وجوابه؛ أما الأمانة فهي الطاعة لله تعالى بجميع ما كلف به، من أمر أو نهي من فعل أو كفٍّ، وسميت الطاعة أمانة لأنها لا زمة الوجود، كما أن الأمانة لا زمة الأداء، ووصف الإنسان بكونه حاملاً للأمانة؛ لأنها كأنها راكبة له وهو حامل لها، من قولهم: فلان ركبه الدين، فإذا أدَّاها لم تبق راكبة له، ولا هو حامل لها.
وأما وصف الإنسان بكونه ظلوماً جهولاً، فاعلم: أن الله تعالى وصفه بهذه الصفة على جهة المبالغة في حالة متمكنة، في هاتين الصفتين، فوصفه بكونه ظلوماً لتركه لأداء الأمانة، وإبطائه عن القيام بأمرها، ووصفه بكونه جهولاً؛ لإعراضه عن أدائها، وهو صلاح أمره وسعادة حاله.
وأما وجه التمثيل في ذلك فهو أن هذه الأجرام السماوية، والأرض والجبال لا شك في انقيادها لأمر الله انقياد مثلها من الوقوف على حسب إرادته، وإيجادها على حسب الداعية، فهذا هو القدر اللائق بالجمادات من الانقياد.

وأما الإنسان فانقياده لأمر الله بما يكون صحيحاً من جهته؛ لكونه عاقلاً مكلفاً، وهو امتثال الأوامر وإيجادها، وغرضه من هذا التمثيل هو أن الإنسان لم يكن حاله في الا نقياد لأمر الله فيما يصح منه، مثل حال الجمادات فيما يصح منها؛ لانقيادها، وإعراضه، وكما نلقب ما ذكرناه بالتمثيل في أنواع البديع، فقد يقال له: التخييل، وله موقع عظيم في كتاب الله تعالى، خاصة في الآيات الواردة بلفظ اليد والعين واليمين، وغير ذلك من الآيات، فإنها واردة مورد التخييل، ومن اشتم رائحة من علوم البيان، وذاق حلاوة أنواع البديع، لم يَخْفَ عليه ذلك، وتنزيله عليه، ومن ضاق عَطَنُهُ ، ولم تتسع حوصلته لهذه الأسرار، أعرض عمَّا ذكرناه، وجاء بالتأويلات الباردة، كتأويل اليد بالنعمة، واليمين بالقدرة، والعين بالعلم.
ومن العجب تعويل النَّظار من المتكلمين على هذه التأويلات، وإكباب المفسرين على نقلها وتدوينها، وإعراضهم عمَّا هو اللائق بكتاب الله، والخليق بمعجزة رسوله، وما ذاك إلا لأنهم من علم البيان على مسافات، ومن الاطلاع على أغواره على مراحل وبُردٍ .
(إن الله سبحانه لا يخفى عليه): يغيب عن علمه، ويذهب عن حفظه ومراقبته.
(ما العباد مقترفون): ما هذه موصولة، أي الذي العباد مكتسبون له من أعمال الخير والشر، والطاعة والمعصية صغيرها وكبيرها.

(في ليلهم ونهارهم): ما يفعلونه في هذين الزمانين، وإنما سماهما؛ لأنهما هما أعم الأوقات، فلا وقت سواهما، واتصال هذا بما قبله هو أنه لما ذكر حال هذه الواجبات من الصلاة والزكاة، وبيَّن حالها في الوجوب، وذكر الأمانة أيضاً، أراد أن يعرفك أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال هذه الواجبات من فعل أو كف في ليل أو نهار.
(لَطُفَ به خبراً): أي يخبر عنه، وإن لَطُفَ حاله وصَغُر مقداره، وانتصاب خبراً على التمييز بعد الفاعل، كقولك: طاب زيد نفساً.
(وأحاط به علماً): اشتمل عليه علمه، فلا تخفى عليه منه خافية.
(أعضاؤكم شهوده): هذا تفسير لإحاطة علمه وشموله، بأن جعل الأعضاء شهوداً على ذلك.
(وجوارحكم جنوده): المراقبون لها، والحافظون.
(وضمائركم عيونه): التي يُبصركم بها، فلا يخفى عليه منكم شيء.
(وخلواتكم عيانه): يدركها بعين منه ومرأى.

(181) ومن كلام له عليه السلام يذكر فيه عقوبة من مضى من الأمم والقرون
(أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله): أراد من هذا الكلام التنبيه على أن متبعي الحق هم قليل فلا يكون سبباً في الإعراض عنه.
(إن الناس اجتمعوا على مائدة): يعني الدنيا.
(شبعها قصير): أيام شبعها قصيرة، قليلة لا نقطاعها وزوالها.
(وجوعها طويل): يريد في الآخرة؛ لأنها باقية غير منقطعة.
سؤال؛ ما وجه حذف الفاء من إن في قوله: (إن الناس اجتمعوا) وكان القياس إثباتها بعد قوله: أيها الناس، للتنبيه على انقطاع الجملة الأولى من الثانية؟
وجوابه؛ هو أن الجملة الثانية ليس منقطعة عن الأولى، وإنما هي متصلة بها، فلهذا حذفت دلالة على ذلك، وإثباتها على جهة التعليل للأولى؛ لأن السبب في قلة أهل الهدى اجتماعهم على الدنيا، فلهذا لما كانت الجملتان كأنهما قد أفرغا في قالب واحد، لا جرم وجب طرح الفاء منها من أجل ذلك.
(أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط): يعني في العذاب والرحمة، فإذا ارتكب أحدهم جرماً ورضي به الباقون كانوا مشتركين في ذلك الجرم، وسخط الله عليهم جميعاً، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً }[الأنفال:25] وإذا فعل أحدهم معروفاً، ورضي به الآخرون كانوا شركاء في ذلك الأجر، أو سخط شيئاً من القبائح ورضوا بسخطه رفع الله عنهم النقمة من أجل ذلك.
ثم ذكر ما يصدق ذلك، بقوله:
(وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد منهم): وهو قدار .
(فعمهم الله بالعذاب): بالرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين.

(لما عموه بالرضا): فلم يضربوا على يده ويكفوه عن عقرها، ثم تلا قوله تعالى: ({فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ })[الشعراء:157]: لما فعلوه من الرضا، ولا ينفعهم الندم
(فما كان): عقيب ما فعلوه من العقر والرضا.
(إلا أن خارت أرضهم بالخسفة): صوتت، ومنه خُوَارُ العجل، وهو تصويته، وذلك أن الأرض إذا خسف بها صوتت كما تصوت النار عند إطفائها بالماء، وقيل: خارت انخفضت إلى أسفل، والخور: الانخفاض إلى الأرض، وهو مثل الغور.
(خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة): السكة: حديدة تُحرث بها الأرض، وأراد أن أرضهم ذهبت في الأرض كذهاب السكة في الأرض الرخوة اللينة، وهذا يؤيد تفسير الخوران بالذهاب والا نخفاض والغور في الأرض، دون التصويت كما حكيناه.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت، وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، ولما مرَّ رسول الله بالحجر في غزوة تبوك، قال: ((لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح، فأخذتهم الصيحة فلم يبقَ منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله تعالى )) قالوا: من هو؟ فقال: ((ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه)) .
ومرَّ رسول الله بقبره في المغمس فقال: ((هذا قبر أبي رغال دفن ومعه غصن من ذهب فابتدروه فوجدوا الغصن فأخذوه)) .
(أيها الناس، من سلك الطريق الواضح): وهي الطريق المؤدية إلى الحق باتباع الأدلة العقلية، وما جاءت به الرسل.
(ورد الماء): وصل إلى غرضه من النجاة والجنة.
(ومن خالف): الطريق وجاء يميناً وشمالاً.
(وقع في التيه!): ذهب في التحير والضلال.

(182) [ومن كلام له عليه السلام]
(والله ما معاوية بأدهى من‍ي): الدهاء هو: الحذق والفتاكة في الأمور، وأراد به أنه ليس أعظم حذقاً ولافتاكة مني.
(ولكنه يغدر): الغدر: خلاف الوفاء.
(ويفجر): والفجور: إبطال العقود والمواثيق، وأراد أنه لا يفي بما يقول ويبطل ما عقد، فهذا هو الوجه في حذقه ودهائه، والدين يأبى ذلك وخوف الله.
(ولولا كراهة الغدر): لوبال عاقبته عند الله، وإهانة صاحبه عند الخلق.
(لكنت من أدهى الناس): أعظمهم غدراً ومكيدة.
(ولكن كل غُدَرَة فُجرَة): يريد أن الواحدة من الغدر هي لا محالة واحدة من الفجور؛ لأنه لا يتم إلا به، وهو من حقيقته وجزء من أجزائه.
(وكل فجرة كُفَرَة): والواحدة من الفجور هي واحدة من الكفر، وهذا إنما يكون فيما كان الفجور فيه كفراً، نحو تكذيب الرسل والجحدان لله تعالى، فأما ما يكون فسقاً نحو البغي على إمام الحق، فإنه لا يكون كفراً، وإنما يكون فسقاً وخروجاً عن الدين.
(ولكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به ): وهذا حديث مشهور عن الرسول قد استعمله ها هنا، والغرض أن الله تعالى يرديه رداءً يوم القيامة يكون علامة للخلائق يعرفونه به.
(والله ما أُسْتَغْفَلُ بالمكيدة): الكيد والمكيدة واحد، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أني لا أكون غافلاً بالكيد فأكون خاسراً مغبوناً.
وثانيهما: أن يريد أني لا أستغفل لأجل سبب من الأسباب، فأكون مكيداً من جهة الرجال.
(ولا أُسْتَغْمَرُ بالشديدة): وفيه روايتان:
أحدهما : أن يكون أُستغمر بالراء، وأراد أنه لا يكون غمراً في الوقائع الشديدة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، ولا حنكَّته التجارب.

وثانيهما: أن يكون بالزاي، وغرضه أني لا أستغمز بالقرعة الشديدة لأني حازم يقظ، فيكفيني أدنى تنبيه، ولهذا يقال: فلان لا تقرع له العصا؛ لتيقظه وكثرة فهمه.

(183) ومن كلام له عليه السلام عند دفن [سيدة النساء] فاطمة عليها السلام
(السلام عليك يا رسول الله عن‍ي و عن ابنتك): السلام قد يرد نكرة ومعرفة، فالنكرة يرد فيها منصوباً، كما في سلام الملائكة في قوله تعالى: {قَالُوا سَلاَماً }[هود:69]، ومرفوعاً كما في سلام إبراهيم، كما قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ سَلاَمٌ }[هود:69] وهو أبلغ لا نقطاعه عن التقييد بالأزمنة، وإذا كان معرفة فتعريفه قد يقال: إنه للعهد الذهني، كما يقال: أكلت الخبز وشربت الماء، وقد يكون للعهد الوجودي، وهو السلام في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيماً }[الأحزاب:56]، وقد يكون التعريف للجنس كأنه قال: وجنس السلام عليك خاصة، ومعاني التعريف متوجهة ها هنا عنه وعن فاطمة على جهة النيابة عنها.
(النازلة في جوارك): يريد في بطن الأرض أو بالقرب منك؛ لأنه عليه السلام دفن في بيت عائشة حيث مات ، وهي مدفونة في البقيع على ميل من المدينة .
(والسريعة اللحاق بك): لأنها أول من مات بعد الرسول من أهله ، وروي أن الرسول قال لها: ((أنت أول من يلحق بي من أهل بيتي )) فَسُرّت بذلك، وقد كان في دفنها ما كان من الإسرار والدفن ليلاً .
(قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري): الصفية إما المختارة عندك من بين بناتك، وإما الخالصة بالمودة أيضاً من بينهنَّ، وأراد الإخبار عن قلة صبره بفراقها.
(ورقَّ عنها تجلدي): التجلد: تكلف الجلادة، ورقة الشيء: ضعفه وهوانه.
(إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك): استثناء منقطع عن الأول، يعني لكن في الاقتداء بما كان من عظيم فرقتك.
(وفادح مصيبتك): فدحه السير إذا أثقله، وأراد ما أثقل من المصيبة بفقدك .

(موضع تعزٍ): مكان للتسلي عن فراقها؛ لأنه أعظم منه وأدخل في البلوى والمصيبة.
(فلقد وسدتك في ملحودة قبرك): الملحودة هي: اللحد، وهو شق في أحد جانبي القبر.
(وفاضت بين نحري وصدري نفسك): واللام في لقد محققة للجمل بعدها، وأراد فهذه الأمور كلها تقطَّع الكبد وتصدعها حزناً وحسرة، وهي موضوعة بيان لقوله: موضع تعز ومفسرة له.
ثم تلا قوله تعالى: ({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ })[البقرة:156]: لأنها أعظم ما يقال عند حلول المصائب كما أشار إليه تعالى بها.
(فلقد اسْتُرْجِعَتِ الوديعة): يحتمل أن يكون ذلك في حق فاطمة وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد هو الرسول.
(وأُخِذَتِ الرهينة): ممن كانت حاصلة عنده.
(أما حزني) عليكما.
(فسرمد): لا ينقطع أبداً.
(وأما ليلي فمسهد): التسهيد: ذهاب النوم، وأراد أني حزين مستمر الحزن، وأنا ذاهب النوم لا أنام، وإضافة التسهيد إلى الليل على جهة المبالغة، والسرمد إلى الحزن مبالغة أيضاً، كما قالوا: (صائم نهاره، وقائم ليله) .
(إلى أن يختارالله لي دارك): الدار الآخرة بالموت.
(الت‍ي أنت بها مقيم): مستقر حتى يأذن الله بخلاف ذلك.
(وستنبئك ابنتك ): أبهم الحال في المنبأ والمخبّر به، وأراد بما كان بعدك من الأمور العظيمة، والحوادث المهمة في أمر الخلافة والا ستئثار بها.
(فأحفها السؤال): الإحفاء هو: الاستقصاء في السؤال.
(واستخبرها الحال): عن الحال، لكن حذف الجار وعدى الفعل إليه.
(فإن أنصرف): عن القبر.
(فلا عن ملالة): لمن أخاطبه فيه.
(وإن أُقِمْ): أستمر على الإقامة.

(فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين!): أراد إن إقامتي لو أقمت فإنما هي إيناس عن وحشة القبر، وليس ذلك شكاً فيما وعد الله من صبر على تحمل المكاره والأحزان وتجرعها.
(هذا ولم يَطُل العهد): هذا هي كلمة فصيحة، والغرض الإشارة بها إلى ما فعلوه من تلك الأفعال، والعهد بك قريب لم يَطُلْ فيقال: نسوه، كما قال الزبير لما ذكَّره أمير المؤمنين حديث بغيه عليه وقتاله له ظلماً، قال: إني أنسيت هذا الحديث.
(ولم يخلُ منك الذكر): فيما ذكرته في حقي، وقلته في أمري من رفع المنزلة وإشادة الرتبة.
(والسلام عليكما): التعريف فيه قد سبق تفسيره.
(سلام مودع): بالرأفة والرحمة والرقة.
(لا قالي ): غير باغض.

106 / 194
ع
En
A+
A-