أحدهما: الإبانة عن عظيم قدر أمير المؤمنين حيث كان سابقاً لمن تقدمه، وفائتاً لمن تأخر عنه، فعلى مثاله حذا كل خطيب مصقع، وعلى منواله نسج كل واعظ أروع.
وثانيهما: ما يكون في ذلك من مذخور الأجر من الانتفاع بالزواجر الوعظية ، والحكم الأدبية، والحجج القاطعة، والبراهين النافعة، وجواهر اللغة العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، بحيث لايلقى مجتمعاً في كلام من جميع السلف الأولين، ولا متسقاً في نظام من الخلف الآخرين، خاصة في علوم التوحيد والحكمة وتنزيه الله تعالى عن مشابهة الممكنات، وذكر المعاد الأخروي، بل إنما يؤثر عنهم القليل النادر والشاذ الشارد.
إذ كان كلامه عليه السلام عليه مَسْحة من الكلام المعجز السماوي، وفيه عبقه من رائحة الكلام النبوي، فلما سبكته نيارالفكرة في بوتق التحقيق، وصار ذهباً خالصاً يموج في قالب أنيق، سميته بكتاب: (الديباج الوضي، في الكشف عن أسرار كلام الوصي)، ليكون اسمه موافقاً لمسماه، ولفظه مطابقاً لمعناه، حيث كانت العلوم درراً وهو تاجها، وحللاً وهو ديباجها.
وأنا أسأل الله بجوده الذي هو غاية كل طالب وسائل، وكرمه الذي هو نهاية كل مطلوب ونائل، أن يوفق سعيي لما يرضيه، ويعينني على ما أقصده من ذلك وأبغيه، ويجعله [لوجهه] خالصاً، ونعم المسئول.
(قال الشريف المؤلف رضي الله عنه): واعلم أنَّا قبل الخوض في كشف الغطاء عن لطائف كلامه وإظهار الأسرار منه، نذكر مقدمة مشتملة على تقريرات ثلاثة تكون تمهيداً لما نريد ذكره من بعده بمعونة الله.
التقرير الأول
في بيان الكتاب الذي كان هذا الإملاء شرحاً له.
وهو كتاب: (نهج البلاغة) الذي ألفه السيد الإمام ذو الحسبين، أبو أحمد الحسين بن موسى الحسيني . وهو ما حدثني به شيخي سماعاً عليه بقراءته نفسه، عن شيوخه يبلغ بذلك إلى المصنف المذكور، وهو: كتاب بالغ في فنه، يحتوي على المختار من كلام أميرالمؤمنين، ويتضمن من عجائب البلاغة، وغريب الفصاحة ما لا يكاد يوجد في غيره من الكتب؛ لاشتماله على معاقده ومناظمه، واستيلائه على مقاصده وتراجمه، وإن وجد كلام لأميرالمؤمنين في غيره فإنما هو على جهة الندرة، ومؤلف هذا له فضل باهر وعلم واسع، وهو من فضلاء الإمامية والمشار إليه منهم.
وحكى الحاكم أبو سعد أنه كان زيدي المذهب يرى رأي الزيدية، وله تقدم سابق في العلوم الأدبية، واطلاع على علوم البلاغة، وإحاطة بعلوم البيان، ومن اطلع على نبذ من كلامه عرف مصداق هذه المقالة، ولم أظفر بشيء من مصنفاته سوى هذا الكتاب.
فأما (المجازات النبوية) فإنما هي للسيد الإمام صدرالدين علي بن ناصر الحسيني .
ومن اطلع عليها أيضاً عرف مكانه في الفضل، ومنزلته في الفصاحة، واطلاعه على العلوم العقلية والمباحث الأدبية، وقد قيل في (نهج البلاغة) سموط من الأبيات الشعرية مما يدل علىفضله واستحقاق المدح بما هو من أهله.
السمط الأول: للسيد الإمام علي بن ناصر الحسيني قال:
لله دَرُّكَ يَا نَهْجَ البَلاغةِ مِن ... نَهْجٍ نَجَا من مَهَاوِي الْجَهْلِ سَالِكُهُ
أُوْدِعْتَ زَهْر نُجومٍ ضلَّ مُنْكِرُهَا ... وَحَادَ عَن جُدَدٍ غَيًّا مَسَالِكُهُ
لأَنَْت درُّ وَيَا لله نَاظمُهُ ... وَأنتَ نَضرٌ وَيَا لله سَابكُهُ
السمط الثاني: ما قاله بعض المتوالين:
نهجُ البلاغة نهجٌ مَهْيَعٌ جُدَدٌ ... لِمَن يُريدُ علواً مَا لهُ أمدُ
يا عادلاًعنه تَبْغِيْ بالهوى رَشَداً ... اعدل إليه ففيه الخيرَ والرَّشَدُ
والله والله إنّ التاركِيهِ عَموا ... عن شافياتِ عِظَاتٍ كُلها سَدَدُ
كأنها الْعِقْدُ منظوماً جواهرها ... صلّى على ناظمنَّها ربُّنَا الصَّمَدُ
ما حالهم دونها إن كنتَ تُنْصفني ... إلا الْعَنُودُ وإلا البغيُ والْحَسَدُ
السمط الثالث: ما قاله بعضهم:
نهجُ الْبَلاَغَةِ رَوْضٌ زَهْرُهُ دُرَرٌ ... كُلُّ البلاغة تمّت فيه وانتظمتْ
من يسلكُ النهج لا يبقى له إربٌ ... إلا العلوم وإن جلّتْ وإن عَظُمَتْ
لِلَّهِ درُّ أميرِ المؤمنين لقد
... علت بِمَوضُوعه العلياءُ ثم سمتْ
من حاد عنه فقد مالت بصيرتهُ ... عَنِ الرشادِ وحِيْلَت دُونهُ وعمتْ وعمت
التقرير الثاني
في بيان المنهج الذي سلكته في شرحي لهذا الكتاب.
واعلم أني قد سلكت فيه [أحد] مسلكين:
المسلك الأول:
أن أقتطع من كلامه عليه السلام قطعة، ثم أعقد عليها عقداً يكون محيطاً بأسرارها وغرائبها، ويحتوي على جميع معانيها وعجائبها، وهذه هي طريقة جيدة [و] فائدتها هو إيضاح معاني الكلام بالعقود اللائقة، والترتيبات الفائقة، وهي طريقة يسلكها كثير من النظار فيما يريدونه من إبانة معاني الكلام، ولها آفة وهو الإسهاب في الكلام الذي يورث الملل وسآمة الخواطر.
المسلك الثاني:
أن أذكراللفظة المركبة من كلام أمير المؤمنين ثم أكشف معناها، وأوضح مغزاها، من غير التزام عقد لها ولا إشارة إلى ضابط، وهذه طريقة يسلكها الأكثر من النظار، فهذان مسلكان يمكن ذكر أحدهما، وكل واحد منهما لا غبارعليه في تحصيل المقصد وتقرير البغية، لكن أرى أن المسلك الثاني هو أعجب، وإلى جانب الاختصار والتحقيق أقرب؛ لما ذكرناه من حصول التكثير في سلوك الطريقة الأولى، خاصة في مثل هذا الكتاب، فإن شجونه كثيرة ونكته غزيرة، فلا جرم كان التعويل عليها هو الأخلق، ثم أقول قولاً حقاً: إن (نهج البلاغة) بالغٌ في فنه لكل مرام، وإنَّه لأميرٌ على فنون البلاغة وحاكم وإمامٌ؛ لاشتماله على مبادئ الفصاحة ونهاياتها، ومحرزٌ لقصب سبق البلاغة وغاياتها، قد أعجز أهل أوانه، وصار مفحماً لغيره في علومه وعلو شأنه، فلو كانت العلومَ كواكبَ لكان قمرها الزاهر، ولو كانت أقماراً لكان بدرها الباهر، ولو كانت بدوراً لكان شمساً في فلكها الدائر، ولو كانت أحاديثَ لكان مثلها السائر.
ولا يغررك ما ترى من الناس من إهماله وهجره ونبذه وراء ظهورهم، وطرح ذكره حيث كان، كأن في حكمة الهجر مأسوراً مقهوراً، ومن العلوم في أكثر أحوالها ممحواً مغموراً، قد استولت على أسراره يد النسيان والذهول، وانكسفت نجومه، وآلت أقماره وشموسه إلى الذهاب والأفول، ولله درُّ من قال:
حسدوه حين رأوه أحسنَ منهم
والبدرَ تحسدُه النجومُ إذا بدا
وما ذاك إلا لأجل ما اشتمل عليه من الغموض، واستولى عليه من دقة الأسرار والرموز، خاصة في الإشارة إلى أحوال المبدع وصفاته، ومعرفة الأزمنة الأزلية، وتقرير الخواص الإلهية، فإن أحداً من أفناء الخليقة لم ينسج على منواله، ولا سمحت قريحة بشكله في ذلك ومثاله، كما سننبه على تلك الأسرار، ونذكر تلك الحقائق بمعونة الله تعالى، ولقد صدق فيه من قال:
قل للذي بصروف الدهر عيَّرنا ... هل عاند الدهرُ إلا من له خطرُ
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... وتستقر بأقصى قعره الدررُ
وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ عددي ... وليس يكسفُ إلا الشمسُ والقمرُ
التقرير الثالث:
في بيان العلوم التي تضمنها واشتمل عليها
واعلم أن هذا الكتاب وإن كان مشتملاً على فنون متفرقة، وأساليب في البلاغة متشعبة، لكن أكثرها جرياناً فيه وأعظمها استعمالاً، وهي الخطب والكتب والحكم، فلا جرم لما كان الأمركما قلناه رتبناه على هذه الأقطاب الثلاثة.
أولها: الخطب والدلائل.
وثانيها: الكتب والرسائل.
وثالثها: الحكم والأدب .
وكل واحد من هذه الأقطاب مشتملاً على نكت غريبة ولطائف عجيبة، نلحق بكل واحد منها ما يليق به منها، فهذا ما أردنا تقريره من الإشارة إلى ضبط قواعد الكتاب، واشتماله على ما ذكرناه من هذه العلوم، نعم مع تقريري له على هذا النظام وتنزيله على مثل هذه الضوابط، فإني لا أدَّعي أني قد أحطت بأقطاره واستوليت على غوائله وأغواره بحيث لا يشذ عني شيء من ذلك، فليس في ذلك وسعي، ولا يدخل تحت طوقي وإمكاني، فإن الذي يعزب عن فطنتي أكثر من الحاصل في ربقتي و الفائت عني أكثرمن الواصل إليَّ، وكيف أدَّعي حصره، وليس لمحاسنه حدُّ ولا غاية، ولا أمد لها ولا نهاية، فإن فيه حاجة كل عالم، وبغية كل متعلم، ومطلب كل بليغ، ومقصد كل زاهد، ومُنية كل عابد، وما عليَّ إلا بذل الوسع والاجتهاد، وعلىالله الإعانة والتكفل بالإرشاد، وهذا حين ابتدائنا في شرح كلامه بالهداية للصواب من الله وإلهامه، والرغبة إليه في التوفيق لإنجازه وإتمامه.
القطب الأول: في ذكر الخطب والدلائل
اعلم أن الخُطبة بضم الفاء عبارة عن المصدر، يقال: خطبت على المنبر خُطبة، وكأنه واقع على المصدر والكلام بلفظ واحد، بخلاف قولنا: غرفت غَرفةً، وغُرفةً، فالفتح المرة الواحدة وهو المصدر، والضم اسم للشيء المعروف، وهذا هو الأكثر الجاري أعني التفرقة بين المصدر والاسم، فأما هاهنا فإنهما جاريان بلفظ واحد كما ذكرناه.
فأما الخِطبةُ بالكسر في الفاء فهو: في حق المرأة، تقول: خطبت المرأة خِطبةً، ولم يرد فيه الفتح في الفاء، وهذا يؤكد ما قلناه من جري مضموم الفاء على الاسم والمصدر جميعاً، والخُطبة إنما تكون في المقامات المشهودة، والخطوب الواردة والأمور المعضلة، والحوادث المتفاقمة.
(1) [فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم]
قال الإمام أميرالمؤمنين، وسيد الوصيين، المختار من بين سائر الخلق للأخوة، والقائم مقام صاحب الشريعة في كل الأحكام ماخلا النبوة:
(الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون): واعلم أن الحمد والمدح يأتلفان من أحرف واحدة مع اختلاف نظامها ، وهما أخوان والمعنى فيهما واحد، وكلاهما من قبيل القول، وهو: الثناء الحسن بذكر الأوصاف الجميلة ، واستحقاقهما في مقابلة النعمة وغيرها، ولهذا فإن الرجل كما يحمد عند إنعامه، فإنه يكون محموداً على حسن الصورة وأصالة الحسب، وأما الشكر فهو يكون باللسان والقلب وأفعال الجوارح، وهو مخصوص بالنعمة، ولهذا قال:
أفادتكُمُ النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجَّبا
يشير به إلى أنه إنما يكون بهذه الأمور الثلاثة في مقابلة النعمة، فحصل من هذا أن الحمد خاص بالإضافة إلى جنسه وحقيقته فإنه مختص بالأقوال، وعام بالإضافة إلى ما يستحق عليه فإنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، وإن الشكر عام بالإضافة إلى حقيقته؛ لاختصاصه بالأقوال والأفعال، وأعمال القلوب، وخاص بالإضافة إلى ما يستحق عليه؛ لأنه [إنما] يكون في مقابلة النعمة لا غير، والحمد وإن كان أحد شعب الشكر، فهو أبلغ منه لأمرين:
أما أولاً: فلقوله عليه السلام: ((الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده)) .
وأما ثانياً: فلأن الله تعالى افتتح به كتابه الكريم بخلاف الشكر، وما ذاك إلا لأن ذكرالنعمة باللسان أدخل في الإشاعة بذكرها، وأكثر في الإشادة على مُوليها لما يكون في أفعال القلوب من الخفاء، وفي أفعال الجوارح من الاحتمال.