(وأُكلة لآكل): الأكلة بالضم هي: ما يؤكل، ولهذا قال عليه السلام: ((فضل ما بينكم وبين اليهود أكلة السحور )) . والأكلة بالفتح: واحدة الأكلات، وبالكسر: الضرب من الأكل، وهي الحالة كالركْبة والجِلَسة، ومراده أنهم صاروا أكلة لأي آكل [كان] ، وإنما نكَّر الأكل لما فيه من الفخامة ما لايفيده التعريف لو عرَّف.
(وفريسة لصائل): الصائل: ما يصول من سبع أو جمل أوغيرذلك، ومراده من ذلك هو أنهم صاروا يأخذهم كل من استطال عليهم بمنزلة الفريسة المأكولة، لاينتصرون من أحد لذلهم وركة أحوالهم.

(14) ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان
القِطاع والقَطاع بالكسر والفتح هو: المال الحرام. وأقطعت الرجل قطيعة أي طائفة من مال الخراج، وذلك أنه قد كان جرى في خلافته أحداث عظيمة وأمور منكرة من أخذ الأموال من غير حلها، وصرفها في غير وجهها، وإيثار أقاربه بها، مع عدم الاستحقاق منهم لها، فلما كان الأمر فيها كما قلناه، وانتهت النوبة إلى أمير المؤمنين ردها عن تلك المصارف، وقال:
(والله لو وجدته قد تُزوّج به النساء): أراد جُعل مهوراً لهن.
(ومُلِكَ به الإماء): بأن جُعِل أثماناً لهن، وإنما مثَّل بهذين الأمرين لأنهما أحق الأمور المباحة بالبذل، والزيادة فيهما لا تكون تبذيراً، ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا }[النساء:20]، وقال في آية أخرى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }[النساء:4].
وعن أمير المؤمنين أنه قال: (إذا مس الإنسان وجع في بطنه، فليأخذ من مهر امرأته شيئاً، وليشتري به عسلاً، ويجعل عليه شيئاً من ماء السماء؛ ثم يشربه فيجمع بين الهنيء والمريء والشفاء والماء المبارك).
فلهذا مثله بما ذكرناه، يريد فلو صرف في هذه المصارف مع حلها وقلة التبعة فيها.
(لرددته): عن مصرفه هذا، ولصرفته في مصرفه الذي أمرالله بصرفه فيه.
(فإن في العدل سعة): في الدنيا راحة القلب عن مظالم الخلق، وضيق النفس منهم بكثرة المطالبة والمخاصمة.
وأما في الآخرة فإن فيه خلاصاً عن الحساب والوقوف بين يدي الله.
(ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق): فيه وجهان:

أحدهما: أن يريد ومن ضاق عليه العدل مع ما فيه من السهولة والخفة على النفس بترك التبعات، فالجور عليه أضيق لما فيه من الصعوبة وضيق النفس.
وثانيهما: أن يريد ومن ضاق عليه العدل فلم يبسط يده في الأخذ؛ بل يحتاط ويتحرج في ذلك، فالأولى أن يفعل ذلك في الجور ويكف نفسه عنه.

(15) ومن خطبة له عليه السلام لما بويع في المدينة
(ذمتي): الذمة هي: العهد والميثاق.
(بما أقول): ما ها هنا إما موصولة أي بالذي أقوله، وإما مصدرية أي بقولي من صدق المقالة، والوفاء بالذمم والعهود كلها.
(رهينة): أي مرتهنة، فلا تخلص إلا بالوفاء بها.
(وأنا به زعيم): أي كفيل، والكفيل: زعيم، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((الزعيم غارم )) وأراد به الكفيل.
(إن من صرحت له العبر عمَّا بين يديه من المثلات): صرح الحق وانصرح، أي بان وظهر، والصرح بالتحريك: الخالص من كل شيء.
قال المتنخل الهذلي :
تَعْلُو السيوفُ بأيدينا جَمَاجِمَهُم
كَمَا نُفَلِّقُ مَرْوَ الأمعز الصَّرِحي
أي الخالص، ومنه المثل: صرَّح الحق عن محضه، أي: بان وانكشف، والعبر: جمع عبرة وهي الاسم من الاعتبار، واشتقاقها من عبرت عينه إذا بكت، ومراده من ذلك هو أن من كشفت له الأمور المعبر بها والمجعولة عبرة عمَّا تقدمه من العقوبات النازلة بالأمم الماضية والقرون الخالية.
(حجزه ) أي منعه، ومنه الحاجز، وهو: الحائل بين الشيئين.
(التقوى): التوقي، وهي مصدر كالدعوى.
(عن تقحم الشبهات): [عن] اقتحام المهالك والوقوع فيها.
(ألا وإن بليتكم هذه قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه): البلية والبلوى والبلاء واحد، وهي مصادر كلها، والبلية: الناقة التي تحبس عند قبر الرجل إذا مات، وغرضه من هذا الكلام هو أني قد ابتليت بكم في الاعوجاج، ومقاسات الأمور الشدائد مثل ما ابتلي به رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم ] من قومه من ذلك.
(والذي بعثه بالحق): إقسام بالله جل جلاله، وإنما خص البعثة لما فيها من مزيد الاعتناء بحاله صلى الله عليه وآله ورفع مكانه عند الله.

(لتُبَلْبَلُنَّ بلبلة): البلبلة: التحرك والاضطراب، يقال: تبلبلت الألسنة إذا اختلطت، جعله هاهنا كناية عن تغير أحوالهم، وتبدلها عمّا هي عليه الآن.
(ولتُغَرْبَلُنَّ غربلة): أي لتنخلنَّ نخلاً بالغربال، وهو المنخل، وهو كناية عن القتل والاستئصال.
(ولتُساطُنَّ سوط القدر): السوط: الخلط، ساطه يسوطه سوطاً إذا خلطه بغيره، والمسواط: عود يحرك به القدر ليخلط ما فيها بعضه ببعض.
(حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم): من كثرة الاضطراب واختلاف الأهواء وتفرق الآراء كالشيء المسوط في القدر فإن هذه حاله.
(وليسبقَنَّ سباقون كانوا قصَّروا): أي وليتقدمن إلى نصرتي ومتابعتي أقوام كانوا قصروا في أول الأمر من خلافتي بالتأخر عني.
(وليقصِّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا): أي وليتأخرنّ عن مناصرتي ومعاضدتي أقوام كانوا سبقوا إليها في أول الأمركما كان من طلحة والزبير وغيرهما، وكل ما ذكره من هذه الأحوال دلالة على الفشل وكثرة الاضطراب في أمورهم كلها.
(والله ما كتمت وسمة ): الوسمة بثلاث من أسفل هي: الأثر.
يقال : وسمه يسمه سمة إذا أثر فيه، والوشمة بثلاث من أعلى هي: القطرة، يقال: ما أصابتنا العام وشمة.
قال ابن السكيت : ما عصيته وشمة أي كلمة، وكلاهما جيد ها هنا، أي ما كتم أثراً ولا كتم كلمة.

(ولا كذبت كذبة): أي واحدة من الكذبات، واختلفت الزيدية والإمامية في قوله هل يكون حجة أم لا؟ فمن قال [منهم] بعصمته من الخطأ وهم الأقل قال: إن قوله حجة فيما قاله، إلا أن يكون الخطأ في تلك المسألة يكون صغيراً فإنه لايكون حجة، ومن قال منهم: بأن قوله لايكون حجة قال: إنه غير معصوم وهم الأكثر، وهذا هو الصحيح، لأن الدليل إنما دلَّ على عصمة جماعتهم أعني علياً وفاطمة والحسن والحسين، فأما على انفراده فلا دلالة على ذلك .
(ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم): أراد بالمقام إما موضع الإقامة، وإما الإقامة نفسها وهو المصدر، أي مو ضع إقامتي فيكم بما كان منكم من التشتت والتفرق واختلاف الأهواء، وأراد باليوم ولايته عليهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان أعلمه بأيام خلافته، وبما يكون عليه من التفرق والخلاف، وهذا من جملة الأمور الغيبية التي عهد إليه فيها ونبأه بها.
(ألا وإن الخطايا خيلُ شُمُسٌ): الأشمس من الخيل: الذي يمنع صاحبه الركوب.
(حُمِلَ عليها أهلها): أي حملتهم الأهواء والشياطين بالتزيين من جهتهم وغلبة الهوى واستحكامه.
(وخُلعت لُجُمها): أزيلت وأبعدت عن أفواهها.
(فتقحمت بهم النار ): قحم الفرس بفارسه وتقحم وانقحم إذا لم يملك رأسه، ولم يقف على مراده.
(ألا وإن التقوى مطايا ذلل): المطايا: جمع مطية وهو: الواحد من الإبل مذللة لصاحبها، يفعل فيها كيف أراد من إقدام وإحجام.
(حُمِل عليها أهلها): أعينوا عليها بالألطاف والصبر، وبإمداد من جهة الله تعالى.
(فأُعطوا أزمتها): يعني مكنِّوا منها في أيديهم، وأملك ما يكون الإنسان للدابة إذا كان آخذاً بزمامها يُصَرِّفُها كيف أراد.

(فأوردتهم الجنة): على سهولة ومشي سجح.
واعلم: أن في كلامه هذا من لطيف الاستعارة وغريبها ما لايقوم بوصفه لسان، ولا يطلع على سره إنسان، ومن بديع ذلك وعجيبه هو أنه لما استعار ذكر الخيل والمطايا، عقَّب كل واحد منها بما يصلح فيه من الاقتحام في حق الخيل؛ لأنه هو الغالب عليها، والتذلل في المطايا؛ لأنه هو الغالب عليها، وهذا يسمى توشيح الاستعارة لأنه يزيدها عذوبة وحلاوة، ويكسيها رونقاً وطلاوة.
سؤال؛ لِمَ استعار للخطايا الخيل، وللتقوى المطايا من الإبل، ثم قال: في الخطايا خلعت لجمها، وقال في الطاعة: أعطوا أزمتها، وقال في الخطايا: تقحمت بهم النار، وقال في الطاعة: أوردتهم الجنة؟
وجوابه؛ أن في كل واحد من هذه الأشياء المختلفة معنى يوافق ما هو بصدده، وما جيء به من أصله، فلما كانت المعاصي لا تُفعل إلا بمعاناة وكد وإتعاب الخاطر في تحصيلها، استعار لها الخيل، لما فيه من الشدة وشكاسة الأخلاق، بخلاف التقوى فإنها تحصل علىسهولة لما يحصل من المراد بالألطاف الخفية من الله تعالى، فلهذا استعار لها المطايا لما فيه من التذلل وسهولة الانقياد، وإنما قال في الخيل: خلعت لجمها إشارة إلى أن الفرس مع اللجام لايأمن راكبها التقحم عليه فضلاً عن خلع اللجام، فإن ذلك أيسر للتقحم وأدعىله، وغرضه بذلك تشبيه أهل المعاصي في الإسراع إلى الخطايا بالخيل إذا خلعت لجمها، بخلاف أهل التقوى فإنهم قبضوا وملكوها، والإبل ربما ساعدت في الانقباض بغير زمام فضلاً عن حالها مع قبض الزمام، فإنها تكون أطوع لا محالة، وإنما قال في حق الخيل: تقحمت بهم؛ لأن التقحم إنما يكون في المكروه وخلاف المراد.

وقال في المطايا: أوردتهم؛ لئن الورود أكثر استعماله في المحبوب، كما يقال: ورد على الأمير بعادته وعطيته، وطابق في هذا الاستعارات كلها الغرض المقصود، وجاء في كل شيء بما يليق به، وما ذاك إلا لأنه قد جُعِلَ على البلاغة أميراً، وصار لمعانيها وأسرارها ترجماناً وسفيراً.
(حق وباطل): أي أمرنا وما نحن فيه حق وباطل، فالحق ما أنا عليه، والباطل ما خالفه وهذا من علم البديع يسمى الطباق، ويقال له: التكافؤ أيضاً، وهو أن يأتي بالشيء ونقيضه، وهذا كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا }[التوبة:82].
ومنه قوله:
أيا عجباً كيف اتفَقْنا فناصحٌ ... وفيٌّ ومطويٌّ على الغلِّ غادرُ
(ولكل): من ذلك.
(أهل): يريد أن الحق له أقوام، يقيمون حده، ويشيدون أركانه، وأن الباطل له أقوام، يحيون معالمه، ويرفعون ستائره ، ونظير هذا قوله صلى الله عليه وآله: ((إن للدنيا أبناء، وللآخرة أبناء ، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا)) .
(فلئن أَمِرَ الباطل): أَمِرَ الشيء إذا كثر وفشا، يقال: أَمِرَ ماله إذا كثر.
(لقديما فعل): انتصاب قديماً على الظرفية أي لزماناً قديماً فعل، لكنه طرح موصوفه، وأقيم مقامه فانتصب انتصابه، ومن هذا قولهم: ستر عليه طويلاً وقديماً وحديثاً، اللام في قوله: لئن أَمِرَ، هي الموطية للقسم، مثلها في قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ }[الحشر:11]، واللام في قوله: لقديماً هي جواب القسم، ومراده أن الباطل إذا كثر فهذا هو الغالب من أحواله؛ لأن أنصاره كثيرون، وأعوانه جم غفير.

(ولئن قلَّ الحق لربما ولعل): لأن أنصاره قليلون، ومتبعوه في غاية الندرة، ومتعلق رب محذوف أي ربما كان ذاك ، ولعل اسمها وخبرها محذوفان، أي ولعل ذاك حاصل، وحذفه إنما ساغ للعلم به، وهو واقع في كلام الفصحاء كثيراً.
ويحكى عن عمر بن عبد العزيز، وكان بليغاً، ذكر له أعرابي حاجة فقال: لعل ذاك، أي لعل ذلك حاصل.
(ولقلَّما أدبر شيء فأقبل ): هذه من الحكم العجيبة، والآداب الحسنة، يريد أن الإنسان إذا كان في صحة ونعمة فليعمر ما هو فيه من الصحة والنعمة بالطاعة والشكر، ولا يغفل عن ذلك حتى إذا فاتت طلب ذلك وسأله وعوَّل فيه، فقلَّ ما أدبر شيء فعاد، كما كان من قبل، ويصلح أن تكون مفيدة لمعاني غير ما ذكرناه، وأشرنَا إليه، وهي من حكمه القصيرة المشتملة على المعاني الجمة، والنكت الغزيرة.

(16) ومن خطبة له عليه السلام
(شُغِلَ من الجنةُ والنارُ أمامه!): يريد أنه لا شغل أعظم حالاً ممن كانت الجنة أمامه طالباً لها، ولا من كانت النار أمامه محاذراً عنها، والأمام في قوله: أمامه، يحتمل أن يكون حقيقة؛ لأن الجنة والنار لا بد من مشاهدتهما، ولا يشاهدان إلا مع المقابلة، بأن يكونا أمام كل مبصر، ويحتمل أن يكون مجازاً، والغرض أنهما إذا كانا نصب عينيه واظب على الطاعة ليحرز الجنة، وكف عن القبائح وسائر المحظورات ليسلم عن النار.
(ساع سريع نجا، وطالب بطيء رجا، ومقصر في النار[هوى] ): يعني أن الناس بالإضافة إلى إحراز رضوان الله تعالى والانكفاف عن محرماته على هذه الأصناف الثلاثة: فمنهم من سعى سعياً عظيماً بجد واجتهاد، وأعرض عن الدنيا، وكان همه الآخرة، فهذا قد حاز النجاة لا محالة وأحرزها بجهده، ومنهم من يطلبها طلباً بطيئاً بتسهيل وتهاون من غير إخلال بواجب ولا إقدام على قبيح، ولكنه يتساهل في أمور، فهذا يرجى له المغفرة من الله تعالى والتجاوز بالعفو عن التقصير، ومنهم مقصر في النار بإقدامه على القبائح، وإخلاله بالواجبات، ونظير هذا التقسيم قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }[الواقعة:8]، ثم قال: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ }[الواقعة:9]، ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }[الواقعة:10]، وفي هذا دلالة على نجاة اثنين دون الثالث.

21 / 194
ع
En
A+
A-