(أشفق من غلبة الجهَّال): أشفق الرجل إذا حذر خوفاً من غيره، وأشفق إذا صار ذا حذر وخوف، قال الله تعالى: {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }[الأحزاب:72] أي حذرن [خوفاً] من تحملها يعني الأمانة، وقال: {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ }[المؤمنون:57] أي حذرون خوفاً من عذابه، والمعنى أن من غلبه الجهال على رأيه وأمره صار ذا حذر وخوف من سوء عاقبة رأيهم وضلال أمرهم.
(ودول الضلال): حكى يونس : عن أبي عمرو بن العلاء : أن الدَولة بفتح الفاء تكون في الحرب، يقال: كانت الدَولة لنا عليهم، والدُولة بالضم في المال، يقال: هذا المال دُولة بيننا أي نتداوله.
وقال أبو عبيد : الدَولة بفتح الفاء هو: المصدر، وبضمها اسم للشيء المتداول.
وقال عيسى بن عمر : كلاهما يكون في المال والحرب، فأما يونس فقال: أما أنا فوالله ما أدري ما بينهما ، يعني ما حالهما، ومراده عليه السلام أن [من] غلبه أهل الجور والفساد من أرباب الدولة فهو حذر خوفاً من وقوعه في المتالف لما في رأيهم من الفساد.

(اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل): يريد بعضنا على الحق وبعضنا على الباطل موقعه، وهذا من أنواع البديع يسمى اللف والنشر، وحقيقته آيلة إلى أن المتكلم يجمع بين كلمتين بالواو، وهذا هو اللف، ثم يلحق بكل واحد منهما ما يناسبه من الحكم ويلائمه وهذا هو النشر، وهذا كقوله ها هنا: تواقفنا على الحق والباطل، فهذا اللف، ثم نشره بأن المعنى فيه فنحن على الحق، وأنتم علىالباطل، ونظيره من كتاب الله تعالى قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }[الفرقان:62] فهذا اللف، ثم قال بعد ذلك: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ }[يونس:67] يعني الليل، {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا }[يونس:67] فهذا نشر.
(من وثق بماء لم يظمأ): أي من وثق بماء العلم لم يظمأ بعطش الجهل، ومراده من هذا هو أن من كان على بصيرة من أمره، وانشراح صدر في دينه، فهو ساكن القلب مطمئن النفس، ومن كان على غيربصيرة فهو قلق الأحشاء، مضطرب الفؤاد، كمن يكون في مفازة، ومعه ما يكفيه من الماء، فإن تحققه للماء يرفع عطشه، ويسكن التهابه، ومن ليس معه ماء في تلك المفازة فإن استشعاره لعدم الماء يذيب فؤاده، ويلهب أحشاءه، ثم إن هذه الخطبة مع صغرها، وتقارب أطواقها قد اشتملت على الحكم القصيرة، والمعاني البديعة، وإن أنهار البديع لتطَّرد على صفحاتها، وأنوار الحسن تجول على جنباتها.

(5) ومن كلام له عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم] وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
(أيها الناس، شقوا أمواج الفتن): أي هو المنادى، وهاء التنبيه مقحمة عوض عمَّا كان لأي من الإضافة، والناس صفة لأي، والشق هو: التفريق والانصداع، ومنه شق العصا وهو تفرقها، والأمواج: جمع موج، وهو ما يكون من زفير البحر عند هيجانه بالريح، وهو استعارة ها هنا؛ لأن إقبال الفتن لعظمها كإقبال أمواج البحر في عظمها وتراكمها.
(بسفن النجاة ): كما أن البحر لا يمكن أن يعبر إلا بالسفن، فهكذا لا يمكن الخلاص من أمواج الفتن إلا بسفن البصائر، وتمييز الحق فيها عن الباطل.
(وعرجوا عن طريق المنافرة): يقال: فلان عرج على كذا، إذا واظب عليه، وعرج عن كذا إذا تركه ومال عنه، والمنافرة هي: المفاخرة في الأحساب، يقال: نافره فنفره ينفره بالضم إذا غلبه وفخر عليه بحسبه، وغرضه من هذا ميلوا عن مسالك المفاخرات في الأحساب.
(وضعوا تيجان المفاخرة): وأسقطوها عن أن تكون منصوبة على رؤوسكم، وهذا الكلام يشبه أن يكون قد أخذه من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم] يوم الفتح، لما أخذ بحلقة باب الكعبة وقريش حوله: ((إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وافتخاركم بالآباء، الناس كلهم من ولد آدم، وآدم من تراب)) فسبكه هذا السبك، فصار أنيق الديباجة، رقيق الزجاجة.
(أفلح من نهض بجناح): يريد من نهض لأمر من الأمور، وكان له أنصار يعينونه على تحصيل مطلوبه، فقد أفلح بالوصول إليه، استعارة من نهوض الطائر بجناحه.

(أو استسلم فأراح): يريد ومن لم يكن له أعوان على ما يطلب فانقاد لحكم المقادير وقعد، فقد أراح نفسه عن التشوف لما لا قدرة له عليه، وهذا كلام يخاطب به نفسه في أول الأمر، فإنه استسلم وانقاد لما لم يجد ناصراً على ما يريد.
(ماء آجن): أي هذا الذي أنا فيه أمر صعب، شبهه بالماء الآجن، وهو المتغير لونه وطعمه.
(ولقمة يغص بها آكلها): الغصة هي: الشجا، وغص باللقمة وأغصته إذانشبت في حلقه فلا تصل إلى معدته ولا ترتد إلى فِيهْ، يريد أن من خاض في أمر، ولم يتم له ذلك الأمر، كان كمن غص باللقمة فلا هو ردها ولا هو ابتلعها، فهكذا حاله لاهوتركه، ولاهو أتمه وأنفذه.
(ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها): جنى الثمرة واجتناها إذا أخذها، ومراده هو أن من اجتنى الثمار لغير وقتها، فإنه لايصل إلى مقصوده منها، ولا ينتفع بها، يصير حاله:
(كالزرّاع بغير أرضه): فكما أن الزراع بأرض الغير لايصل إلى مقصوده؛ لأن لصاحب الأرض رفعه وإفساده، وهذا منه عليه السلام تشبيه بحالة من تشوش الأمر عليه، وقلة الأنصار على ما يريده، وحصول الوحشة في حقه، وتنكر الأحوال له، فأنا فيما أعاني من هذه الأمور أكابد على الصعوبة لا أنفك عن حالتين.
(فإن أقل يقولوا: حرص علىالملك): يقول إن أمدد يدي للمبايعة كما طلبوها مني يتهموني بطلب الدنيا، والإقبال إليها، والإعجاب بزخرفها.
(وإن أسكت ، يقولوا: جزع من الموت): يقول: وإن أكفف يدي عن المبايعة، يقولوا: ما ترك ذلك إلا عجزاً عن الأمر، وفراراً من الموت، فما انفك عن هاتين الحالتين.

(هيهات بعد اللتيا والتي!): أراد بقوله: هيهات أي بَعُد ما قالوه من أن تأخري كان جزعاً من الموت، أو أن إقدامي إن أقدمت كان طمعاً [في الدنيا] ، واللتيا والتي هما اسمان من أسماء الداهية.
قال العجاج :
بعد اللتيا والتي ... إذا علتها أنفسُ تَرَدت
ومعناه بعد الشدة العظيمة والطاقة الكبرى أن أخوّف بالموت أو أطمع في زخرف الدنيا، وإنما حذفوا صلة اللتيا والتي ليوهموا أنها بلغت مبلغاً تقاصرت العبارة عن كنهه في الشدة والعظم، وقوله:
(والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه): إنما هو إنكار لقولهم: جزع من الموت، واستحضار لما أراده بقوله: بعد اللتيا والتي، فإنما جعلهما كناية عن استبعاد مقالتهم في طمعه في الدنيا وجزعه من الموت، فإقسامه بالله على ما ذكر من الأنس بالموت يرد مقالتهم ويكذبها، ولعمري إن من بلغ حاله في الأنس بالموت إلى هذه الحالة فإنه خليق بأن لا يجزع منه ولا يهابه إذا ورد عليه.
(بل اندمجت على مكنون علم): اندمج في الشيء إذا دخل فيه وتغطى به، وكننت الشيء وأكننته إذا سترته، والمعنى في هذا هو أن العلم مندمج في صدره قد استولى عليه.
(لو بحت به): باح بالسر وأباحه إذا أظهره.
(لاضطربتم): تحركتم حركة بعنف وشدة.
(اضطراب الأرشية): اضطراباً يشبه اصطكاك الأرشية، وهي الحبال الطويلة.
(في الطَّويَّ البعيدة): الطوى: البئر، وفعيلة ها هنا بمعنى مفعولة، والمقصود من هذا [هو] أني لو أظهرت لكم مكنون علمي لفشلتم، ولا ضطربت عقائدكم وتزلزلت، كما قال عليه السلام في بعض كلماته: (لو شئت أن أخبر كل واحد منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا برسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم]) .

سؤال؛ ما وجه الملائمة بين قوله: بل اندمجت على مكنون علم، وبين قوله: والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الصبي حتى أورده على إثره، وبينهما تنافر كما ترى؟
وجوابه؛ إن هذا من باب الاستطراد، وله في البلاغة موقع عظيم، وهو أن يخرج من كلام إلى كلام آخر مغاير للأول، ألا ترى أنه ها هنا بينا هو يتكلم في أنسه بالموت إذ قد خرج إلى ذكر حاله في العلم، وهذا من غريب البلاغة وبديعها، ونظيره قوله تعالى: {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }[فصلت:39] ثم قال بعد ذلك : {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى }[فصلت:39] فبينا هو يدل على عظم قدرته بإنزال الغيث واهتزاز الأرض، إذ خرج إلى ذكر إحياءه الموتى، وليس لأحدهما تعلق بالآخر، وكم في كلامه من معنى بديع، وسرعجيب كما ترى.

(6) ومن كلام له عليه السلام لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير
(والله لا أكون كالضبع ينام على طول اللَّدْمِ): اعلم أن السبب في هذا الكلام هو أن أمير المؤمنين لما أراد الخروج إلى العراق تابعاً لطلحة والزبير، أشار عليه ولده الحسين بالرجوع عن ذلك، فقال مجيباً له: (والله لا أكون) واللدم: عبارة عن صوت الحجر إذا وقع على الأرض، قال الشاعر:
وللفؤادِ وَجِيْبٌ تحت أَبهره
لَدْمُ الغلام وراء الغيبِ بِالْحَجَرِ
واللَّدْمُ هو: أن يضرب الصائد بالحجر على جحر الضبع فيحسبه صيداً، فيخرج عند ذلك حياً يصاد، وغرضه من هذا المثل هو إنكاره على الحسين لما أشار إليه بالرجوع عن الخروج إلى العراق، فيقول: أتبعهم، ولا أقف حتى يقصدوني بالحرب، فأكون كالضبع [تكون] واقفة فتصاد في جحرها.
(حتى يصل إليها طالبها): بسبب وقوفها في جُحْرِهَا.
(ويختلها راصدها): الختل: الخدع، وختله إذا خدعه، والراصد هو: المترقب، وكل هذا حاصل بوقوفها، فأنا لا أتبع رأيك في هذا.
(ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق): أنتصر بالمتابع لي، والمتابع للحق المنقاد له، فجعل الضرب كناية عن الانتصار لما كان سبباً فيه، فأضرب به.
(المدبر عنه): المخالف [لي والآنف] عن متابعتي.
(وبالسامع): لأمري.
(المطيع): له.
(العاصي): المخالف لأمري وإرادتي.
(والمريب أبداً): الشاك المتردد.
(حتى يأتي عليَّ يومي): عبارة عن الموت، وانقطاع الأجل.
(فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي): مؤخراً عن أخذه واستيفائه، وهذا لشؤم الدنيا وتكدرها.

ويحكى أن ابن عباس تكلَّم يوماً في صفة أميرالمؤمنين، فقال: كان رجلاً مملؤاً حلماً وعلماً، عزته سابقته من رسول الله، فكان عنده أنه لا يمدُّ يده إلى شيء إلا فناله، فما مدَّ يده إلى شيء فناله.
(مستأثراً عليَّ): مستبداً به دوني كما كان في الإمامة وغيرها.
(منذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا ): يريد أن أول الاستئثار كان بعد وفاة الرسول عليه السلام إلى هذه الساعة.
سؤال؛ أليس هو الآن الإمام والخليفة، فكيف قال: مستأثراً عليه بحقه؟
وجوابه؛ هو أن الاستبداد قد كان حاصلاً من قبل في تقدمهم عليه، وأخذهم لها بغير رضاه.

(7) ومن كلام له عليه السلام
(اتخذوالشيطان لأمرهم مِلاَكاً): الملاك: ما يقوم الشيء به ويستقر أمره معه، ولهذا قال صلى الله عليه وآله: ((ملاك الدين الورع، وملاك العمل خواتمه )) فوصف هؤلاء باتخاذهم الشيطان قوام أمرهم كله فلما اتخذوه هكذا:
(اتخذهم له أشراكاً): والأشراك تحتمل أمرين:
أما أولاً: فبأن تكون جمع شَرَك وهي الحبالة التي يصاد بها فجعلهم له مصايد، كما يحكى عن إبليس أنه قال [لله] : يارب، اجعل لي مصائد، قال: ((النساء)).
وأما ثانياً: فبأن تكون جمعاً لشريك مثل شريف وأشراف، والغرض هو اتخاذهم شركاء، كما قال تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ }[الإسراء:64]، فالمشاركة في الأموال بالربا والظلم والتصرف بالمكاسب المحظورة، والمشاركة في الأولاد بالزنا، وادعائه له من غير وجهه، وتسمية الولد بعبد اللات والعزى وغير ذلك.
(فباض وفرخ في صدورهم): البيض والتفريخ لكل ما لا يلد من أنواع الطير كلها.
وحكي عنه عليه السلام أنه قال: (كل ما ظهر ت أذنه فنسله يكون بالولادة، وكل ما خفيت أذنه فنسله يكون بالبيض والتفريخ منها).
(ودبَّ ودرج في حجورهم): الدبيب على وجه الأرض أقل من المشي، والدروج أكثر منه أي مشى ومضى لسبيله في الإغواء والتزين، فالتبسهم من كل وجهة .
(فنظر بأعينهم): في جميع مطالع السوء.
(ونطق بألسنتهم): بالكذب، والزور، والإملاء، والخدع.
(فركب بهم الزلل): جرَّأهم على كل ما يزل به الإنسان عن الحق.
(وزين لهم الْخَطَلَ): المنطق الفاسد المضطرب، وفلان قد خطل في كلامه يخطل خطلاً إذا أفحش فيه، فجميع هذه الأمور كلها من الدبيب والتفريخ والدروج في الحجور، وهي: جمع حجرة وهي ناحية الدار.

(فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه): أي شاركه في أمره كله.
(ونطق بالباطل على لسانه): فصار مستولياً عليه في كل أحواله.
واعلم: أن كلامه هذا قد اشتمل على نوعين من أنواع البديع، وكل واحد منهما له موقع في البلاغة لايخفى:
أولهما: الترجيع وهو: أن تكون الكلمتان مستويتين في الإعجاز والأوزان وهذا كقوله: باض وفرخ في صدورهم، ودبَّ ودرج في حجورهم، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }[الغاشية:25-26].
وثانيهما: التخييل وهو: تصوير حقيقة الشيء، حتى يتوهم أنه ذو صورة مشاهدة، وأنه مما يظهر في العيان، وهذا كقوله: نظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، ومن هذا قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر:67]، وقوله [تعالى] : {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ }[الصافات:65].

19 / 194
ع
En
A+
A-