(3) ومن خطبة له عليه السلام
المعروفة بالشقشقية وهي: من جلائل الخطب النفيسة على الاستعارات الرشيقة، والتمثيلات الحسنة، وفيها تنبيه على علو همته وارتفاع قدره، قال فيها:
(أما والله): أما هذه هي المحققة وهي دالة على التنبيه، وهي نظيرة ألا المحققة، كما قال تعالى : {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ }[يونس:62] {أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ }[الصافات:151] و{أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ }[فصلت:54] وغير ذلك.
قال:
أَمَا وَالذِي أَبْكَى وأَضْحَكَ، وَالَّذِي
أَمَاتَ وأَحْيا والذي أَمْرُهُ الأَمرُ
ويستعمل القسم بعدها كثيراً.
(لقد تقمصها): الضمير للإمامة أي لبسها لبس القميص، وهذه استعارة حسنة فا شتمل عليها كا شتمال القميص على البدن.
(فلان ): يشير به إلى أبي بكر، اللام في لقد هي المحققة للجملة الواقعة [بعدها] ، الموضحة لأمرها وشأنها، كأنه قال: لقد اختص بها اختصاصاً ظاهراً، لايشك فيه أحد وانفرد بها قطعاً.
(وإنه ليعلم): ليتحقق تحققاً لاريب فيه.
(أن محلي منها): مكاني من الإمامة ومنزلتي منها، من ها هنا كالتي في قولك: منزلتك من فلان قريبة لابتداء الغاية.
(محل القطب من الرحى):مكان القطب: وهي حديدة تدور عليها الرحى للماء، ومن هذه حاله فإنه لأهل لها، وإني لها كالجبل الذي.
(ينحدر عني السيل): لارتفاعه وعلو سمكه، والسيل إنما يستقر على الحضيض وقرار الأرض.
(ولا يرقى إليَّ الطير): لشموخه وارتفاع حجمه، والطير إنما يحلق إلى مقدار الأبنية المتقاصرة، فلما رأيت ما رأيت من الاستبداد زعماً للأولوية والإعراض عني، وتركه اعتماداً على الأحقية.
(فسدلت عنها ثوباً): سدل الثوب إذا أرخاه على منكبيه، من غير أن يرده عليهما، أو على أحدهما.
(وطويت عنها كشحاً): والكشح: مابين الخاصرة والضلع الخلف، وهذا كلام جعله كناية عن الإعراض عنها، وتركها والإقبال على غيرها، كما جعل قوله: فلان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، كناية عن التحير، وقولهم: فلان يخبط على الماء، وينفخ في غير ضِرَمِ، كناية عن الاشتغال بما لا يجدي ولايعود بنفع وغير ذلك، وهو يزيد الكلام بلاغة ويكسبه رونقاً وحلاوة.
(وطفقت): جعلت، قال الله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ }[الأعراف:22] أي جعلا.
(أرتئي): أفتعل من الرأي والتدبير، ومعناه جعلت أجيل رأيي، وأدبر في عاقبة أمري.
(بين أن أصول): صال عليه إذا استطال وعلا، وقد قيل: رب قول أشد من صول ، أي ربما كان الكلام أنفع في بعض الأحوال من المصاولة والاستطالة.
(بيد جذَّاء): اليد ها هنا هي: الجارحة، والجذَّاء هي: المقطوعة، والجذُّ: القطع، قال الله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }[هود:108] أي مقطوع، وهذاالكلام جعله كناية عن عدم الناصرله على ما يريده.
(أو أصبر): وأكظم غيظي:
(على طخية عمياء): الطخية: الظلمة، والطخية بالفتح: الكلمة التي لا يفهم معناها، وأراد بها ظلمة مظلمة وقضية مستعجمة لايفهم معناها، ولا يدرك منتهاها، وجعل هذا الكلام كناية عن صعوبة الحال وشدتها، واستفحال أمرها وامتداد زمانها ، حتى أنها.
(يهرم فيها الكبير): إذ ليس بعد الشيخوخة إلا الهرم.
(ويشيب فيها الصغير): إذ ليس بعد الكهولة إلا المشيب، وأراد بهذا الإبانة والإفصاح عن عظم حالها.
(ويكدح فيها ): يسعى ويعالج، كقوله تعالى: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا }[الإنشقاق:6].
(مؤمن): أراد نفسه.
(حتى يلقى ربه): وهو على حالته، مستأثراً عليه بحقه، موَّلى عليه غيره، فلما كان أمري فيما أنا فيه لاينفك عن أحد هاتين الحالتين.
(فرأيت): فكان عاقبة نظري، ومنتهى تفكيري.
(أن الصبر على هاتا): وهي الطخية العمياء؛ لما فيها من سلامة الدين، وتسكين الدهماء، والإعراض عن زخرف الدنيا، ولذتها.
(أحجى): إما من قولهم: فلان أحجى بهذا، أي أخلق بها وأحق، وإما أخذاً لها من الحجا وهو العقل، أي أنها فعل ذوي الحجا؛ لأن من شأنهم الإعراض عن ما فيه شجار وخصومة.
(فصبرت): فحصل صبري على احتمال المكاره، والاصطبار لها.
(وفي العين قذى): القذى: ما يسقط في العين فيؤذيها، ومنه الحديث: ((يرى أحدكم القذى في عين صاحبه ، ولا يرى الجذع في عينه)) يريد أنه يتيقظ لصغير القبيح في غيره، ولا يتيقظ لكبير قبح فعله.
(وفي الحلق شجاً): الشجا: ما يعترض في الحلق
قال:
من يكدني بِسَبّي كنتُ منه ... كالشَّجا بَيْنَ حَلْقهِ والوريدِ
(أرى): أنظر بعيني، وأتحقق بقلبي:
(تراثي نهباً): التراث والورث واحد، والتاء بدل من الواو فيه، والنهب: ما ينتهب ويأخذه من شاء، ثم كانت هذه حالي وهجيراي، وعاقبة أمري:
(حتى مضى الأول): مات أبو بكر.
(لسبيله): لطريقه إلى الآخرة، وكان الموت طريقاً؛ لأن به يصل إليها لا محالة.
(أدلى بها): من قولهم: أدلى إليَّ بالقرابة، وغرضه أنه دفعها، وأدلى قد يأتي متعدياً بنفسه، كقوله تعالى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ }[يوسف:19]، وتارة بحرف الجر، كقوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ }[البقرة:188]، وهاهنا استعمله متعدياً بالباء دلالة على ملاصقته لها بالدفع .
(إلى فلان بعده ): أراد عمر بن الخطاب، فإنه عقد له الخلافة بعده، وهذا لين عند المعتزلة أن الخمسة قد اختاروا أبا بكر وهو سادسهم، وعقدوا له، فلما صحت إمامته بالعقد، جاز أن يكون عاقداً لغيره، فلهذا صحت إمامة عمر عندهم عملاً على هذا؛ لأنه لما صار مختاراً بالعقد جاز أن يعقد ويختار لغيره، ثم تمثل ببيت الأعشى :
(شَتَّانَ ما يَوْمِي على كُورِهَا ... ويَوْمُ حَيَّانَ أَخي جَابرِ )
ولنذكر معنى البيت، وموضع الشاهد فيه:
أما معناه فقوله: شتان هو اسم من أسماء الأفعال، والمعنى إذا قلت: شتان زيد وعمرو، أي تباينا وافترقا، ويستعمل على وجهين:
أحدهما: وهو الأكثر الأعرف عند أئمة اللغة: شتان زيد وعمرو، وشتان ما زيد وعمرو، وعلى هذا ورد البيت للأعشى.
وثانيهما: أن يقال: شتان ما بين الزيدين، وشتان ما بينهما، أي بعد ما بينهما، وعلى هذا ورد قول من قال:
لَشَتَّان ما بين اليزيدين في النَّدى
يزيد سليم والأغرّ بن حاتم
فأما الأصمعي( ) فأنكر هذا ورده، ولم يستبعده آخرون؛ لأن الغرض من هذا بَعُدَ ما بينهما، وما زائدة، يومي فاعل شتان، والكور للناقة كالسرج للفرس، ويوم حيان عطف على ما قبله بالرفع أيضاً، وحيان وجابر كانا رئيسين من رؤساء بني حنيفة، والمعنى فيه ما أبعد ما بين اليومين اللذين مرا على رأسي، يوم ركبت ناقتي وعالجت مشقة السفر، ويوم استقر في المكان عند حيان في خفض العيش والدعة والكرامة والجائزة العظيمة من حيان، يمدحه بذلك ويشكره، وكان سيداً في بني حنيفة.
وحكي أنه عِيْبَ على الأعشى؛ لأنه نسبه إلى أخيه في الاشتهار، مع كونه غنياً عن ذلك لشرفه في نفسه من غير حاجة إلى ذكر أخيه، فاعتذر الأعشى بالقافية، فلم يعذره في ذلك .
فأما موضع الشاهد من البيت، فإنما أورده عليه السلام لأحد غرضين:
أحدهما: أن المراد ما أبعد ما بين حالتي مع رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] وفي إدنائي وتقربي منه، وبين حالتي الآن في إبعادي وإقصائي عن الأمر.
وثانيهما: أن يكون غرضه ما أبعد حالي عن حال عمر، فإذا عقدت له مع أن حاله لايبلغ إلى حالي، فكنت أحق بالعقد منه وأولى، وهذا جيد، ولهذا تمثل به عليه السلام عقيب قوله: فأدلى بها إلى فلان بعده، وهذا يقوي ما قلناه.
(فيا عجبا!): أصله إما يا عجبي وأبدلت الألف من الياء، وإما يا عجباه فطرحت هاء السكت عند الوصل، والمعنى: ياقوم عجباً لهذا الأمر، واستعجاباً منه.
(بينا): [هي بين] لكن أشبعت الفتحة فنشأت الألف، ويزاد عليها ما، فيقال: بينما، والمعنى تعجبي حاصل بين أوقات استقالته لها في حياته، وتليه الجملة الإبتدائية، ومنه قولهم: بينا رسول الله واقف، بينا زيد قائم إذ جاء فلان.
(هو يستقيلها في حياته): الضمير في يستقيلها للإمامة، وفي حياته يعني أبابكر، والاستقالة: طلب فسخ العقد السابق، كالاستقالة في البيع؛ لأن أبا بكر كان يقول في بعض الأوقات في خلافته: أقيلوني فلست بخيركم، فلهذا قال عليه السلام: العجب من حاله إذا كان يستقيلها في حياته، فكان من حقه ترك الأمر، وإهماله عند الموت من غير مثابرة إلى إمالتها إلى الغير وتخصيصه بها.
(إذ عقدها لآخر بعد وفاته): يشير إلى عهد أبي بكر إلى عمر، وقوله بعد ذلك: لشد ما تشطر، اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وأراد على جهة الإنكار لقوله: يستقيلها.
(لشدّ ما تشطر ضرعيها): شدَّ عضده إذا قوَّاه، قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }[ص:20]، واللام في قوله: لشد هي المحققة للجملة، مثلها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ }[الحجر:97]، وما هاهنا مصدرية، وهي وما بعدها فاعلة لشدّ، وتشطر فعل وفاعله أبو بكر، وشطر الشيء: نصفه، وشطره: بعضه، وفي المثل: أحلب حلباً لك شطره ، وهو هاهنا مستعار من الناقة؛ لأن لها ضروعاً أربعة اثنان مقدمان ، واثنان مؤخران، كل ضرعين فيها يسميان خِلْفاً ، وكل خلف يقال: شطر، والمعنى [فيه] أن أبا بكر قد حلب شطرها ، يعني الخلافة برهة من الزمان ومزَّ أخلافها، وعصر بلالتها مدة حتى إذا دنا موته نحاها عني:
(فصيَّرها): جعلها:
(في حوزة خشناء): الحوزة: هي الجانب من الشيء، وإنما سمي الجانب حوزة؛ لأن الإنسان يحوزه بوقوفه فيه وشغله له، وأراد بالحوزة جانب عمر حين عهد إليه بالخلافة وجعلها له.
(يغلظ كَلْمُهَا): الغلظ: خلاف الرقِّة، والكَلْمُ: الجرح، قال:
وكَلْمُ السيفِ تدملَه فيبرا ... وكَلْمُ الدهرِ ما جَرَحَ اللسانُ
(ويخشن مسُّها): الخشن: خلاف الملاسة، والمسُّ: هو الجسُّ باليد، وهو مستعار ها هنا استعارة رشيقة، والمعنى هو أن عمر لما علا ذروة الخلافة وملك زمامها وقع في شدائد، وألم به خطوب عظيمة، تدهش الحليم، ويذهل عنها اللبيب، وكنى عن هذا بغلظ الكلم وخشن المس إشارة إلى ما قلناه، وهي كناية عجيبة، لايفطن لها إلا هو.
(ويكثر العثار [فيها] ): يشيربه إلى المطاعن التي وقعت في خلافته.
(والاعتذار منها): يريد أنه قد عثر واعتذر عن عثراته، ولنشر إلى طرف من ذلك:
أولها: أنه رجم حاملاً، فقال له أمير المؤمنين: هب أن لك سلطاناً عليها، فما سلطانك على مافي بطنها. فأمسك، وقال: لولا علي لهلك عمر .
وثانيها: أنه كان يمنع من المغالاة في المهور في خطبه فنبهته امرأة، فقالت له: إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا }[النساء:20]، فاعتذر عن ذلك وقال: كلكم أفقه من عمر، حتى المخدَّرات في البيوت .
وثالثها: أنه أخبر بقوم يشربون الخمر فتسور عليهم، فقالوا له: أخطأت في ثلاث: منها أن الله تعالى نهى عن التجسس وقد فعلته، ومنها أنك دخلت بغير أذن، ومنها أنك لم تسلم ، فا عتذر إليهم في ذلك، وغير ذلك من القضايا الاجتهادية التي ارتبك فيها، وأخذ الحكم فيها من أمير المؤمنين، وهي ظاهرة مروية في كتب الفقه ، فهذا هو مراده بقوله عليه السلام: ويكثر العثار والاعتذار منها، فإذا كان الأمر كما قلنا من مقاساة الأمورالشديدة والخطوب الصعبة بتحمل الخلافة، والقيام بأعبائها.
(فصاحبها): الضمير إما للحوزة؛ لأنه هو السابق في الذكر، وإما للخلافة؛ لأنها هي المعهودة بالذكر، فيما يلاقي من خطوبها وأثقالها:
(كراكب الصعبة): يشبه حاله حال من ركب ناقة نفوراً غير مذللة فهو فيما يكابد من عنائها، إما أشنق لها والإشناق: هو جذبها بزمامها، فإذا جذبها بزمامها وهي تنازعه رأسها خرم أنفها.
(إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحَّم): الأصل في تقحم تتقحم لكن حذف أحد التائين على جهة التحقيق، يقال: أشنق لبعيره وأشنقه يتعدى ولا يتعدى، وإما أرخى لها رسنها مع صعوبتها، فإذا فعل ذلك تقحمت عليه ولم يملكها وأسلس لها إذا أرخى زمامها، وسلس بوله وأسلسه يتعدى بكل حال، وإنما قال: أسلس لها، والقياس فيه التعدية ليطابق قوله: أشنق لها، لما كان فيه الأمران التعدية و تركها، وهذا الكلام يعني به عمر، وهو المراد بقوله: فصاحبها، والمعنى في هذا هو أنه لما صارت الخلافة إليه كان في معاملته للناس بين أمرين: إما حمل الناس على المكروه، وعلى خلاف ما يريدونه، أدى ذلك إلى فسادهم وتظالمهم، وإما تركهم وآراءهم أدى ذلك إلى بطلان أمره وفساده بتقحمهم عليه، وإنما حملناه على هذا ليكون المثال مطابقاً لممثوله في ركوب الصعبة التي أوردها، فلما عهد إليه أبو بكر في الخلافة وصيرها فيه:
(فمني الناس -لعمر الله-): ابتلي الناس في تلك المدة، ولعمر الله قسم، وهو مرفوع على الابتداء، وخبره قسمي وهو محذوف، ومعناه البقاء والدوام، يقال: عمر الرجل يعمر عمراً وعمراً إذا عاش طويلاً، فكأنه قال: أحلف ببقاء الله ودوامه.
(بخبط): سير على غير طريق.
(وشماس): شمس الفرس إذا منع صاحبه عن الركوب، والغرض من هذا هو أنهم عدلوا عنه فخبطوا في غير طريق وحالوا بينه وبين حقه ومنعوه، ولهذا قال: بخبط وشماس يشير به إلى ما ذكرناه.
(وتلَّون): فلان يتلوَّن إذا كان لا يستقرعلى حالة واحدة، ولا يثبت على خلق واحد.
(واعتراض): إما من قولهم: اعترضت فلاناً إذا وقعت به في الأذية، وإما [من] قولهم: اعترضت كذا، إذا جعلت نفسك حائلة دونه، والغرض من هذا هو أنهم أعطوه دون حقه وصيروا أهويتهم عارضة عنه، أو حصلت الوقعة من بعضهم لبعض، فكل هذا قد كان، فتلوَّنوا في أخلاقهم، يريد أنهم لم يثبتوا على خلق واحد في جعلها له وصيرورتها إلى جانبه، بل بعضهم يقول علي، وبعضهم يقول غيره، فلما كان فيهم من الاستبداد ما كان، وعرض منهم ما عرض.
(فصبرت على طول المدة): لأن خلافة أبي بكر كانت سنتين ونصفاً، وخلافة عمر كانت عشر سنين، وخلافة عثمان كانت قريباً من اثنتي عشرة سنة.
(وشدة المحنة): لمنعي من حقي، وانحطاطي عن مرتبتي، وكل ذلك من شدة البلوى وعظم المحنة.
(حتى إذا مضى لسبيله): مات عمر وهلك كغيره.
(جعلها): صيَّرها.
(في جماعة): علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
(زعم أني أحدهم): قال من جهة نفسه: إنها شورى بين هؤلاء الستة، وإني واحد منهم لا اختصاص لي بشيء دونهم.
(فيا لله): استغاثة منه بالله في هذا الصنيع منهم، واللام مفتوحة أينما وقعت للاستغاثة.
(وللشورى!): الرواية فيه بكسر اللام، وإنما كسرت لأمرين:
أحدهما: أن تكون الشورى مستغاثاً بها، وكسرت لامها لأجل زوال اللبس بوقوع الواو، ويكون معناه أستغيث بالله وبالشورى على هؤلاء حين عدوني من أهلها.
وثانيهما: أن تكون الشورى معطوفاً على شيء مستغاث من أجله، فلهذا كان لامها مكسوراً، فيكون تقديره: أستغيث بالله على هؤلاء وعلى الشورى حين صرت معدوداً من أهلها.
وزعم الشريف السيد علي بن ناصر صاحب (الأعلام) أن اللام في قوله: يالله للاستغاثة، وفتحت فرقاً بينها وبين اللام في المستغاث منه، وأن اللام في قوله: وللشورى لام التعجب ، وهذا فاسد؛ لأن لام التعجب لا تكون إلا مفتوحة كقولهم: يا للماء ويا للدواهي، وقولهم: يا للعجب.
(متى اعترض الريب فيَّ مع الأول ): أي زمان كان الشك معترضاً حاصلاً في ذاتي ومتى وقع النقص في همتي.
(حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!): حتى هذه هي الابتدائية، ومعناها حتى صيروني مثلاً بهذه النظائر، والقرن والنظير هما: المثل.
(لكني أسففت إذ أسفوا): أسف الطائر إذا دنا من الأرض عند طيرانه.
(وطرت إذ طاروا): معناه حلقت حين حلقوا، والتحليق هو: ارتفاع الطائر في الجو، والتحليق إنما يكون في الطيور القوية كالنسر والعقاب، فأما صغار الطيور فلا تقوى عليه لضعفها.
سؤال؛ من حق لكن إذا كانت للاستدراك أن تكون متوسطة بين كلامين متغايرين، فأين التغاير في كلامه هذا؟
وجوابه؛ هو: أن التقدير فيه لما ضمَّوني إلى هذه النظاير فما حوَّلت ولا بدّلت شيئاً مما فعلوه أصلاً، لكني تركتهم على حالهم فيما زعموه، وفعلت ما قالوه فأسففت حين أسفوا، وطرت حين طاروا، فاجتهدوا، وأعملوا آراءهم في صرفها عني، وإيثار غيري بها.
(فصغا رجل منهم لضغنه): فمال واحد منهم عني لما في صدره من الحقد، وهو الضغن، وهو سعد بن أبي وقاص ، فإنه قتل أباه يوم بدر، وهو الذي توقَّف في إمامته بعد قتل عثمان وإجماع الناس عليها مع غيره.
(ومال الآخر لصهره): يريد عبد الرحمن بن عوف مال إلى عثمان؛ لأن زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت أختاً لعثمان من أمه وأمهما أروى .