الكتاب : الديباج الوضي |
تصدير
لعل التساؤل الأول الذي يبرز إلى أذهان كثير ممن يطلع على "نهج البلاغة" هو سؤال الانتساب. هل هذا الكتاب حقاً يجمع بعضاً مما قاله وكتبه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام؟ أم أن الشريف الرضي رحمه الله قام بتأليفه كله ، أو أجزاء منه ثم قام بنسبته للإمام ؟
تعدد الإجابات إزاء هذا التساؤل المشروع بين "سنية" و"شيعية" و"معتزلية" تسعى جميعاً، على اختلاف أساليبها، وتباين منطلقاتها، إلى إثبات أن مضمون "نهج البلاغة" هو لعلي بن أبي طالب
وبين التساؤل والإجابة تختفي قضية في غاية الأهمية
هذا السؤال يخفي واقعاً مؤلماً نعيشه، يتعلق بطبيعة تفكير المسلمين اليوم، ومنذ أمد بعيد. وهي النظر إلى العلوم أولاً من خلال النظر إلى مصدرها، وليس إلى مضمونها. فلا يهم ما يقال، بقدر من قال. والسبب يعود إلى عنصر آخر يتعلق بدور العقل المسلم في معرفة وتقييم القضايا الدينية على وجه الخصوص. فبقدر ما يغيب العقل عن هذه الساحة، بقدر ما يكون أي موضوع ذا صبغة دينية معتمداً على القائل، وليس على القول. ولا شك في أن ما ينسب للإمام علي له صبغته الدينية المتفردة، إن مضموناً، لكثرة ما فيه من قضايا تعالج مفردات دينية متنوعة، أو انتساباً من حيث مقام الإمام علي الديني كصحابي جليل لدى بعض المسلمين، أو كوصي لدى بعض آخر.
هذه النظرة ستجعل الاستفادة من نهج البلاغة متوقفة بدرجة كبيرة على إثبات نسبة الكتاب إلى الإمام علي.
وواقع الحال، أن خطب وكلمات نهج البلاغة، لا يمكن أن تثبت كلها كلمة كلمة إلى الإمام علي باستعمال المناهج الصارمة للمحدثين باختلاف طوائفهم. وغاية ما يمكن أن نعمله هو أن نثبت الانتساب الإجمالي للنهج إلى الإمام علي، بحيث نقول إن مجموع الكتاب له نسبة إلى الإمام، وأما بعض مفرداته فقد تصح عنه، وقد لا تصح. وعليه، فإن هذا المنهج سيحرمنا كثيراً من الاستفادة من هذا السفر العظيم.
وأما إذا انطلقنا من حيث أن الكلام يستمد صحته وصوابيته من ذاته أولاً بذاته، من خلال العقل، وليس من خلال قائله، فإن نظرتنا إلى نهج البلاغة واستفادتنا منه ستختلف. حينها، سننظر إلى النهج من حيث مضامينه التي تفتح لنا آفاقاً للتأمل والتفكير. مضامين قد نختلف معها، كما قد نوافقها، ولكنها في نهاية الأمر تثير عقولنا لاستكشاف أبوابٍ لم نكن على اطلاع عليها.
إن نهج البلاغة من حيث مضمونه بحر متلاطم من المعاني الروحية، والصراعات السياسية، والحكم التأملية، والنظرات الفلسفية، والمشاهدات العلمية، يخوضه المرء فيجد نفسه ينتقل من موج إلى موج، كل ذلك من خلال أسلوب أدبي في غاية الرقي .
إن هذا السفر النفيس، يجسد شخصية الفيلسوف المتأمل لما وراء الطبيعة، من خلال الكلمات التي قيلت في الله تعالى، وفي أصل الكون. كما نجد فيه شخصية الفارس من خلال الخطب الحماسية التي تدفع أجبن الناس إلى خوض ساحات الوغى. وتلتفت هناك فتجد فيه شخصية الحكيم الذي اختبر الحياة قروناً من الزمان، فجاءت منه الكلمات التي تدلنا على طريقة الحياة بشكل منساب لا تكلف فيه، وبعمق لا نظير له. كما تجد فيه شخصية المنظر السياسي من خلال الكلمات التي أرشد بها عماله إلى طرائف الحكم. كما تجد العارف بالله الذي لا يرى لوجوده، بل ووجود كل ما حوله إلا تجلياً لعظمة الله ولقدرته. كما تجد الخاشع لله، الذي لا هم له إلا بأن يلتئم وجوده مع إرادة الله جل جلاله وعز سلطانه. وتجد أيضاً شخص المراقب الذي ينظر إلى ما حوله من الخلق، فيصفه. وتجد السياسي الذي يحاول أن يوازن بين مجموعة كبيرة من المتناقضات التي اتسم بها عصره، ولكن من خلال وسائل وطرائق لا تبعده عن أصل مراده، وأهم غاياته. ثم تجد أن كل تلك السمات تتداخل معاً بحيث تخرج بكثير منها من خلال خطبة واحدة أحياناً.
وفي كل ذلك تجد وحدة ووحشة لرجل لم يكن من حوله قادراً على استيعاب مراده، ولا على الوصول إلى مقامه. ولذلك تجد في خطابه لمن حوله، نفثة الحسرة، حسرة من يرى الآفاق كلها، ولكن بغير أن يقدر على أن ينقل الناس إليها. لقد كان يريد أن يسبح بهم في ملكوت الله، وأن يرتفع بهم إلى مقامات الكرامة والعزة، ولكن أرادوا الاستكانة، وطلبوا الدعة، فكانت عليهم الذلة في الدنيا والسخط في الآخرة.
لا شك، أن عظمة الكتاب، التي تكشف عن عظمة قائلها، تثير فينا الفضول نحو معرفة هذه الشخصية التي جمعت في آن واحد جملة من السمات المتضادة... ومن هذا المنطلق فحسب، قد نسعى لتحقيق نسبة الكتاب.. ولكن ليس من منطلق الاستفادة منه. هذه الشخصية التي يقف المرء أمامها حائراً، شخصية لا تنتمي إلى زمن من عرفناهم من البشر... شخصية من تلك التي تقف بين مليارات الخلق ممن مضى، وممن سيأتي...
وكأي عظيم، فإن نهج البلاغة بما فيه من معان وآفاق، كان بحاجة إلى دراسة، إلى تأمل، إلى قراءة لا تكون عابرة، وإنما قراءة مستلهمة، ومقارنة، ومتعمقة، بحيث لا تأخذ ما في النص أخذاً عجلاً ، وإنما تنظر فيه وتضعه في سياق الوقائع والمعاني ....
وقد تحصل لهذا الكتاب من الشروح والتعليقات والحواشي ما جعله نصاً متفرداً استطاع استيعاب الكثير من المدارس والتيارات والفهوم التي أخذت تجول وتصول بحثاً عن دقائق معانيه وفرائد مبانيه.
ومن تلك المحاولات الرائعة هذا الكتاب الذي بين يديك.
ومؤلفه من تلك الشخصيات التي اتسمت بكثير من السمات التي كانت للإمام علي عليه السلام. فقد جمع بين الشجاعة والإقدام وأخلاق الفارس الذي لا يداهن الظلمة مع ورع شديد وعبادة ووله وخشوع مع صدق نفس وديانة متينة فكانت قراءته للنهج قراءة من عاش جزءاً كبيراً من تجربة صاحب النهج بحيث سرت روحه في سلوكه وتجسدت صفاته في حياته حتى بات مثالاً يحتذي طيب الأصل وفرعاً يتدلى من سموق تلك الشجرة المباركة.
ولا شك أن خير من يقرأ تجربة ما هو من يعيش تلك التجربة بذاته ويجسدها بسلوكه العملي بين الناس .
فلنقرأ الشرح مع المؤلف بعقلية المتأمل والمُسائل والمحاور ... ولنتأمل في النهج معاً نحن وإياه، بحيث نقرأه من خلال عقله وعقولنا، لتثمر بذلك القراءة ، وتتعمق المطالعة...
لقد ترك النهج بصمات كبيرة على أجيال متتابعة ... وكل أملنا أن تستمر آثاره، وأن تتوسع آفاقه الرحبة بحيث لا يكون للصراعات الضيقة دور في صرف الناس عنه ، وفي حرمانهم من الاستفادة منه.
والشكر موصول للمحقق الذي لم يتوانَ جهداً في تحقيق النص وتتبع موارده وتخريج نصوصه وشواهده مما أضفى حلة بهية على العمل فجزاه الله خيراً وبارك في وقته وعمله.
مؤسسة الإمام زيد بن علي (ع) الثقافية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق العدل المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ونبيه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى أصحابه المنتجبين الأخيار.
وبعد ..
إن الحديث عن فضائل ومناقب وخصائص الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يطول ويطول جداً، إذ أنها جمة كثيرة وشهيرة، وليس في وسع الباحث أو الكاتب ضبط ذلك وإحصاؤه في مثل هذه العُجالة، إذ أنه يحتاج في رقمه إلى مجلدات كبار، وتلك المناقب والفضائل قد اشتهرت بين الخاص والعام عند جميع المسلمين ومنذ العهد النبوي وبزوغ فجر الدعوة، على صاحبها وآله أفضل الصلوات والتسليم، فظهرت على الآفاق، وطارت كل مطار، وطفحت بذكرها المئات من المؤلفات والمصنفات، وتداولها الناس جيلاً فجيل، وخلفاً عن سلف، بين أوساط جميع المذاهب الإسلامية، وحسبك معرفة أنك لا تجد مذهباً من مذاهب المسلمين، إلا وقد ظهر من بين أبناءه من ألَّف وصنّف في ذلك الباب، فعمرت المكتبة الإسلامية بالمئات من المصنفات الحافلة.
قال ابن أبي الحديد في كتابه (شرح نهج البلاغة)1/16-17، تحت عنوان: القول في نسب أمير المؤمنين علي عليه السلام، وذكر لمع يسيرة من فضائله ما لفظه: (فأما فضائله عليه السلام؛ فإنها قد بلغت من العظم والجلالة، والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
قال: وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، وحتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما سُتِرَ انتشر عَرْفُه، وكلما كُتِمَ تَضَوَّع نشرُه، وكالشمس لا تستر بالرَّاح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة.
وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى). انتهى ما نقلته من ابن أبي الحديد رحمه الله.
وغاية ما يمكن أن أقوله هنا: إن قلمي ولساني لعاجزان ومقصران عن إيفاء الإمام علي عليه السلام حقه، ولو بضرب من الاختصار والإيجاز، لكنني أقتطف نبذة يسيرة من فضائله عليه السلام صاغها قلم العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله في كتابه الروضة الندية في شرح التحفة العلوية ص392-410، حيث قال ما لفظه:
وكفاه كونه للمصطفى
ثانياً في كل ذكرٍ وصَفِيَّا
قوله: (وكفاه): أي كفاه شرفاً وفخراً أنه يذكر ثانياً وتالياً لذكره صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه صفي ومختار لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا تقدم من إكرامه.
والبيت يشير إلى ما خصَّ الله الوصي عليه السلام من إبقاء ذكره الشريف على ألسنة العالم من صبي ومكلف وحر وعبد ذكر وأنثى، فإنهم إذا ذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروه بذكره. وهذا من إكرام الله تعالى له فإنه ينشأ الصبي فيهتف: يا محمد، يا علي، والعالِمُ والعامي وغيرهما، وهذا من رفع الذكر الذي طلبه خليل الله، في قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84]، وهو الذي امتن الله به على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4]، (وكفاه شرفاً) أنه أول السابقين إلى الإسلام، (وكفاه شرفاً) أنه أول من صلى، وأنه الذي رقى جنب أبي القاسم لكسر الأصنام، (وكفاه شرفاً) أنه الذي فداه بنفسه ليلة مكر الذين مكروا به، (وكفاه شرفاً) أنه الذي أدّى عنه الأمانات إلى أهلها، (وكفاه شرفاً) أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الرأس من البدن، (وكفاه شرفاً) أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله منه، (وكفاه شرفاً) أنه سَلَّمت عليه الأملاك يوم بدر، (وكفاه شرفاً) أنه الذي قطّر أبطال المشركين في كل معركة، (وكفاه شرفاً) أنه قاتل عمرو بن ود، (وكفاه شرفاً) أنه فاتح خيبر، (وكفاه شرفاً) أنه مُبلِّغٌ براءة إلى المشركين، (وكفاه شرفاً) أن الله تعالى زوّجه البتول عليها السلام، (وكفاه شرفاً) أن أولاده للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أولاد، (وكفاه شرفاً) أنه خليفته يوم غزوة تبوك، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة، (وكفاه شرفاً) أنه أحب الخلق إلى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أنه أحب الخلق إلى رسول الله