قيل: هو الرأي المجرد عن النظر فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن علي وأهل بيته" والعلماء من غيرهم، الخارج عن قوانين العلوم كالنحو والأصول واللغة، وغيرها بحسب ما تحتاج إليه الآية؛ لأن القرآن على درجات فبعضه لا يعرف معناه إلا من جهة السنة وما يلحق بها، وبعضه يعرف بالنظر في اللغة العربية والقواعد النحوية ونحوها، وبعضه يدرك بدقيق النظر وإعمال الفكر، وهذا في حق من يريد استنباط الأحكام والمسائل منه، وبعضه ظاهر لا يحتاج في تفسيره إلى غير تلاوته، وقد دل على هذا ما ورد من أنه بيان لكل شيء، وأن فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، ووصف بأنه ربيع العلماء، وشبه بالبحر الذي لا ينزف ولا يدرك قعره، إلى غير ذلك مما يدل على أن من أحسن فيه نظره استنبط منه ما لا يحصى من العلم النافع، وقد تقدم شيء من ذلك، وليس المراد أن التفسير والاستنباط موقوف على السماع؛ لأن الصحابة قد فسروا القرآن واستنبطوا منه على وجوه مختلفة، ولو كان تفسيره مسموعاً لما اختلفوا، وقد دل على احتماله للوجوه وكثرة ما يستنبط منه قول علي عليه السلام لما أمر ابن عباس بمجادلة الخوارج: (حاججهم بالسنة فإن القرآن ذو وجوه) أو كما قال.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لابن عباس بعلم التأويل، ولو كان التأويل مسموعاً كالتنزيل لم يكن لتخصيصه بالدعا فائدة.
وقد روى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يفسر من كتاب الله إلا آياً بعدد، علمَّه إياهن جبريل عليه السلام ، وهذا نص صريح فيما ذهبنا إليه وهو أنه ليست كل آية لها تفسير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه لا يتوقف تأويله على السماع.
قال ابن عطية: ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى.
وفي البحر المحيط عن ابن عباس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أي علم القرآن أفضل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((عربيته فالتمسوها في الشعر ))، فأمر بالرجوع في تفسيره إلى لغة العرب، وجعلها أفضل علومه.
وفي البحر أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة )).
والمراد أن يولج بصره، ويمعن نظره، ويتدبر آياته حتى يستخرج منه علوماً كثيرة، ومسائل متعددة، وهذا حق فقد تشتمل الآية الواحدة على فنون شتى من العلم أصولاً، وفروعاً، وآداباً، وقواعد عربية، ونكتاً وغير ذلك {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:42].
وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: (ما من شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن آراء الرجال تعجز عنه).
وعن علي عليه السلام أنه كان يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه، ولو كان مسموعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له مزية على غيره، وإنما أثنى عليه لحسن فهمه وقوة استنباطه، ولهذا قال فيه ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وعلى الجملة إن تفسير كتاب الله تعالى بالرجوع إلى ما تقتضيه قواعد العلم، والرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليهم ومجانبة الهوى ليس من التفسير بالرأي المنهي عنه، بل هو الذي جرى عليه السلف والخلف من أهل البيت" وغيرهم، فانظر التفاسير هل تجدها كلها موقوفة على ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم إنه لو كان يجب الوقف في التفسير على السنة النبوية لما كان لما ورد في الكتاب والسنة وغيرهما من الحث على الرجوع إلى القرآن والاستنباط منه والعرض عليه فائدة.
وحديث: ((من قال في القرآن بغير علم )) صريح فيما قلنا، وكذلك حديث جندب؛ إذ لا يكون مخطئاً مع الإصابة إلا إذا كانت إصابته للحق تبخيتاً، وقد تكلم العلماء في بيان الرأي المنهي عنه، وحاصل ما قالوه إن ذلك إنما ورد في حق من يتأول القرآن على مراد نفسه وما هو تابع لهواه، وهذا لا يخلو إما أن يكون عن علم أو لا.
فالأول: كمن يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن المراد من الآية غير ذلك، لكن غرضه أن يلبس على خصمه بما يقوي حجته على بدعته كما يستعمله الباطنية والخوارج، وغيرهم من أهل البدع والمقاصد الفاسدة ليغروا بذلك الناس.
والثاني: نحو أن تكون الآية محتملة لمعان فيفسرها بغير ما تحتمله من تلك المعاني، فهذان القسمان مذمومان، وكلاهما داخلان في النهي والوعيد، فأما التأويل وهو صرف الآية على طريقة الاستنباط إلى معنى يليق بها محتمل لما قبلها، وما بعدها، وغير مخالف للكتاب والسنة فقد رخص فيه أهل العلم؛ لأن الصحابة قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كلما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن على قدر ما فهموا، وهذا معنى ما تقدم.
المسألة الخامسة: كيفية التعامل مع الأدلة الشرعية وإيضاح شروطها وبيان بطلان بعض قواعد المنطق وشبهات الفلاسفة
المسألة الخامسة: في ذكر الأدلة وشروط الاستدلال بها
اعلم أنه يمتنع ثبوت ما لا دليل عليه، ومن ادعى شيئاً من ذلك وجب نفيه والقطع ببطلانه، إذ لو جوزنا ثبوته مع عدم الدليل لأدى إلى القدح في الضروريات والاستدلاليات، وفتح باب الجهالات وزوال الثقة بالمشاهدات، أما الضروريات فلأنه إذا زالت الثقة بالمشاهد جوزنا كون الخردلة كالجبل، وكون رأس الآدمي المشاهد كرأس الحمار، وكون الحي ميتاً والعكس.
وأما الاستدلاليات فلأنا نجوز حصول شبه قادحة للخصم لا طريق إلى العلم بها فلا يولد النظر العلم بشيء قط إذ النظر يقف في توليده على العلم بالدليل، وتجويزه للقادح يدعو إلى التجويز الذي لا يجامع العلم فيتغير علمه بالدليل ويزول، فلا يولد النظر فيه العلم بالمدلول، وأيضاً يلزم أن لا يصح قياس الغائب على الشاهد لتجويز أن يكون حاجة أفعالنا إلينا لا لحدوثها، بل لغير ذلك فلا يحتاج العالم إلى محدث، ويلزم أن لا نقطع باستناد فعل إلى فاعله لجواز أن يكون الفاعل غيره فتزول أحكام الأفعال من مدح وذم وغيرهما، هذا في العقليات، وأما السمعيات فإن كان المدعي يدعي ثبوت ما يعم التكليف به كصلاة سادسة وثبوت حج بيت آخر وجب القطع ببطلان دعواه؛ إذ لو كان لاشتهر وعلم به المكلفون، وإلا لزم تكليف من لا يعلم والمعاقبة على الإخلال به وذلك قبيح، وإن لم يكن مما يعم به التكليف وجب الوقف فلا يقطع بعدم الدليل عليه فيكون باطلاً، ولا بوجوده فيكون صحيحاً حتى يظهر الدليل وعدمه بعد البحث في مظان وجوده.
فإن قلت: ما الفرق بين العقليات والسمعيات على هذا التفصيل؟
قلت: أما القسم الأول من السمعيات فلا فرق بينه وبين العقليات، وذلك أن المدعي لشيء من ذلك إذا لم يذكر دليله علم بطلان دعواه في الحال، ولا يحتاج إلى بحث عن الدليل؛ لأنه لا يجوز أن يخفى على أحد.
وأما القسم الثاني من السمعيات فلا يقطع ببطلان دعواه إلا بعد البحث والتفتيش فلا يجد عليه دليلاً لأنه يجوز في دليله أن يخفى على بعض المكلفين.
[تعريف الدليل]
فإن قلت: فما حقيقة الدليل؟ قلت: أما في اللغة فهو ما يعرف طرق الأمكنة على وجه يقتدى به أو بقوله، ولا فرق بين أن يكون متقدماً أو متأخراً كابنة شعيب، ولا فرق أيضاً بين أن يكون جماداً أو حيواناً، عاقلاً أو غير عاقل.
والدلالة في اللغة: العلامة، وفي الاصطلاح: الدليل والدلالة سواء وهو ما إذا نظر الناظر فيه نظراً صحيحاً أوصله إلى العلم بالغير.
قال السيد مانكديم: ولا بد أن يزاد فيه إذا كان واضعه وضعه لهذا، قال: لأنه لا يقال في أثر اللص أنه دلالة عليه وإن أمكن الاستدلال به على موضعه؛ لأنه لم يضعه لذلك بل بذل وسعه في إخفاء نفسه.
قلت: وفيه نظر إذ قد حصل الغرض بالنظر في أثره، وعدم قصده لذلك لا يخرجه عن كونه دليلاً، كما أن ترك النظر في الدليل لا يخرجه عن كونه دليلاً.
[أقسام الأدلة]
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأدلة خمسة: العقل، والكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، إلا أن من خص اسم الدليل بما يفيد العلم واليقين قيد السنة بالمتواترة، والإجماع، والقياس بالقطعيين، ويسمي الخبر الآحادي والإجماع والقياس الظنيين أمارة، ولا يسميها أدلة إلا على سبيل التجوز، ولأجل هذا اختلفوا في حد الدليل، فمن فصل حد الدليل بنحو ما هنا، ومن أطلق الدليل على ما يفيد العلم والظن حده بما يتناولهما نحو قوله: هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم، أو إلى المطلوب على ما هو مذكور في مواضعه.
[شروط الاستدلال بالأدلة]
وأما شروط الاستدلال بالأدلة فهي مبسوطة في كتب أصول الفقه، إلا أنا نشير إليها في هذا الكتاب فنقول: أما العقل فيشترط في الاستدلال به أن تستقرأ طرق الشرع فلا يوجد للحادثة حكم فيها، وهذا إن لم تكن قضية العقل مطلقة، وإلا فلا يشترط هذا الشرط؛ إذ القضية المطلقة لا يرفعها الشرع بحال، وقد زاد بعضهم شرطاً وهو أن يكون في العقل للحادثة حكم.
قيل: وهذا صحيح على قول من يجوز أن لا يكون للعقل في الحادثة حكم، فأما من يقول: لا بد له فيها من حكم فلا حاجة إلى اشتراطه، وأما الكتاب والسنة القولية فشرط الاستدلال بهما نفي الخطاب بالملغز والمهمل، وإلا لم نثق بالظاهر، ومعرفة العدل والمعجز وإلا لم نثق بهما، والعلم بنفي كتمانه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً؛ وإلا لم نثق بالموجود لتجويز استثناء أو نحوه بالفعل عدم الاختصاص به، وبالتقرير أن يتنبه له، وأن لا يكون المقرر كافراً، ولا غائباً، ولا أنكره غيره.
وأما الإجماع فشرطه معرفة كيفيته من كونه قولاً، أو فعلاً، أو تركاً أو سكوتاً، وتواتره حيث يستدل به في قطعي، والتلقي بالقبول كالتواتر على الخلاف، وأما القياس فشرطه معرفة أركانه وشروطها، وكونه قطعياً إن استدل به في قطعي.
فائدة في كيفية الاستدلال بهذه الأدلة عند اجتماع شرائطها
اعلم أن أول قدم يضعه المستدل في الطرق المذكورة قضية العقل، فإن كان له في الحكم قضية مطلقة حكم بذلك ولم يلتفت إلى غيره؛ إذ الشرع لا يرد بخلاف ما يقضي به العقل قضية مبتوتة، وإن كانت قضيته مشروطة وكانت المسألة قطعية انتقل إلى الطرق الشرعية القطعية وتتبعها، فإن عثر على ما يرفع ذلك عمل عليه ولم يعرج على الحكم الأصلي لوجود الناقل، وإن لم يجد المغير رجع إلى قضية العقل، وإن كانت المسألة ظنيَّة انتقل أيضاً إلى طرق الشرع القطعية والظنية واتبعها واحدة واحدة، والأقوى فالأقوى حتى يأتي عليها أجمع، فإن وجد مغيراً عمل عليه وإلا رجع إلى قضية العقل، ولزمه البقاء عليها، وكان ذلك حد الحادثة.
فائدة أخرى لاحقة بشروط صحة الاستدلال
وهي أنه لا بد بين الدليل والمدلول من تعلق، وإلا لم يكن بأن يدل عليه بأولى من أن يدل على غيره، أو من أن لا يدل عليه، وذلك التعلق أن يكون لولا المدلول لما صحت الدلالة كدلالة الفعل على الفاعل، فإنه لولا الفاعل لما صح الفعل، أو لولاه لما وجبت كدلالة المعلول على العلة، والمسبب على السبب، والمقتضَى -بفتح الضاد- على مقتضيه، فإنه لولا المدلول لما وجبت الدلالة، أو لولاه لما اختيرت كدلالة فعل القبيح على الجهل، فإنه لولاه لما اختير، وكدلالة العدو على الشوك والنار على الإلجاء، أو لولاه لما حسنت كدلالة المعجز على صدق المدعي للنبوة، فإنه لولا الصدق لما حسنت المعجزة، ويدخل في هذا الأدلة الشرعية فإنها لولا كونها مصالح لما حسن التكليف بها.