(8) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به الزبير
(يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه): يريد أنه قد ظهر إعطاؤه البيعة، لأنه كان ذلك على ملأٍ من الناس، لكنه ادَّعى أن قلبه لم يرض ذلك وأنه كاره له.
(فقد أقرَّ بالبيعة): حيث قال: إني كنت مكرهاً.
وكما قال طلحة: بايعت واللجُّ يعني السيف على قَفَيّ .
وهذا إقرار صريح من جهتهما.
(وادعى الوليجة): الوليجة: الخاصة والبطانة، كماقال تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً }[التوبة:16] أي بطانة، وغرضه ها هنا أنه ادعى دخوله في البيعة مكرهاً، وأصله من البطانة لأنه يبطن ذلك ويسره.
(فليأت عليها): يعني الوليجة.
(بأمر معروف ): لاينكره أحد، وهو إقامة البينة عليها.
(وإلا فليدخل فيما خرج منه): وهو الإمامة التي دخل فيها أولاً.

(9) ومن كلام له عليه السلام
(وقد أرعدوا وأبرقوا): أبرق الرجل وأرعد إذا تهدد وأوعد.
قال الكميت :
أَبْرِقْ وأَرْعد يا يزي‍ ... ‍د فما وعيدُك لي بضائرْ
(ومع هذين الأمرين الفشل):يريد أن من حق من أبرق وأرعد أن يصدر ذلك عن تؤدة ورزانة وحصافة ، إذا كان صادقاً وقادراً على إنفاذه.
فأما إذا صدر ذلك عن فشل وارتعاد فرائص فهو دلالة على كذبه وبطلانه، فأما نحن:
(فلسنا نرعد حتى نوقع): أي أنّا لانرعد إلا بعد الإيقاع بالعدو، وأن فعلنا متقدم على قولنا؛ لأن القول إذا تقدم فربما لايوافقه الفعل وربما يوافقه، أما إذا سبق الفعل فالقول لايكون إلا صادقاً لامحالة.
(ولا نسيل حتى نمطر): اعلم أن الإسالة من دون مطر محال، والغرض أنا لا نفعل أمراً إلا بعد تقرير قواعده والفراغ من مقدماته.

(10) ومن خطبة له عليه السلام
(ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله وَرَجْلِهِ): حزب الرجل: أصحابه وأعوانه، والأحزاب: الطوائف والجماعات، والخيل: الخيالة، والرجل: اسم جمع كالصحب والركب.
سؤال؛ ما يريد بقوله: إن الشيطان قد أجلب بالخيل والرجالة؟
وجوابه؛ أنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك مجازاً، وارد على جهة التمثيل، مثلّت حالته في تسلطه عليهم بالإغواء واستيلائه عليهم بمنزلة من أغار على قوم، وصاح عليهم وأجلب عليهم بخيله ورجله، حتى استأصل شأفتهم وقطع دابرهم.
وثانيهما: أن يكون مريداً لحقيقة ذلك، وأن يكون الشيطان له خيل ورجالة يقهر بها ويغلب.
(وإن بصيرتي لمعي): البصيرة: الحجة، واشتقاقها من البصر؛ لأن الإنسان يميز بها بين الحق والباطل كما يميز ببصره بين الأشياء كلها، ويدل على ذلك أني.
(ما لبَّست على نفسي): فأكون غاشاً لها وخادعاً وغاراً في ارتكاب الخطأ بالتأويلات الباطلة والشبهات الكاذبة.
(ولا لُبِّس عليّ): ولا خدعني غيري بالانقياد له، والمتابعة له لقوله.
(وايم الله): الأصل في هذا ايمن الله، وهي جمع يمين، والهمزة فيه همزة وصل عند سيبويه، ولم تفتح الهمزة إلا هاهنا، وفي الهمزة مع لام التعريف.
وقال الفراء: إنها همزة قطع، ورفعه على الابتداء، وخبره محذوف، وتقديره: أيمن الله قسمي .
(لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه): فرطت القوم أفرطهم إذا سبقتهم إلى الماء.
قال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صَحَابتِنا
كما تعجَّل فرَّاطٌ لورَّادِ

ومثله قوله صلى الله عليه وآله: ((أنا فَرَطُكم علىالحوض )) أي متقدمكم، والماتح هو: الذي يستقي الماء، والمعنى في كلامه هذا: والله لأهيّئنَّ لهم حرباً أقيم عمادها، وأشب نارها وأريهم مقامي وموضعي فيها، ولأقطعن دابرهم بالقتل واستئصال الشأفة.
(لا يصدرون عنه): لا ينفكون حتى آتي على آخرهم بالقتل، والضميرللحوض.
(ولا يعودون إليه): لما يحصل عليهم من القتل والتفريق، ولقد بلغ تمثيله للحرب بالحوض مبلغاً يصرف الأفهام إلى قبوله، وتبتدر الخواطر إلى فهمه ومعقوله .

(11) ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
(تزول الجبال ولا تَزُلْ): شبه رسوخ قدمه في نفوذ البصيرة وتحقق الأمر بثبوت الجبال ورسوخها.
(عَضَّ على ناجذك): النواجذ ليس هي الأنياب، وللإنسان منها أربعة، وإنما هي الأرحاء آخر ما ينبت، وعدتها ست عشرة رحاً، ويقال: إنها أسنان الحلم، وفي الحديث: ((ضحك رسول الله حتى بدت نواجذه )) ، يريد أنه استغرق في ضحكه، وجعلها هاهنا كناية عن الصبر عند تحمل المكاره، وأعظمها هو بذل الروح في سبيل الله.
(أَعرِ الله ج‍مجمتك): الجمجمة هي: تدويرالرأس.
سؤال؛ لم قال ها هنا: أعِر الله، ولم يقل: هب من الله، والهبة أدخل في الملك من العارية؟
وجوابه؛ هو أن الغرض [هاهنا إنما هو الجودة والسماحة لله تعالى بالنفس، ولا شك] أن نفس الإنسان بالعارية أسمح؛ لأنها عن قريب تعود إليه، بخلاف الهبة فإنها تملك عليه فلهذا شبهها بالعارية مبالغة في السماحة والبذل لها.
(تِدْ في الأرض قدمك): وتد الوتد إذا ضربه في الأرض، والأمر من ذلك هو قولنا: تِدْ، وأصله اوتد ذهبت الواو حملاً له على المضارع، لأن الأمر والمضارع يتقاربان، وذهبت همزة الوصل لأجل تحرّك عين الكلمة فاستغني عنها، وغرضه إجعل قدمك كالوتد المضروب على الأرض فلا يزول أبداً.
(إرم ببصرك أقصىالقوم): لأن من رمى ببصره أقصى العسكر فإنه لاينتهي دون الوصول إلى أقصاهم، ومن كان همه إدراك أولهم نكص عن بلوغ آخرهم.
(وغض بصرك): عن الالتفات يميناً وشمالاً، فإن ذلك يكون أثبت للجأش وأقرب إلى الطمأنينة.
سؤال؛ كيف قال: غض بصرك، وقد قال من قبل: إنه يرمي ببصره أقصى القوم؟

وجوابه؛ هو أن الغرض بالكف للبصروغضه عن الالتفات يميناً وشمالاً وذلك يورث الفشل، فأما رؤية أقصى العسكر فهو خارج عن هذا لما فيه من القوة والثبات .
(واعلم أن النصر من عند الله): لأن له القوة والحول والقدرة والبسطة فلا يوجد ذلك من جهة غيره بحال، وقد ضمن هذا الكلام نوعين من أنواع البديع كل واحد منهما له موقع في البلاغة لا يخفى:
أولهما: إتيانه فيما علَّمه من أدب الحرب بهذه الجمل من غير حرف عطف ، وهو يسمى التجريد، فإن أتى في الصفات فهو تعديد، كقوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ... }إلى آخرها[التوبة:112]، وإن [كان] أتى في الجمل سمي التجريد، ومثاله قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}[النور:35] فحذف الواو من هذه الجمل وجردها منها.
وثانيهما: إتيانه بهذه الآية من القرآن في آخر كلامه، فكانت واسطة لعقدها، ودرة لتاجها، وقمر هالتها، وطراز غِلاَلَتِها .
وله كلام في آية الكرسي ذيّله بهذه الآية، فكانت غرة [فيه] ومتميزة عنه، وفي تميز القرآن عن كلامه عليه السلام دلالة على أنه ليس من كلام البشر، إذ كان كلامه في أعلى طبقات الفصاحة، فإذا تميز القرآن عنه دل على ما قلناه.

(12) ومن كلام له عليه السلام لما ظفر بأصحاب الجمل
وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهداً ليرى ما نصرك الله على أعدائك، فقال عليه السلام:
(أهوى أخيك كان معنا؟ فقال: نعم): يريد إذا كان أخوك يحبنا وموالياً لنا، فلما قال[له] : نعم.
(قال: فقد شَهِدَنا والله): يعني أن أمره إذا كان على ما قلناه من المحبة والولاية فهو كمن شَهِدَنَا في عسكرنا ونَصَرَنا، وفي هذا دلالة على أن الولاية توجب الكون من الجملة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:51].
(ولقد شَهِدَ نا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء): أراد أن من كان موالياً لنا، وكانت عقيدته في حرب هؤلاء كعقيدتنا فهو في الحقيقة كأنه موجود معنا، وإن كان غير موجود الآن بأن يكون منياً في أصلاب الرجال، ونطفاً في قرارات أرحام النساء.
(سيرعف بهم الزمان): الرعاف: الدم الخارج من الأنف، ورعف القلم إذا سال منه المداد، وهذه استعارة رشيقة، وهي من لطائف استعاراته المعجبة.
(ويقوىبهم الإيمان): لما يقع بهم من نصرة الدين، وتقوية قواعده.

(13) ومن كلام له عليه السلام في ذم البصرة وأهلها
(كنتم جند المرأة): أراد بالمرأة عائشة، وفي هذا الكلام تعريض بضعف أحلامهم وركة عقولهم في انقيادهم لحكمها، وذلك من أوجه:
أما أولاً: فلما ورد عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) .
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان لا ولاية لها في بضعها فكيف يكون لها ولاية في غيره.
وأما ثالثاً: فلما يختصين به من ضعف العقل، ولهذا جعل الله شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد، فمن هذا حاله كيف يستحق أن يكون أهلاً للمتابعة أو يناط به شيء من الأمور الدينية، ونظير هذا في التعريض قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ }[الزخرف:18] أي لايزال متحلياً بأنواع الزينة {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }[الزخرف:18]، أي أنه لايبين وجه حجته ولا يفهم له احتجاج، فمن هذه حاله كيف يجعل الملائكة الذين هم أكرم المخلوقات عند الله وأقربهم إليه وأعظمهم منزلة عنده بمنزلة الإناث.
(وأتباع البهيمة): يريد الجمل، فجعله متبوعاً لما ركبته، وأجابوها واحتكموا لأمرها في مخالفته، والدعاء إلى توهين أمره في خلافته، وهذه أتحف من الأولى ، وكل هذا منه مبالغة في قبح ما توسموه من مخالفته، وشقَّ عصا المسلمين، فنزَّلهم في عدم البصيرة فيما أتوه بمنزلة من بايع بهيمة لا عقل لها.
(رغا فأجبتم): يريد أنما بينكم وبين الإجابة [والانقياد] إلا أنه رغا أي صاح فأجبتم، والرَّغَاء في الإبل بمنزلة ال‍خَوَارِ في البقر، والصَّهيل في الخيل، والنُّهاق في الحمير، والبَعاء في الماشية.

(وعقر فهربتم): أراد أنه لم يكن السبب في اجتماعهم إلا الجمل فلما عقر تفرقوا شذر مذر، وفيه تعريض منه بطلحة والزبير في اتباعهما لعائشة ونكثهما لبيعته.
وأقول: لقد هلكوا جميعاً واستحقوا الوعيد من جهة الله تعالى بمخالفته وشقاقه، لولا تداركهم الله برحمته بالتوبة والإنابة والرجوع إليه.
(أخلاقكم دقاق): الدقة من التراب هو: السحيق الذي جمعته الريح، والغرض أن كل ماكان دقيقاً فإنه ضعيف، لا يعتمد عليه لأنه يبطل ويتلاشى، ومعناه أن آراءكم وشيمكم لا يعتمد عليها
(وعهدكم شقاق): الشقاق هو: الخلاف والعداوة، فالعهود من حقها الوفاء والحفظ، وأنتم نقضتم حكمها بأن جعلتموها شقاقاً حيث نكثتم البيعة وخالفتم أمري.
(ودينكم نفاق): ليس الغرض أنهم صاروا بمخالفته كفاراً منافقين فإن سيرته فيهم تخالف ذلك، وإنما الغرض هو أنكم تدَّعون أنكم باقون علىالدين، ومستمرون عليه، مع ما يظهر منكم من مخالفتي وشقاقي ونصب العداوة لي، فظاهر دينكم لايوافق بواطنكم، وهذه هي صفة المنافق لأنه يظهر خلاف ما يبطنه في قلبه ويفارق ما يبدو من لسانه.
(وماؤكم زعاق): شديد الملوحة، لا يمكن لشدة ملوحته شربه، وكنَّى بذلك عن حالهم فإنهم مع شدة المخالفة والمعاداة له، لاتكون موالاتهم سائغة لأحد من المسلمين.
(المقيم بين أظهركم): المخالط لكم والراضي بأعمالكم والمتخلق بهذه الطباع فيكم.
(مرتهن بذنبه): واقع في الخطايا رهين بالذنوب، لما يلحقه بالإقامة بين أظهركم، كما قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }[الطور:21] شبهه بالرهن؛ لأن الإنسان إذا قارف المعصية فإنه يكون مرتهناً بنفسه، حتى يتخلصها بالتوبة.
(والشاخص عنكم): والمفارق لكم، والبعيد عنكم.

(متدارك برحمة من ربه): الرحمة: هي ما يكون من الألطاف الخفية من جهة الله تعالى، يشير إلى أن حصول الألطاف [الخفية] إنما تكون بالمفارقة لهم، ووقوع الخذلان يكون بالإقامة بين أظهرهم .
(كأني بمسجدكم هذا): يعني مسجد البصرة، وإنما قال هذا أي الذي تجتمعون فيه للآراء الفاسدة والأقاويل الباطلة في عداوتي وشقاقي.
(كجؤجؤ سفينة ): جؤجؤ الطائر وجؤجؤ السفينة هو: الصدر منهما، وإنما شبهه بالجؤجؤ لأمرين:
أما أولاً: فلما يبعث الله عليه من العذاب بالغرق، ولهذا قال في رواية أخرى.
(وايم الله، لتغرقن بلدكم هذه): يعني البصرة.
(حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة): وأما ثانياً: فلأنه أشار بهذا إلى أنه لا يبقى منه إلا أثر أو طَلَل أي يخرب ولا يبقى منه إلا ما ذكرناه، وما قاله عليه السلام يحتمل أن يكون قد وقع أو أنه سيقع بعد هذا.
(أرضكم قريبة من الماء): كنّى بما ذكره عن ركة أحوالهم ونزول هممهم حتى صارت في أسفل سافلين، ولهذا يقال: أنف في السماء، وقدم في الماء، يُضْرَبُ مثلاً لمن يدعي الحلم والوقار، وهو يفعل أفاعيل السفهاء، فيقال له ذلك.
(بعيدة عن السماء): أراد إما بعيدة عن الرحمة من الله تعالى؛ لأنها تنزل من السماء، وإما أن أحلامهم بعيدة عن عادة أهل الديانة وأهل الورع والنفاسة.
(خفَّت عقولكم): فلهذا تستفز بأدنى شيء لارزانة في حصاتها ولا ملاك لأمرها.
(وسفهت حُلومكم): أي صارت تشبه أخلاق السفهاء فيما تلبستم به من المخالفة.
(فأنتم غرض لنابل): الغرض: ما يرمى من قرطاس أو غيره، والنابل: صاحب النبال، ومراده أن كل أحد يرميكم بنباله، ويسدِّد إليكم سهامه.

20 / 194
ع
En
A+
A-