[كلام الإمام المنصور في وصف القرآن]
وقال المنصور بالله عليه السلام : (الحكمة العلم النافع وهو علم القرآن وتفسير معانيه، وتفصيل مجمله، والمعرفة بأحكام أوامره ونواهيه، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، ومجمله ومبينه، وناسخه ومنسوخه، والاعتبار بعبرة، والفهم لأمثاله العجيبة، وقصصه الغريبة، فهذا عندنا رأس الحكمة، ومفتاح الرحمة)، وهذا القدر كاف في هذه المسألة؛ إذ تتبع ما ورد في فضل كلام الله والحث على اتباعه يشغلنا عن المقصود، مع أن ذلك أمر معلوم لولا قصد التنبيه والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي عليه السلام ، وأئمة العترة"، وغيرهم من علماء الإسلام، مع ما سيأتي إن شاءالله تعالى في سياق الآيات الدالة على فضله، وعظيم منزلته).
المسألة الثانية: في العلوم المستنبطة من القرآن
اعلم أن الله تعالى جعل من معجزة هذا القرآن أن جعله مع صغر الحجم متضمناً للعلم الجم؛ بحيث أنه يمكن استخراج كل شيء منه كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، وقال: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }[النحل:89] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ...)) الخبر ونحوه.
وقال علي عليه السلام : (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليهم أنفسهم، أتم نوره، وأكرم به دينه، وقبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به). رواه في النهج.
وروي عن ابن عباس أنه قال: (لو ضاع عليّ عقال لوجدته في كتاب الله).
[تنوع العلوم والمعارف القرآنية]
وروى ابن أبي جمرة -بالجيم- عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو شئت أن أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت، حتى لقد استنبطوا منه علم الخياطة، والهندسة، والجبر، والمقابلة والغياصة، وغيرها مما لا يحصى كثرة، إلا أن الهمم متفاوتة، والأفهام مختلفة، فكل طالب يدرك منه بقدر اجتهاده وبذل وسعه، ومقدار فهمه، وتأمله وتدبر آياته).
كما روي أنه قيل لموسى عليه السلام : (يا موسى إنما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته). رواه أبو نعيم وغيره، ومثال تفاوت العلماء في الاستنباط منه مثال قوم لهم معدن يستخرجون منه بقدر الآلة والقدرة، وتوفيق الله وتيسيره.
[ما يجب فهمه من القرآن]
واعلم أن الذي ينبغي لمن قصرت همته، وفترت عزيمته أن يقتصر من علوم القرآن على ما لا يعذر بجهله من علم العدل والتوحيد، ومعرفة الوعد والوعيد، والأوامر والنواهي، وما يوصل إلى معرفة ذلك من علوم القرآن المجيد، فإن سمت به همته إلى مجاوزة ذلك إلى غيره فليقدم الأهم فالأهم كعلم الطريقة، وآداب أهل الحقيقة، وهذا وإن كان داخلاً فيما تقدم فإن بعضه غير داخل إن أريد بما سبق ما تحتم.
[وسائل الإعانة على فهم القرآن الكريم]
ومن أراد أن يبلغ أمله في معرفة الحق والكون مع أهل الاهتداء والصدق، فليلزم أموراً فإن من لزمها فتح الله عليه أبواب الفهم، وأظهر على لسانه ينابيع العلم:
[الإخلاص]
أحدها: أن يخلص في عمله الذي هو تدبر كتاب الله والاستنباط منه خصوصاً، وفي سائر أعماله لله تعالى عموماً قال الله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }[الزمر:3].
وعن علي عليه السلام قال: (من أخلص لله أربعين صباحاً يأكل الحلال قائماً ليله صائماً نهاره أجرى الله سبحانه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه). رواه في المجموع.
وعن أبي أيوب مرفوعاً: ((من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه )). أخرجه أبو نعيم في الحلية.
قال العزيزي بإسناد ضعيف، ورواه ابن عدي وغيره في الضعفاء عن ابن عباس، والمروزي وابن حبان عن مكحول مرسلاً.
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : (واعلموا أن البحر لا يجاز يقيناً إلا بمعبر، وأنه يحتاج الشجاع المحارب إلى السلاح في الحرب فكيف بالعي المغتر، فلا يتعاطى أحد سبيل التقوى، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى، إلا وقد تحصن بالعلم والنظر الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر، فلا تدعوا رحمكم الله حسن النظر في الأمور، والاستضاء في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور، واعلموا أن من أبواب ذلك ومفاتيحه، وأضواء ضياء نوره ومصابيحه إخلاص العمل لله، وصدق التوكل على الله).
[الرجوع إلى الله تعالى]
الثاني: الرجوع إلى الله والاستعانة به، والتضرع إليه، وسؤاله أن يهب له لساناً قؤولاً، وقلباً عقولاً، وفهماً ذكياً، وحفظاً لما سمع، وأن يسهل له طرق العلم النافع، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {اسْتَعِينُوا بِاللَّه ِ}[الأعراف:128]، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }[غافر:60]، {اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ }[النساء:32].
وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سلوا الله علماً نافعاً ، واستعيذوا به من علم لا ينفع)). رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن ماجة، والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه محمد حجازي الشعراني المشهور بالواعظ شيخ العلامة علي بن أحمد نور الدين محمد بن إبراهيم العزيزي شارح الجامع الصغير.
وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((اللهم اغنني بالعلم ، وزيني بالحلم، وأكرمني بالتقوى، وحلني بالعافية)). رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن النجار من حديث ابن عمر إلا أنه قال: وجملني بالعافية بجيم بعدها ميم من الجمال.
وعن أنس بن مالكل قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اللهم انفعنا بما علمتنا ، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً إلى علمنا)). رواه المرشد بالله.
وقال علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليهما السلام: (والج نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، وأخلص المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان). رواه في النهج.
[الاستعانة بأهل البيت عليهم السلام]
الثالث: أن يستعين على ذلك بأنظار أئمة العترة وعلمائهم "، وغيرهم من سائر علماء الأمة، أما آل محمد" فلأنهم عيبة العلم، وموئل الحكم، وقرناء الكتاب، ونفاة الشك والارتياب، سفينة نوح من ركبها نجا، فأين يتاه بكم عن علم تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة حتى صار في عترة نبيكم المصطفى.
وأما غيرهم فلأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد جعلهم الله حملة علمهم، والواسطة بيننا وبينهم، مع أنه لا يعتبر في أخذ الحكمة أن يكون عن شخص مخصوص إذا كان معناها صحيحاً، والعقول كما قال القاسم بن إبراهيم" حظوظ منقسمة، والحكمة ضالة المؤمن.
كما روي عن علي عليه السلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها)). رواه الموفق بالله في (سلوة العارفين).
وفي النهج عن علي عليه السلام : (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق).
وفيه عنه عليه السلام : (خذ الحكمة أنى كانت فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن، على أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به).
كما قال علي عليه السلام : (اعرف الحق تعرف أهله). رواه في النهج.
وفيه أن الحارث بن حوط أتى علياً عليه السلام فقال: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة، فقال: يا حار إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه) وليس المقصود أن الناظر يقلد من سبقه من الأئمة والعلماء، وإنما المقصود الاستعانة بما فهموه من الأدلة، ونبهوا عليه من مدلولاتها، ثم يميز بعقله بين صحيحها وسقيمها، ويصير كأنه الذي فهمها واستنبطها، ولا يبعد أن هذا أمر مجمع عليه، وإلا فما فائدة تأليف الكتب، وتدوين الأقوال وتقييدها بالكتابة، ويشهد له قول أمير المؤمنين عليه السلام :(من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها). رواه في النهج.
وقد قبل كثير من العلماء رواية كافر التأويل وفاسقه، بل ادعى بعضهم الإجماع على قبولها مع تحريمه للكذب وهي أعظم من الدراية؛ لأن الحامل يستند إليها، بخلاف الدراية فإنما ينتبه لها ثم تصير دراية له إن ظهر صحة مأخذها واحتمال اللفظ لها، فهو غير مستند إلى صاحبها أصلاً.
[عدم التقيد بمذهب معين]
الأمر الرابع: أن لا يتقيد بمذهب مخصوص، بل يجعل كتاب الله حاكماً على كل مذهب؛ لأن من تقيد بمذهب واعتقد صحته قبل النظر في الأدلة عسر عليه الخروج منه، وأداه ذلك إلى تأويل الأدلة، وردها إلى ما قد اعتقد بجهله صحته، وهذا مشهور معلوم، فعليك بتجنب هذه الخصلة، واجعل نظرك كله لخلاص نفسك، وتحصيل نفعك، ولا تشغلها بتقويم كلام غيرك فتكون كما قال علي عليه السلام :(فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، و زينت له سيء أعماله). رواه في النهج.
قال العلامة ابن أبي الحديد رحمه الله: وذلك أن من لا يوفي النظر حقه، ويميل إلى الأهواء، ونصرة الأسلاف والحجاج عما ربى عليه بين الأهل والأستاذينالذين زرعوا في قلبه العقائد يكون قد شغل نفسه بغير نفسه لأنه لم ينظر لها، ولا قصد الحق من حيث هو حق، وإنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه، ويصعب عنده الانتقال منه، ويسوءه أن يرد عليه حجة تبطله، فيسهر عينه، ويتعب قلبه في تهويس تلك الحجة والقدح فيها بالغث والسمين، لا لأنه يقصد الحق، بل يقصد نصرة المذهب المعين، وتشييد دليله، لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها، والارتباك: الاختلاط، وارتبك الرجل في الأمرِ: أي نشب فيه ولم يكد يتخلص منه، ومدت له شياطينه أي: طولت، وزينت له سيء أعماله، مأخوذ من قوله تعالى:{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}[فاطر:8].
قلت: ولا تكاد تجد اختلافاً بين المحققين في ذم التمسك بمذهب مخصوص لغير دليل والتعصب له، لكن الأكثر خالفوا في العمل.