(184) ومن كلام له عليه السلام في ذكر الدنيا
(أيها الناس، إنما الدنيا دار مجاز): جاز إلى موضع كذا إذا عبر إليه، وأراد أنها معبر إلى الآخرة، أو يريد أن الدنيا مجاز لا حقيقة لها؛ لكونها منقطعة غير دائمة.
(وإن الآخرة دار قرار): لا انتقال عنه ولا زوال.
(فخذوا من ممركم): إما من مروركم، وإما من مكان مروركم.
(لمقركم): لموضع استقراركم، وإنما ظهرت اللام لفوات المصدر.
(ولا تهتكوا أستاركم): بارتكاب المعاصي، وتعدي الحدود، والهتك: الخرق للستر، يريد أن الطاعة لله تعالى ستر شامل، وغطاء مسترسل، فإذا ارتكب المعاصي خرق ذلك الحجاب، وهو تمثيل بديع واستعارة حسنة.
(عند من يعلم أسراركم): ما تضمرونه في خواطركم، وتجترحونه في ذات صدوركم من كبير وصغير.
(وأخرجوا من الدنيا قلوبكم): بالرفض لها، والإهمال لأطماعها.
(قبل أن تخرج منها أبدانكم): أراد أن ذلك الإخراج إنما يكون نافعاً قبل الموت، وحين كان العمل مقبولاً، فأما بعد خروج الأبدان من الأرواح بالموت فذلك غير نافع.
(ففيها اختبرتم): الضمير للدنيا، يريد امتحنتم بالشدائد، وسائر أنواع التكاليف.
(ولغيرها خلقتم): للآخرة، وأراد أن الله تعالى خلق الخلق من أجل العبادة، فيستحقون بذلك الخلود في نعيم الآخرة ولذتها، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56].
(إن المرء إذا هلك، قال الناس: ما خلَّف ؟ وقالت الملائكة: ما قدَّم؟): وهذا قد ورد عن الرسول عليه السلام في بعض الأحاديث ، وإنما أورده ها هنا بياناً لقوله: أخرجوا من الدنيا قلوبكم واستحضاراً لفائدته؛ لأن الناس إذا هلك المرء يسأل الناس عمَّا خلَّف بعده من الأموال، وأنواع النفائس لشغلهم بالدنيا وتهالكهم في حبها، والملائكة يسألون عن أعمال الآخرة، وعمَّا ينبغي السؤال عنه وهو تقديم الأعمال الصالحة وأعمال النفس في المتاجر الرابحة، فكل واحد من الفريقين سائل عن مقصوده.
(لله آباؤكم): مدح لهم في معرض التعجب.
(فقدموا بعضاً): من أموالكم.
(يكن لكم قرضاً ): عند الله تعالى، كما قال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }[المزمل:20]، وإنما سماه قرضاً من أجل المجازاة عليه فهو بمنزلة ما يُقترض ويُقضى.
(ولا تُخْلِفُوا كُلاً): أراد كل الأموال، فطرح المضاف إليه، وجعل التنوين عوضاً عنه، كما قال تعالى: {وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً }[الفرقان:39] أراد كلهم.
(فيكون عليكم كَلاًّ ): ثقلاً وهو حمل وزرها بمنع حقوقها، وصرفها في غير وجوهها .
وقوله: ولا تخلفوا كُلاً فيكون عليكم كَلاًّ، من أنواع البديع، يقال له: التجنيس الناقص، ثم هو على أنواع، فحيث كان متفق الأحرف، متباين الحركات يلقّب بالمختلف وهو هذا ، مثل قولهم: لا تُنَال الغُرَر إلا بركوب الغَرر.
(185) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به أصحابه، وكان كثيراً ما يناديهم به
(تجهزوا رحمكم الله!): التجهز هو: أخذ الأُهبة للسفر.
(فقد نودي فيكم بالرحيل): عن الدنيا والانتقال عنها، شبَّههم بحال قوم اجتمعوا في معسكر ثم صيح فيهم بالرحيل، فإنهم مرتحلون لا محالة.
(وأقلوا العُرجة على الدنيا): العُرجة بضم الفاء وفتحها هو: الإقامة على الشيء والالتفات إليه، يقال: مالي على هذا الأمر عُرجة وتعريج وتعرُّج أي إقامة والتفات، وأراد أنكم لا تلتفتوا إلى الدنيا.
(وانقلبوا): إلى الآخرة.
(بصالح ما يحضركم من الزاد): وهي الأعمال الصالحة.
(فإن أمامكم عقبة كؤوداً): شاقَّة المصعد فيها.
(ومنازل مَخُوفة): يخاف فيها العطب .
(مهولة): مفزعة يفزع فيها من عاينها.
(لا بد من الورود عليها): إتيانها، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم:71]، وغرضه في كلامه هذا أهوال القيامة.
(والوقوف عندها): للمساءلة والحساب.
(واعلموا أن ملاحظ المنية فيكم دانية): لحظه لحظاً وملحظاً، إذا نظر إليه بمؤخر عينه.
(وكأنكم بمخالبها): الْمِخْلَبُ هو: ظُفُرُ البُرثُن، وهو من ذوات المخلب من الطير بمنزلة الناب من السَّبُع، وفي الحديث: ((نهى رسول الله عن أكل كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير)) .
(وقد نشبت فيكم): تعلقت بكم فلا يمكن الخلاص منها، فهذه أوصاف المنية، وكان القياس أن تكون هائلة وخائفة، أي ذات هول وخوف، فتكون على بناء اسم الفاعل، ولكنه عدل إلى بناء اسم المفعول مبالغة في ذلك؛ لتمكن الخوف والهول فيها، كأنه يخافها ويهالها من رءاها ووقع فيها.
(وقد دهمتكم منها مفظعات الأمور): فَظُعَ الرجل وأفظع بالفاء والظاء بنقطة من أعلاه إذا نزل به أمر عظيم، وفَظُعَ الأمر إذا غلب واشتدَّ.
(ومضلعات المحذور): ضَلِعَ يَضلَع إذا مال، والمضلعات: المميلات، أي تميل ما تحذرونه إليكم وتقصدكم به.
(فقطِّعوا علائق الدنيا): وصلها وحبائلها.
(بزاد التقوى ): بالا شتغال بالأعمال الصالحة فهي زاد التقوى.
وأقول: إن هذا الكلام قد بلغ في التهييج في الإقبال على الآخرة وإلهاب الأحشاء في قطع علائق الدنيا كل غاية من ذلك.
(186) ومن كلام له عليه السلام كلَّم به طلحة والزبير بعد أن بايعه الناس بالخلافة، وقد عتبا من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما
(لقد نقمتما يسيراً): يريد أن هذا الأمر الذي أردتموه ليس أمراً واجباً عليَّ، ولا فيه إخلال بالإمامة إن لم يفعل فهو يسير لا أثر له ولا خطر لموقعه.
(وأرجأتما كثيراً): أخَّرتما أمراً عظيماً لا ينبغي تأخيره، وهو متابعتي والا نقياد لأمر الله وأمري، من قولهم: أرجى الأمر إذا أخَّره ولم ينظر فيه، كما قال تعالى: {أَرْجِهِ وَأَخَاهُ }[الأعراف:111] {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ }[التوبة:106] وما أخلق ما قالاه بقولهم في المثل: أريها السها وتريني القمر ، والسها: كوكب صغير تمتحن فيه الأبصار، وهو مثل يضرب لمن تذَّكر أدق الأمور ويغفل عن أجلاها وأوضحها.
(ألا تخبرانني ): استفهام واقع موقع التقرير.
(أي شيء لكما فيه حق دفعتكما عنه!): فأكون ظالماً لكما ، وأكون مستحقاً للعتاب من جهتكما.
(وأي قسم استأثرت عليكما به!): من الأقسام التي جعلها الله لكما، وخصكما بها من الأموال.
(أم): هي: المنقطعة، وأراد الإضراب عمَّا يتعلق بحالهما، وذكر حال غيرهما من المسلمين.
(أي حق رفعه إليَّ أحد من المسلمين): مما يتعلق بأحوالهم، وفصل شجارهم في خصوماتهم وغير ذلك، مما يكون موقوفاً على أمري وأُحكِّم فيه نظري.
(ضعفت عنه ): فلم يمكني أخذه من الظالم، وإيفاء المظلوم حقه من ذلك.
(أم جهلته): فلم أتمكَّن من إمضائه على حكم الشريعة، وأمر الله تعالى ورسوله.
(أم أخطأت بابه): فلم أضعه في موضعه، أو يريد أخطأت في مسألة فلم أعرف وجهها ودليلها، فهذه الأمور كلها يتوجه فيها النقم والعتاب، وليس منها واحد حاصل في حقي.
(والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا فيها إِرْبَةٌ ): الإِرْبَةُ: الحاجة، قال تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ }[النور:31] وأراد أن السبب فيما نقمتماه عليَّ واجترأتما عليَّ به من المعاتبة؛ إنما هو لأجل دخولي في الخلافة، وقيامي بأعبائها، فكان ذلك سبباً للطعن وتطلباً للمعائب والمثالب؛ زعماً منكما أن لي فيها رغبة وأن لي فيها حاجة، فمالي فيها رغبة وشوق، ولا لي فيها حاجة من الحوائج الدنيوية.
(ولكنكم دعوتموني): دعاء مضطر إلى ولايتي، محب لتصرفي وخلافتي.
(وحملتموني عليها): بما أعطيتموني من الطاعة فوجبت الحجة عليَّ بذلك.
(فلما أفضت إليَّ): أفضى إلى فلان بسره إذا أعطاه ما عنده منه، وأراد فلما ألقت إليَّ أمورها وأعباءها.
(نظرت إلى كتاب الله): اعتمدت في جميع أموري كلها، من قولهم: لما دهمني أمر كذا نظرت إلى فلان أي اعتمدته في كل أحوالي.
(وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته): من غير مخالفة في ذلك.
(وما استسن رسول الله فاقتديته): أراد أني جعلت الكتاب والسنة إمامين لي أقتدي بهما، وأقرر سيرتي عليهما، ولا أقدم ولا أحجم في الأمور كلها إلا بهما.
(فلم أحتج): في ذلك .
(إلى رأيكما): فآخذ به، وأصدر الأحكام عنه.
(ولا رأي غيركما): استغناء بماذكرته من الكتاب والسنة عن كل ما عداهما.
(ولا وقع حكم جهلته): في الفتاوى والأقضية.
(فأستشيركما وإخواني من المسلمين): في إصداره على وجهه.
(ولو كان ذلك): يشير إلى أنه لو وقع الجهل في حكم أو قضية.
(لم أرغب عنكما ولا عن غيركما): رغب عن الشيء إذا لم يرده، ورغب فيه إذا أراده، وغرضه أنه لو افتقر إلى رأيهما ورأي غيرهما لم يتركه زهداً فيه ورغبة عنه.
(وأما ما ذكرتما من الأسوة ): الأسوة هي: القدوة، وهي الاسم من التأسي، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }[الأحزاب:21] فإنهما نقما ترك الاقتداء بهما وعدم التأسي بأحوالهما.
(فإن ذلك): الإشارة إلى ما هو عليه من الأمر والحل والعقد.
(أمر لم أحكم أنا فيه برأيي): فأحكِّم آراءكما فيه.
(ولا وليته هوى مني): إرادة مني له ، ومحبة فيه.
(بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ): وإنما ذكر اسمهما مع اسمه ملاطفة في الخطاب لهما، وإشارة إلى إنصافهما، وأنه لم يستبد بشيء غير ما معهما كما أُلِفَ في خلائقه السبَطة ، وعُهِدَ من شمائله السَلْسَة.
(قد فُرِغَ فيه ): بالأمر والنهي، والحث والزجر، وتعريف المصالح كلها والمفاسد.
(فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه): وإمضائه على ما قدَّره، وإحصائه على ما علمه وفرضه.
(وأمضى فيه حكمه): أنفذه على قدر ما رآه من المصلحة.
(فليس لكما والله عندي في هذا ولا لغيركما عتبى): العتبى هي : الاسم من المعاتبة، يقال: تعاتبوا فأصلح بينهم العتاب، ويقال: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني، قال بشر بن أبي خازم:
غضبت تميم أن تقتَّل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
أي أعتبناهم بالسيف، يريد أرضيناهم به.
(أخذ الله بقلوبنا وبقلوبكم إلى الحق): أي جعلها مائلة إليه في كل أحوالها.
(وألهمنا وإياكم الصبر!): على ما نحن بصدده من هذه الأمور المهمة، والخطوب النازلة.
(رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه): على فعله وأدائه.
(ورأى جوراً فردَّه): ظلماً فأنكره وغيَّره.
(وكان عوناً): معيناً.
(بالحق): من غير حيف ولا عصبية.
(على صاحبه): الضميرللجور، أي على صاحب الجور ليرجع عن جوره، وإنما عقَّب الدعاء عقيب ذكره للعتاب لهما؛ جرياً على عادته في الجؤار إلى الله تعالى، واللجأ إليه في إلهام الحق لمن يقاتله كيلا يقتله على بغيه وظلمه، وقد مرَّ في كلامه غير مرة، وهكذا يكون عادة أئمة الحق والداعين إلى نصرة دين الله بالجهاد في سبيله.
(187) ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين
(إني لا أرى لكم أن تكونوا سبابين): يريد أن السبَّ والأذية لا يجديان شيئاً، ولا يعودان بنفع في دين ولا دنيا، وفي الحديث: ((المؤمن لا يكون لعاناً )) .
(ولكن لو وصفتم أعمالهم): وهو ما كان منهم من الجرأة على الله تعالى بقتال إمام الحق والخروج عليه، ومنعه عن إنفاذ أحكام الله.
(وذكرتم حالهم): وهو ما كان من التباس الحق عليهم، وغلبة الشبهات على قلوبهم.
(كان أصوب في القول): من السبِّ واللعن والأذية.
(وأبلغ في العذر): عند الله تعالى؛ لما فيه من النصيحة.
(وقلتم مكان سبِّكم إياهم): ما يكون إصلاحاً لحالكم وحالهم، وهو الدعاء بأن تقولوا:
(اللَّهُمَّ، احقن دماءنا ودماءهم): عن أن تكون مهراقة على غير وجهها، وعلى خلاف رضوان الله وجهاداً في سبيله.
(وأصلح ذات بيننا وبينهم): بالفيء إلى الحق والارعواء إليه.
(واهدهم من ضلالهم ): ميلهم عن الحق، وإصرارهم على خلافه.
(حتى يعرف الحق من جهله): منَّا ومنهم.
(ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به!): ارعوى عن الغي إذا كفّ عنه، والعدوان: التعدي، ولهج بالشيء إذا ولع به، ووزن ارعوى افعول، والواو فيه زائدة، وحكي عن بعضهم أن أصله ارعوو بواوين، وهذا لا وجه له؛ لأنه من الرعاية ولامها ياء، والصحيح أن لامه ياء وأن واوه زائدة، فلهذا كان وزنه افعول، وأصله افعلل كاقشعرَّ.
(188) وقال عليه السلام بصفين وقد رأى الحسين يتسرع للحرب
أي يسارع إلى القتال، ويريد الكر عليهم:
(املكوا عني هذا الغلام): أراد يحفظونه عن القتال، من قولهم: ملكت زمام الناقة إذا حفظته في يدك، واقتدرت عليه.
(لا يهدَّني): إذا قُتِل، أي يكسر عظامي، من هدِّ البناء وهو كسره وإيهاؤه.
(فإني أنفس بهذين -يريد الحسن والحسين- عن الموت) : أي أضنَّ بهما، من قولهم: نَفِسَ بهذا الأمر إذا كان ضنيناً به.
(على الموت ): يريد عن أن يقتلا فيموتا.
(لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): مخافة أن يكون ذلك سبباً لانقطاع ذرية رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له عقب من صلبه، ولم يكن له أولاد إلا أربعة: عبد الله، وإبراهيم، والطاهر، والطيب، كلهم من خديجة، إلا إبراهيم فهو من مارية درجوا صغاراً لما يعلم الله في ذلك من المصلحة، وإنما كان عقبه من ذرية فاطمة، وفي الحديث: ((لكل نبي ذرية، وذريتي من صلبك يا علي )) يشير إلى ما ذكرناه.