(فقد جهله) : اعتقده على خلاف ماهو عليه من كون ذاته تعالى واحدة من كل وجه، لا يتطرق إليها تجزؤ ، ولا يضاف [إليها] انقسام بحال.
(ومن أشار إليه): لما قرر عليه السلام تنزيه ذاته تعالى في نفسها عن اختصاصها بالصفات المساوية لها في القدم والغيرية، شرع في تنزيه ذاته تعالى عن الجهات والأمكنة وأنواع الشبهيات ، فعلى هذا من أشار إليه بعينه أو بيده:
(فقد حدَّه): جعل له حدًّا ونهاية؛ لأن كل ما كان مرئياً أو مشاراً إليه فلا بد فيه من المقابلة أو حصول في جهة الإشارة، فقد صار في جهة دون جهة، فلهذا كان محدوداً.
(ومن حدَّه): بإحاطة الجهات له وصيرورته فيها:
(فقد عدَّه): لأنه إذا صار في جهة فهو من قبيل الأجسام المركبة المعدودة.
(ومن قال: فيمَ): أتى بفي التي هي حرف يقتضي المكان والوعاء، كما يقال : فيم زيد في الدار أو في السوق.
(فقد ضمَّنه): المكان الذي دل عليه هذا الحرف، كما كان زيد مضمناً بالدار ، أي حاصلاً فيها.
(ومن قال: علام): أتى بالحرف الدال على الاستعلاء وهو على، كما يقال: زيد على الفرس، وعمرو على السطح.
(فقد أخلى منه): لأنه إذا كان في جهة العلو فقد خلت عنه جهة السفل، ومن كان في جهة السفل فقد خلت عنه جهة العلو، وهكذا القول في جميع الجهات، فقد أتى عليه السلام بهذه الرموز الحرفية واللطائف الحكمية دلالة على تنزيهه عن الفراغات المعبر بها بالجهات، وعن الأحياز المعبر بها بالأمكنة، ثم لما فرغ منها أشار إلى كيفية وجوده، بقوله:
(كائن): لأن الكائن هو الحاصل الثابت الموجود:
(لا عن حدث): ليس حاصلاً بغيره كما كان في غيره من الكائنات.
(موجود): له الوجود حقيقة.

(لا عن عدم): يريد أنه وإن كان موجوداً فلم يسبقه عدم، كما كان ذلك حاصلاً في جميع الموجودات، فهو وإن شاركها في الوجود والثبوت فقد باينها في أن وجوده بلا أول ووجودها له أول ونهاية.
(مع كل شيء): {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }[الحديد:4]، لأن كل من كان منزهاً عن الجهة فإنه لايغيب عن كل شيء، ولا يغيب عنه كل شيء، والغيبة متحققة في حقه.
(لا بمقارنة): أراد أن هذه المعية وإن كانت ثابتة في حقه، فإنه لا يشابه الأشياء بمصاحبته لها وإحاطته بعلمها.
(غير لكل شيء): لأن حقيقته مخالفة لحقائقها، فإذا كانت الغيرية حاصلة في حق ما كان مثلاً فكيف إذا كان مخالفاً لها.
(لا بمزايلة): لا بمفارقة لها بل هو كائن معها، من قولهم: زايلته مزايلة وزيالاً إذا فارقته، قال تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ }[يونس:28] أي فرقنا، فهو في هذه الكلمات يشير بها إلى إثبات القدم ونفي الحدوث عن ذاته والعدم.
(فاعل): لوجود الفعل من جهته بحسب الداعية، فإنه أوجد هذه المكونات بداعي الإحسان والمصلحة الحكمية.
(لا بمعنى الحركات والآلة): لأن كل فاعل غيره فإنما يفعل بتحركة واضطراب وتحصيل آلات وأدوات.
(بصير): أي مدرك للأشياء بحقائقها.
(إذ لا منطو عنه من خلقه ): فلا يغيب عن إدراكه شيء من أحوال المخلوقات؛ بل هي بعين منه ومرأى، وهو بكل شيء محيطٍ.
(متوحد): متفرد بالوحدانية، ومن هذه حاله في التفرد والتوحد.
(فلا سكن [يستأنس به، ولا يستوحش لفقده] ): بسكون الكاف هم الأهل، وبتحريكها كلما يسكن إليه، فبوجودهم لايستأنس بهم، وبعدمهم لا يستوحش من فقدهم.
(أنشأ الخلق): أوجد كل الموجودات.
(إنشاءً): من غير شيء كان أصلاً لها.
(وابتدأه): اخترعه.

(ابتداءً): من غير سبب.
(بلا رويَّة أجالها): من غير فكرة اضطربت في نفسه، والجولان ها هنا مجاز، وحقيقتها المجاولة في الحرب، تجاولوا إذا جال بعضهم على بعض كما يفعل غيره عند إحداث أمر من الأمور.
(ولا تجربة استفادها): من غيره لتكون مُعِيْنَةً له عليها يخلق؛ لأن كل من جرَّب الأمور وخبرها كان أدخل في إحكام ما يحكم من أفعاله.
قوله: (ولا حركة أحدثها): يريد أنه لا يحتاج إلى حركة ولا اضطراب في تحصيل شيء من أفعاله كما يفعله الواحد إذا أ راد فعلاً من الأفعال.
(ولا هامة نفس): الهامة والهمامة هي: الإرادة، وكلاهما صفة مضافة إلى فاعلهما.
(اضطرب فيها): يريد أنه تعالى ليس له إرادة يهمُّ فيها بالشيء ثم يتردد في ذلك، كما يعرض للإنسان من الإرادات المختلفة والدواعي المترددة في أفعاله.
(أحال الأشياء): بالحاء المهملة، إما من قولهم: أحال عليه بالدين؛ لأنه تعالى جعل لكل شيء وقتاً أحاله عليه وجعله موعداً لحصوله ووجوده، وإما من قولهم: أحال بالسوط، أي أقبل عليه، فإنه تعالى أحال الأشياء.
(لأوقاتها): أقبل على تصريفها وإحكامها بعد خلقها وإيجادها.
(ولاءَم [بين مختلفاتها] ): فاعل من الملاءمة مهموز من قولهم: لاءمت بين القوم إذا أصلحت حالهم ، فهو تعالى أصلح حال المختلفات حتى تلاءمت، ووافق بينها حتى تقررت.
(وغرز غرائزها): أقام طبعها على طبائع مختلفة، ومنه الغريزة وهي: الطبيعة ، وإما قررها وبينها من قولهم: غرزت رجلي في الركاب إذا وضعتها فيه متمكنة.
(وألزمها أشباحها): الشبح: الشخص، يريد أنه جعل لكل شيء شبحاً وصورة مركبة، لا تعقل تلك الحقيقة إلا بتلك الصورة كالأشباح الإنسانية والأشباح البهيمية وغير ذلك.

(عالم [بها] ): سبق علمه.
(قبل ابتدائها): لسبق وجوده وعلمه بوجودها.
(محيط بحدودها وانتهائها): لأن عالميته لذاته فهو عالم بمقاديرها وانتهائها.
(عارف بقرائنها وأحنائها): فالأحناء هي: الجوانب: والقرائن: ما يقترن بعضها ببعض، ومقصوده في هذا هو: أنه تعالى عالم بما يقارنها من خواصها وما يجانبها.
ثم تكلم في كيفية خلق الأرض، فقال:
([ثم] أنشأ سبحانه فتق الأجواء): فتق الشيء إذا شقه، وفتقه [كنقبه] إذا استخرجه، والأجواء جمع جو، فأراد بفتق الأجواء استخراجها، وهي: الفراغات التي بين السماء والأرض.
(وشق الأرجاء، وسكائك الهواء): الأرجاء: هي الجوانب، قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا }[الحاقة:17] وأراد جعلها قطعاً، وسكائك الهواء بالسين المثلثة التحتانية هي: فرجه.
(فأجاز فيها): بالجيم والزاي وما عداه خطأ، من قولهم: جاز الطريق إذا سلكها.
(ماءً متلاطماً تياره): التيار: الموج، المتلاطم: الذي يصك بعضه بعضاً من شدة اضطرابه، يعني أنه سلك في فرج الهواء بحراً متلاطم موجه .
(متراكماً زخاره): المتراكم: المجتمع ومنه سحاب متراكم، والزخار: الممتد المرتفع، يقال: بحر زاخر إذا كان ممتداً مرتفعاً وهو صفة الماء، وهو البحر يريد أنه مجتمع وله قوة وامتداد.
(حمله): الضمير للماء.
(على متن الريح العاصفة، والزَّعْزَعِ القاصفة): ظهرها لتمسكه في الهواء، ولا ينحدر إلى أسفل كما هو من لوازمه، والعاصفة من الريح هي: الشديدة الهبوب؛ كأنها تعصف كل شيء بحركتها، والزعزع: اسم من أسماء الريح، كأنها تزعزع كل شيء إلى الحركة، والقاصفة: الكاسرة، من قصف العود إذا كسره.

(فأمرها برده): فأمر الريح برد الماء على خلاف ما هو من طبعه؛ لأن طبعه النزول.
(وسلطها علىشده): قواها ومكنها على شدة وثاقه وضبطه.
(وقرنها إلى حده): يريد أن الله [سبحانه و] تعالى قرن الريح بالبحر لتعمل فيه العمل الذي تقتضيه الحكمة الإلهية إلى حده الذي علمه الله تعالى، فلا تقدر على مفارقته ومباينته من غير إذن لها في ذلك، فهذه حكمة بالغة وقدرة باهرة في خلق الأرض، ويؤيد هذا.
(الهواء من تحتها فتيق): يريد أن الهواء مستخرج من تحت الريح، فتيق أي مفتوق.
(والماء من فوقها دفيق): يعني بالماء البحر الذي ذكره بقوله: متلاطماً تياره، والضمير للريح، ودفق الماء إذا صبه فكأنه فوقها مصبوب، ودفيق بمعنى مدفوق، وهكذا دافق فإنه [بمعنى] مدفوق، وحيث وقع فعله فإنه مبني لما لم يسم فاعله، فيقال: دُفِقَ الماء، ولا يقال: دفقته.
(ثم أنشأ سبحانه ريحاً): اخترعها لما يريد من المصلحة.
(اعتقم مهبها): ريح عقيم: لا تلقح سحاباً ولاشجراً، واعتقم بمعنى أعقم؛ لأن افتعل به لا يكون إلا متعدياً فلا يقال: اعتقمته، ولكن يقال: أعقمته، إذا صيرته عقيماً والهمزة للتعدية، ومعنى اعتقم مهبها أي هبوبها، أي جعله ملتوياً لايكون في سمت واحد.
(وأدام مُرَبَّها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها): المرب: المجتمع للريح، ومراده من ذلك هو أن الله تعالى جعلها متصلة الهبوب على نسق واحد، لا ينفصل بعضها لما في ذلك من الشدة، فلما كانت بأمر الله [تعالى] على هذه الأحوال.

(أمرها ): أمر الإرادة والقدرة لا أمر القول، بعد أن أعصف مجراها أي جعله شديداً، وبعّد منشاها جعله بعيداً، لا يعلم حاله من شدة البعد ليعلم بذلك شدة البعد مع السرعة العظيمة في مجراها، وهذا من عجائب القدرة ولطف الصنعة.
(بتصفيق الماء الزخار): تصفيق الماء: اصطكاك بعضه ببعض من عظم حركة الريح وعنفها، وتصفيق الشراب تحويله من إناء إلى إناء لما يحصل في ذلك من التصفية للماء عن جميع الأقذار والأكدار.
(وإثارة موج البحار): لأن بالريح تكثر الأمواج وتعظم حركتها.
(فمخضته مخض السِّقَاء): فحركت الريح هذا الماء الموصوف لما يراد به من التكوين مخضاً يشبه مخض السقاء وهو: وعاء اللبن.
(وعصفت به): والعاصف هي: الريح الشديدة، قال الله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ }[يونس:22] والضمير للماء.
(عصفها بالفضاء): يريد مثل عصفها بالفضاء، وهو: الفراغ الخالي مع ما فيه من الهباء؛ لأن الرياح إذا اختلفت مهابها لعبت به يميناً وشمالاً فلا يكون له قرار بحال، وكيفية عصفها له إنما يكون بأن.
(ترد أوله على آخره): بشدة اضطرابه وتحركه بها.
(وساجيه على مائره): والساجي هو: الساكن، لقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }[الضحى:2] والمائر هو: المتحرك، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا }[الطور:9].
(حتى إذا عبَّ عُبابه): حتى هذه هي الابتدائية، مثلها في قوله تعالى {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ }[يونس:24] وهي كثيرة في كتاب الله تعالى، وعبَّ: كثر وعظم، والعُباب بالضم هو: الماء الكثير المندفق المرتفع.
(ورمى بالزبد): لشدة ما يألفه من الحركة والاضطراب بالريح.

(ركامه): والركام هو: المتراكم المجعول بعضه على بعض، كما قال تعالى: {فَيَرْكُمَهُ}.
(فرفعه في هواء منفتق): فرفع الماء عن مستقره إلى هواء منفتق مشقوق، من فتق الشيء إذا شقه.
(وجو منفهق): والجو هو: المكان الخالي، والمنفهق: الواسع، فكان عاقبة هذا البحر، أن:
(سوى منه سبع سماوات): فهذه دلالة من كلامه عليه السلام على أمرين:
أحدهما: أن خلق الأرض كان قبل خلق السماء وتكوينها.
وثانيهما: أن ظاهر كلامه دال على أن خلق السماوات إنما كان من البحر الموصوف حاله، وليس مناقضاً ها هنا لما قاله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ }[فصلت:11]، لأنه يجوز أن يكون البحر بعد ما رمى بالزبد وعب صار دخاناً، لكنه لم يتعرض لذكره عليه السلام، واكتفى بما ذكره من صفة أحواله، فلا يكون ظاهره مناقضاً لما في الآية.
سؤال؛ أليس قد قال تعالى في سورة والنازعات بعد ذكره لخلق السماء: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30]، وهذا يدل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء خلاف ما قررتموه؟
وجوابه؛ أنه يجوز أنه تعالى خلق كرة الأرض أولاً ثم أنه خلق السماء بعد ذلك، ثم بعد خلقه للسماء وتكوينها أقبل على دحو الأرض وبسطها، كما قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30]، وعلى هذا لا تناقض فيه.
(جعل سُفْلاَهُنَّ): وهي التي تلينا جعلها.
(موجاً): من موج البحر.
(مكفوفاً): عن الحركة والهبوط إلى أسفل لما فيه من الثقل.
(وعُلْيَاهُنَّ سقفاً محفوظاً): والعليا منهنَّ كالسقف لما تحته محفوظاً محروساً عن تخطف الشياطين في استراق السمع.

(وسمكا مرفوعاً): والسمك: الرفع على الأرض وعلى ما تحته من السماوات، ثم من القدرة الباهرة والإحكام البديع مع الانبساط الكلي جعلها.
(بغير عمد): من غير عماد وهو ما يعتمد عليه من عود وحجر.
(يدعمها): يكون دعامة له فيستقر عليه كما في مصنوعات الخلق، فإن أقل قليله مفتقر إلى الدعامة ليستقر عليها.
(ولا دسار ينتظمها): والدسار: واحد الدسر، وهو: الخيوط التي يشد بها ألواح السفينة، كما قال تعالى: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }[القمر:13] يريد مع كثرة الانتظام في تأليفها فلا يحتاج إلى ما يضمها ويرأب بين أجزائها.
(ثم زينها بزينة الكواكب): ثم لما أكمل خلقها ونظمها على نظامها العجيب أتم خلقها بنور هذه الكواكب الجارية فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }[الصافات:6] فأما سائر السماوات فيحتمل أن تكون مكوكبة وأن تكون غير مكوكبة، والكواكب هي: هذه النجوم كلها.
(وضياء الثواقب): المضيئة: الزاهرة، من قولهم: ثقبت النار إذا اتقدت وظهر نورها.
(وأجرى فيها سراجاً مستطيراً): أجراه إذا جعله جارياً، وأراد بالسراج الشمس، واستطارتها: حركتها، والمستطير: الطالب للطيران من شدة الحركة وعظمها.
(وقمراً منيراً): مضيئاً ذا نور، وإنما خص هذين الكوكبين من بين سائر الكواكب لما يختصان به من عظم النور فيهما، ولما جعل الله فيهما من كثرة المنافع للخلق في تصرفهم ومعايشهم.

(في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر): الظرف متعلق بأجرى، أي وأجرى الشمس والقمر في فلك دائر، دورانه على حركة معلومة ومقدار محكم، وأراد بالسقف الفلك؛ لأنه لها كالسقف لأنها جارية فيه، وهو متضمن لها حركتها بحركته، فأما الرقيم ها هنا فإنما أراد به الفلك، وإنما وصف بالمور لكثرة حركته وشدتها في السرعة، وقد فسر قوله تعالى: {إَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ }[الكهف:9] على أوجه ثلاثة كلها صالحة ها هنا:
أما أولاً: فالرقيم هو: الكتاب، فلما جعل الله حركة الفلك والأبصار الكوكبية أسباباً لتجدد الحوادث في العالم السفلي كان كالكتاب المرقوم، كما ذكره [السيد] الإمام علي بن ناصر الحسيني صاحب (أعلام النهج) .
وأما ثانياً: فبأن يكون الرقيم بنيان، كما حكي عن ابن عباس أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟ أكتاب أم بنيان ؟
وهذا حاصل في الفلك فإنه مؤلف على نظام مخصوص.
وأما ثالثاً: فيحتمل أن يكون الرقيم لوحاً مكتوباً، وهكذا حال الفلك يحتمل ذلك.
ثم تكلَّم في خلق السماء والأرض، بقوله:
(ثم فتق ما بين السماوات العلا): يريد شق ما بين السماء والأرض، كما قال تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا }[الأنبياء:30] يريد فصلنا هذه عن هذه.
(فملأهنَّ أطواراً من ملائكته): فحشاهنَّ من الأطوار، يعني الخلق المختلفة، كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا }[نوح:14] ثم جعلهم أنواعاً ووصَّف لكل واحد منهم وصيفة في العبادة والقيام بأمره.
(منهم سجود لا يركعون ): واضعون جباههم على الأرض لا يرفعونها.
(وركوع لا ينتصبون): حانون أصلابهم لا يقيمونها.

(وصافُّون لا يتزايلون ): مستوية أقدامهم من غير تفريق ولا مزايلة.
(ومسبحون): شاغلون ألسنتهم بالذكر وأنواع التسبيح وضروب التحميد لربهم، قد شغلوا بهذه الوظائف وخلقوا لها.
[(لا يسأمون): لا يملون] .
(فلا يغشاهم): يعتريهم ويتلبَّس بهم.
(نوم العيون): إنما أضاف النوم إلى العيون لأن ظهور أوائله إنما يكون بالأعين ثم يتصل بسائر الأعضاء في الاسترخاء.
(ولا سهو العقول [ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان] ): ولا يعرض لعقولهم ما يعرض لعقول البشر من السهو؛ لتحفظها وتيقظها ، ولا تعتريهم فترة في أبدانهم لما خصوه من القوة وشدة البطش، ولا تلحقهم غفلة النسيان، بل هم على خلاف هذه الأحوال لما أراد الله بهم من الكرامة، وقرب المكان إليه، وعظم الزلفة عنده.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن تدخل عليهم الملائكة من كل باب بالتسليم والبشارة بحسن عقبى الدار.
(ومنهم): أي ومن الملائكة من خلقوا لغير هذه الحالة.
(أمناء على وحيه [وألسنة إلى رسله] ): ينزلون بالوحي على ألسنة الرسل بالأحكام الشرعية والأخبار السماوية.
(ومختلفون بقضائه وأمره): بأنواع الرحمة وضروب البلاء لأهل الإحسان ولأهل الإساءة إلى غير ذلك من الخير والشر، والحياة والموت، وأنواع الأقضية والأوامر.
(ومنهم الحفظة لعباده): يريد الملائكة من يحفظ العباد، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }[الإنفطار:10] يحفظون أعمالهم ويضبطونها، ويحفظونهم بالليل والنهار عن الهوام وسائر المؤ ذيات حتى تنقضي آجالهم.
(ومنهم السدنة): يريد الحفظة والحجُّاب.
(لأبواب جنانه): كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا }[الزمر:71].

12 / 194
ع
En
A+
A-