاحَتِهَا ... لِجُنَاةِ الحسنِ عناباً
يريد أن أنامل هذه التي هي كالأغصان أثمرت لطالبي الحسن شبه العناب من أطرافها.
ومنه قوله:
إذ أصبحت بيد الشمال زِمَامها ... فهذا يدَّعي أنْ للشمالِ يدا
وهو الريح، وأن للسحابة زماماً، وغير ذلك من بديع الاستعارة وغريبها.
(من معشر ): أي هذا الذي قمش جهلاً.
(يعيشون جّهالاً): لا بصيرة لهم في حياتهم بالعلم.
(ويموتون ضُلاَّلاً): عن الحق بزيغهم عنه، وإضلالهم لغيرهم بتلبيسهم عليه وجه الصواب.

(ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي عليهم حق تلاوته): بار المتاع يبور بوراً إذا كسد، وفي الحديث: ((نعوذ بالله من بوار الأيم )) يريد أن هؤلاء يكون كتاب الله بينهم كالسلعة البائرة التي لا يريدها أحد؛ لكثرة إغفالهم واطراحهم لأحكامه وعلومه.
(ولا سلعة أنفق بيعاً، ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرِّف عن مواضعه): يريد أنهم يعرضون عند تلاوة الكتاب، وإظهار أحكامه، ويقبلون إذا غُيِّر عن مواضعه بالتأويلات الكاذبة والتخييلات الباطلة التي توافق آراءهم وتطمئن بها قلوبهم، وتكون فسحة لهم فيما هم فيه من ارتكاب الفواحش، والانهماك في اللذات المحرمة.
(و لا عندهم أنكر من المعروف): إذ لا يعرفونه بفعله، ولا يأمرون به فهو منكر عندهم.
(ولا أعرف من المنكر): لكثرة وقوعهم فيه، وتلبسهم به، وأمرهم به فلا ينكرونه لأنسهم به، وفي كلامه هذا هزٌّ للأعطاف، وتحريك للهمم في إدراك العلم وتحصيل البصائر النافذة، وتحذير عن الفتوى بغير بصيرة.

(18) ومن كلام له [عليه السلام] في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
الفتوى والفتيا مصدران، كلاهما من الياء؛ لأن فُعلى بضم الفاء تبقى ياؤها من غير قلب كالقضاء من قضيت، وفَعلى بفتح الفاء تقلب ياؤها واواً كالدعوى من دعيت، فلهذا تقول: الفتيا فتبقيها ياءاً على حالها، وتقول: الفتوى فتقلبها واواً كما ذكرناه فرقاً بينهما.
(ترد على أحدهم القضية في حكم): واحد:
(من الأحكام فيحكم فيها برأيه): أراد أنه إذا نزلت بأحدهم إحدى النوازل واحتيج إلى معرفة حكمها، فأعمل فيها رأيه، وراجع في حكمها خاطره، ثم حكم فيها بحكم.
(ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره): ثم يستفتي ويطلب فيها رأي غيره كما طلب منه.
(فيحكم فيها بخلاف قوله): بحيث لا يجتمعان على حكم واحد فيها.
(ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم): أراد ثم تعرض تلك القضية بعينها على الإمام، لأنه هو الغاية في ذلك كله، من حيث كان بيده الحل والعقد والأمر والنهي والإثبات والنفي، وهذه منه حكاية لحالهم في الفتوى وتعجب من حالهم لما كان على هذه الصفة.
(فيصوِّب آراءهم جميعاً ): فلا ينكر على أحد منهم مقالته، ولا ينبِّهه على خطإه.
(وإلههم واحد): فكيف يختلفون في حكمه من تحليل أو تحريم.
(ونبيهم واحد): فكيف يختلفون في شرعه، وقد ذم الاختلاف إليهم، وفهموا قبحه من جهته.
(وكتابهم واحد): فكيف يختلفون في معناه.
واعلم: أن إنكاره هذا إنما يكون على أحد وجوه ثلاثة:

أولها: أن تكون هذه المسألة التي فرض وقوع الخلاف فيها بين الإمام والقضاة فيها حكم قاطع ثم اختلفوا فيه، وإذ كان الأمر فيها كما قلناه فالحق فيها واحد وما عداه خطأ، فيكون تصويب الإمام لهم خطأ، واختلافهم فيها أيضاً خطأ.
وثانيها: أن يكون الإمام وقضاته ناقصين عن مرتبة الاجتهاد كلهم، والمسألة اجتهادية، لكنهم ليسوا أهلاً للاجتهاد، فهم إذا حكموا فيها برأيهم فهو خطأ، وإذا صوّبهم الإمام فهو خطأ أيضاً لقصورهم عن ذلك.
وثالثها: أن تكون المسألة اجتهادية، ويكون مذهب أمير المؤمنين أن الحق في المسائل الاجتهادية واحد كا لمسائل القاطعة، والوجهان الأولان اللذان عليهما التعويل في تأويل كلامه هاهنا؛ فإن القول بأن الحق واحد في المسائل المجتهدة ليس مأثوراً عنه، ولا حكاه أحد من أئمتنا " عنه، ولا أثره عنه أحد من العلماء، ولو كان لنقله الأصوليون [فيما نقلوه] من المسائل الخلافية الأصولية، وكيف يقال: بأنه مذهب له، وقد كانت مجالس الاشتوار للصحابة رضي الله عنهم في الأقضية والأحكام والفتاوى تفترق بهم على الاختلاف فيما بينهم في هذه الأشياء من غير نكير ولا ذم، ومرة يخالفهم أمير المؤمنين، ومرة يوافقهم، ولم يسمع من أحد منهم إنكار على صاحبه فيما ذهب إليه ولا ذم له، بل يعتذرون [في] المخالفة بأن يقولوا: هذا رأيي وهذا رأيك، فعلى هذا يكون تأويل كلامه فيما ذكره من اختلاف الفتوى.
(أفأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه! [أم نهاهم عنه فعصوه] ): أراد فكان اختلافهم الواقع عن أمر من جهة الله تعالى إذا وقع كانوا ممتثلين لأمره كسائر الأوامر الشرعية؟ وهذا الاستفهام وارد على جهة الإنكار.

(أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه!): أراد أو كان سبب الخلاف هو أن الدين لم يتم أمره فوكل بعضه إلى رأيهم فأتموه؟
(أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى!): يريد أو شاركوه في الإلهية ومعرفة المصلحة، فلهم أن يقولوا من جهة أنفسهم لما عرفوا المصلحة، وعليه أن يرضى بأقوالهم لما كان كأحدهم؟
(أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول [صلى الله عليه وآله] عن تبليغه وأدائه؟): فلأ جل هذا استغنى بهم في إبلاغهم ، فإذا كانت الاحتمالات هذه لا وجه لها، ولا يمكن حصول واحد منها بطل الاختلاف في الدين، ولن يكون الحمل مستقيماً إلا على ما ذكرناه وتأولناه، ثم أورد آيات من القرآن مستدلاً بها على عدم الاختلاف في القرآن، كقوله تعالى : ({مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ })[الأنعام: 38]: ووجه الاستدلال بها أنا نقول: إذا كان القرآن مشتملاً على كل شيء في البيان فمن أين يقع الخلاف؟!
وقوله تعالى: ({تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ })[النحل:89] وإذا كان موضحاً لجميع الأشياء استحال وقوع الخلاف فيه لأن الاختلاف أمارة الاضطراب والارتباك، وهو مناقض لكونه بياناً فيجب نفي الخلاف بدلالته.

وقوله تعالى : ({وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرًا })[النساء: 82]): ووجه الدلالة من هذه الآية هو أن ظاهرها يؤذن بأنه لو كان من جهة غير الله لكان فيه الاختلاف، وقد تقرر بالبرهان القاطع أنه من جهة الله تعالى فيجب بطلان الاختلاف فيه، وهذا هو مقصودنا، ويجب حمل ما ذكره عليه السلام في ذم الاختلاف على ما كان فيه مخالفة للأدلة القاطعة، فأما ماعدا ذلك [من] وقوع الاختلاف في المسائل الاجتهادية فلا وجه للإنكار على الاختلاف فيها بحال، لما أوضحناه، من أنه عليه السلام قد خالف وخولف في المسائل الاجتهادية، ولم ينكر على الصحابة فيما خالفوه ولا أنكروا عليه، ولهذا قال: (اجتمع رأيي ورأي عمر على تحريم بيع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى بيعهنَّ) من غير نكير لأحدهما على الآخر، وهكذا القول في سائر الصحابة، فإن الاجتهاد فيهم مشتهر من غير نكير ولا مخالفة، وتقرير قاعدة القياس، والرد على منكريه، قد ذكرناه ونصرناه في الكتب الأصولية، وأوردنا مقالتهم في ذلك.
(وإن القرآن ظاهره أنيق): الأنيق: المعجب، يقال: أنق الشيء يأنق أنقاً، إذا أعجب، وإنما كان ظاهره معجباً لما فيه من الدلالة على الأسرار الدقيقة، والمعاني المعجبة، التي لا تزال غضة طرية على وجه الدهر باستنباط العلماء، وأهل الفطانة في كل زمان.
(وباطنه عميق): بئر عميق إذا كان قعرها بعيداً، ومراده أن كل ما يستخرج من بواطن القرآن وأسراره فإنه بعيد غوره لا يستخرج إلا بالقرائح الذكية والفطن الألمعية.
(لا تفنى عجائبه): فني الشيء إذا عدم وذهب، أي لا تزول عجائبه.

(ولا تنقضي غرائبه): تقضَّى الشيء إذا زال، فغرائبه لا زاول لها بحال.
(ولا تكشف الظلمات إلا به): كما يستعار النور للدلالة والحجة فقد تستعار الظلمة للجهل والبدعة، ومراده أن كل مجهول من الأحكام التي تضمنها لا ينكشف عماه إلا بوساطته، ولا يرفع حجابه إلا بدلالته.

(19) ومن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس ، وهو على منبر الكوفة يخطب
فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث [فيه] فقال له: يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك. فخفض بصره إليه: أي قبضه من التطلع إليه تصغيراً من قدره وحقارة له، ثم قال له:
(وما يدريك ما عليَّ ممّا لي): أراد أن قوله: هذه عليك لا لك، إنما هو كلام من يميز بين الأمور ويتفطن لها ببصيرة نافذة، ويعض على العلم بضرس قاطع، فأما من هو معدود في الأغمار وفي اختلالات أهل الجهل، دائم السقوط والعثار.
(عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين): اللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعنة هي الاسم، والمصدر منه اللعن، كما قال تعالى في الاسم: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ } [الحجر: 35] وقال في المصدر: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 68] إنما أنت.
(حائك ابن حائك!): أراد بالحائك هاهنا النمام الذي يحمل الكلام بين الخلق لإدخال البغضاء.
(منافق ابن كافر‍‍‍!): يريد أنك تظهر الإسلام من لسانك، وباطنك مشتمل على خلافه، وأبوك أيضاً كافر لنعمة الله تعالى بما يظهر منه من المخالفة في الدين، أو أراد أنه كافر حقيقة لاحتمال الردة في حاله.
(والله لقد أسرك الإسلام مرة والكفر أخرى !): يريد أنه قد أسر في الكفر مرة وفي الإسلام مرة أخرى، وأخذك الكفار والمسلمون إلى أيديهم، وكنت فيئًا لهم وطعمة لرماحهم.

23 / 194
ع
En
A+
A-