[إمعان النظر في الأدلة]
الخامس: أن يؤدي النظر حقه في أدلة المحقين وشبه المبطلين، ويستوفي ما عثر عليه من أقوالهم ومستنداتهم عقلاً وكتاباً وسنة وغيرها، فإنه لا يعرف الحق ويقطع به إلا من عرف الباطل وبطلانه، وإلا فلا يأمن أن ترد عليه شبهة لا يتمكن من حلها لضيق وقت، أو عدم من يراجعه فيها، أو فتور في همته لزمانة ونحوها، أو تعذر كتب البحث عليه فيبقى في حيرته ويضعف يقينه، وقد أرشدنا الله إلى هذا في كتابه العزيز بما حكى فيه عن الدهرية والثنوية، وغيرهم من الملل الكفرية من الأقوال الباطلة، وبما رد عليهم به من الحجج القاطعة على تنوعها، فتارة بالإلزام، وتارة بالقياس، وتارة بمطالبتهم بالبرهان إلى غير ذلك مما اشتمل عليه القرآن.
وبالجملة إنه لا يعرف الحق إلا من عرف الباطل كما نص عليه باب مدينة علم الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وعلى هذا جرى أئمة العترة" وغيرهم، فإن كتبهم مشحونة بأقوال المختلفين أصولاً وفروعاً حتى بكلام الملحدة والفلاسفة وشبههم مع الرد عليهم، وبيان بطلانها.
ومن كلام علي عليه السلام :(واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه). رواه في النهج.
وقال زيد بن علي عليه السلام : (أما بعد يا قارئ القرآن فإنك لن تتلو القرآن حق تلاوته حتى تعرف الذي حرفه، ولن تمسك بالكتاب حتى تعرف الذي نقضه، ولن تعرف الهدى حتى تعرف الضلالة، ولن تعرف التقى حتى تعرف الذي تعدى، فإذا عرفت البدعة في الدين والتكليف، وعرفت الفرية على الله والتحريف رأيت كيف اهتدى من هدي).
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : (فاعرف يا بني الحق ومن خالفه فإنك يا بني حينئذٍ تعرف الحق ومن ألفه).
واعلم أن معرفة الحق قسمان معلومان، وجزءان عند المحققين مقسومان:

أحدهما: معرفة الحق في نفسه ونعته، وما أبانه الله من ضياء بينته، والآخر: معرفة ما خالفه من الباطل، والبراءة إلى الله من جهل كل جاهل، فاعرفهما جميعاً تعرف الحق وتوقنه، وتعرف قبيح كل أمر كان أو يكون وحسنه، ولا تغتر بهما جهلاً، ولا تكون لواحد منهما معطلاً، فتجهل بعض الحق أو تعطله، ولا تؤمن أن تركب بعض الباطل أو تفعله، ومتى لا تعرف الباطل لا تتبرأ من أهله، ومن لا يتبرأ من المبطل حل من السخط في محله، ومتى يجهل بعض الحق لا يؤمن على البراءة من المحق، ومن تبرأ من المحقين تبرأ الله منه، ومن أعرض عنه المحقون سخطاً أعرض الله عنه). ذكره في كتاب الدليل الكبير.

المسألة الثالثة: فيما يحتاج إليه الناظر في كتاب الله
اعلم أنه ينبغي له إمعان نظره وفكره، والصبر على التفطن والتفهم لما تضمنته الآيات من الدلالات، والرموز والإشارات؛ حتى يهجم على اليقين مما نبه عليه القرآن من البراهين العقلية، وما دل عليه من الأحكام الشرعية، والآداب المرضية، فلن يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان، وقد نبه الله على هذا بتكرير الأمر بالنظر والتفكر والتذكر، وذم من لا يعقل ولا يفقه في آيات متعددة، ودل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزُل...)) الخبر.
وقوله: ((فليولج بصره وليبلغ الطريقة نظره )).
وقوله: ((فإن التفكر حياة قلب البصير )) ونحو ذلك.
ومن كلام علي عليه السلام بعد أن ذكر أن الإيمان على أربع دعائم: (على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال: واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين، والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحلم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميداً). رواه في النهج.
وقال عليه السلام في وصيته لولده الحسن": (وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنك صفحاً). رواه في النهج، و(سلوة العارفين).

وفي هذه الوصية أيضاً ما رواه في النهج وهو قوله عليه السلام : (واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك فإنهم لم يدعوا أن نضروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتَعلُّمٍ، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفى قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً فانظر فيما فسرت لك، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل).
وفي كلامه عليه السلام التوصية بآداب النظر التي أكثر الناس فيها الكلام، ووسعوا في إيضاحها المقام، ومن أنصف عرف أن القول ما قالت حذام.
قال ابن أبي الحديد رحمه الله: واعلم أنه قد وصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون وذلك أمور: منها: أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده، ومنها: أن يطلب المطلوب النظري بتفهم وتعلم لا بجدال ومغالبة، ومراء ومخاصمة، ومنها: اطراح العصبية لمذهب بعينه، والتورط في الشبهات التي يحاول بها نصرة ذلك المذهب، ومنها: ترك الإلف والعادة، ونصرة من يطلب به الرئاسة وهو المعني بالشوائب التي تولج في الضلال، ومنها: أن يكون صافي القلب، مجتمع الفكر، غير مشغول السر بأمر من جوع، أو شبق، أو غضب، ولا يكون ذا هموم كثيرة وأفكار موزعة مقسمة، بل يكون فكره وهمه هماً واحداً.

قال: فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر، وإن لم يجتمع لك ذلك ونظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي، وكمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه، وليس طالب الدين من كان خابطاً أو خالطاً، والإمساك عن ذلك أمثل وأفضل.
قلت: وبعض هذه الأمور قد تقدم الكلام عليها، فإن قلت: أليس ظاهر كلامه عليه السلام الأمر بترك النظر، والاكتفاء بما مضى عليه سلفه الصالح، وهو خلاف ما علم من وجوب النظر، وتحريم التقليد.
قلت: ليس النظر مقصوداً لذاته، وإنما المقصود به التوصل إلى معرفة الحق على وجهه، فإذا كان من نقطع بصحة نظره كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام ، وفاطمة الزهراء، ومن كان من سلف الحسن عليه السلام مقارباً لهم في حسن النظر قد نظروا، وعُلِمَ ما أداهم إليه نظرهم علماً لا شك فيه إما بالسماع منهم، أو بنقل من لا يشك في صدقه عنهم كأمير المؤمنين عليه السلام فقد حصل المطلوب، وهو معرفة الحق؛ إذ لا يحصل للناظر أكثر مما حصلوه من الحق الذي تجب معرفته، ومن جاوز به نظره إلى تكلف معرفة ما أمسكوا عنه فقد جاوز حد عقله، وخرج من رسوخه في العلم إلى ظلمات جهله، فإن قلت: كيف يأبى قبول ما عليه سلفه المذكورون حتى قال له علي عليه السلام : فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك.
قلت: إن كان أبى ذلك فلم يكن لشكه في كونه حقاً، وإنما لم يكتف بنظرهم لما يفوته من فضيلة النظر، والجد في طلب العلم، والفرق جلي بين أخذ العلم تلقيناً، وبين تحصيله بتعب القلب، وجمع الهمة، وإعمال الفكر، ولذا ورد في فضل التفكر ما ورد، والأجر على قدر المشقة.
فإن قلت: فما بال أمير المؤمنين عليه السلام رجح لولده الحسن عليه السلام ترك النظر، والأخذ بما مضى عليه سلفه مع ما في النظر من الفضل.

قلت: لما في النظر من الخطر، فإنه لا يؤمن أن ينظر في مسألة من علم الكلام ولا يؤدي النظر حقه فيؤديه نظره إلى حالة يستحق صاحبها الخلود في النار، فكان ترك الاشتغال بالنظر مع كون العلم بالحق يحصل له من دونه أولى مع هذا الخوف، ولهذا أمره إن اختار النظر بما أمره به من التفهم ونحوه، وحذره من التقصير وعدم النظر على الوجه المعتبر.
فإن قلت: هل في كلامه ما يدل على الأخذ بالجمل دون التفاصيل كما تأوله به ابن أبي الحديد؟
قلت: لا بل دل على وجوب الإمساك عما لم يكلفه الإنسان، وهذا شأن الراسخين في العلم من الأنبياء وغيرهم؛ بدليل قول علي عليه السلام : (واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً). رواه في النهج.
فإن قلت: فهل يدل على جواز تقليد المحق؟ قلت: إذا قطعنا بأنه محق لقيام المعجز كالنبي، أو إخبار نبي بعصمته، وأن الحق معه كأمير المؤمنين، ونقل عنه الحق على وجه يحصل به اليقين، فلا شك في جواز اتباعه لما مر من أن النظر ليس مقصوداً لذاته، ولا يكون اتباعه، والحال هذه تقليداً لأنه لدليل.
فإن قلت: إن ابن أبي الحديد جعل السلف المذكورين غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغير أمير المؤمنين، فما وجه عدولك عن قوله؟

قلت: وجهه ما قدمنا من قوله: واعلم أن الراسخين في العلم... إلى آخره، ومن ذا يداني أو يقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرسوخ في العلم، أو يساوي وصيه عليه السلام ، وفي الكلامين كليهما الأمر بالإمساك عما لم يكلف به الإنسان وسماه رسوخاً، ولأن في هذه الوصية بعد الكلام الذي نحن بصدده ما لفظه: (واعلم يا بني أن أحداً لم يُنبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فارض به رائداً، وإلى النجاة قائداً) ثم قال: (وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك...) ثم فصل له ما كان عليه من نفي الشريك لله تعالى ووصفه بما يستحقه.
واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرد باتباع سلفه إلا في صفات الله، ونفي الشريك ونحو ذلك مما يجوز فيه الخطأ مع النظر القاصر؛ بدليل قوله عليه السلام : (فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به ـ حتى قال ـ وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه فإن ذلك منتهى حق الله عليك). رواه في النهج.
فأما إثبات الصانع فليس مقصوداً هنا؛ لأنا لا نعرف المحقين إلا بأخبار الأنبياء، ولا نعرف الأنبياء إلا بالمعجز، ولا نعرف المعجز إلا بعد إثبات الصانع، ولا نثبته إلا بالنظر.
فإن قلت: ظاهر قوله عليه السلام : (فما دلك القرآن عليه)... إلخ يدل على منع النظر فيما ذكر، والاكتفاء بما في القرآن والسنة، وما أثر عن أئمة الهدى وهو يخالف ما تقدم من ترخيصه للحسن عليه السلام .
قلت: كلامه هذا مع القاصرين عن النظر المعتبر؛ لأنه ورد جواباً لسؤال سائل، وقد قدمنا أن النظر مظنته الخطر، ولهذا أمر الحسن معه بما أمر، وكلامه عليه السلام يفسر بعضه بعضاً.

[بقية وسائل فهم القرآن]
رجعنا إلى ما نحن بصدده من ذكر ما يحتاج إليه الناظر في كتاب الله، وينبغي له مع إمعان النظر -أن يكون عالماً بالعربية بجميع أنواعها من المفردات، والقواعد النحوية، والبيانية وغيرها- محققاً في أصول الفقه، وعلم الكلام، ممارساً في الفقه وغيره من الفنون التي يريد استخراجها من القرآن؛ لأن بذلك يسهل عليه إدراك مآخذ المسائل، ولذا قال الغزالي: وإنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة الفقه فهو طريق تحصيل الدراية في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمن الصحابة رضي الله عنهم ذلك.

المسألة الرابعة: تفسير الكتاب بالسنة
المسألة الرابعة: في تبيين الكتاب بالسنة وما صح عن أمير المؤمنين عليه السلام وأئمة العترة وإجماع الأمة والرد على من تعلق بظاهر الكتاب وترك العمل بالسنة
قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاس ِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:44]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:36].
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[الشورى:52].
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7].
وفرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في غير آية من كتابه، وقرن طاعته بطاعته.
وعن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزُل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)). رواه أبو طالب وذكره في الثلاثين المسألة.
قال ابن حابس: وإسناده موثوق به، ثم قال: وكفى بذلك زاجراً عن تقليد الرجال، وباعثاً على النظر والاستدلال، فينبغي للعاقل أن يجتهد في خلاص نفسه من عذاب يوم: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيه ِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيه}[المعارج:11-14].

وعن علي عليه السلام قال: (لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه والبيت غاص بمن فيه قال: ((ادعوا لي الحسن والحسين )) فدعوتهما فجعل يلثمهما حتى أغمي عليه قال: فجعل علي عليه السلام يرفعهما عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ففتح صلى الله عليه وآله وسلم عينيه وقال: ((دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فإنه سيصيبهما بعدي أثرة. ثم قال: يا أيها الناس إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لم يفترقا حتى ألقاه على الحوض))، وفي رواية: ((لن يفترقا)). رواه زيد بن علي في المجموع.

7 / 329
ع
En
A+
A-