فضائل القرآن والحث على العمل به
في مسائل متفرقة لها تعلق بالمقصود
المسألة الأولى: في فضائل القرآن والحث على العمل به
للأئمة والعلماء في ذلك مؤلفات كثيرة، فمن أراد الوقوف على الحقيقة فعليه بها، إلا أنا نذكر من ذلك نكتاً على وجه التبرك والتنبيه، والترغيب والتهييج، فنقول: قد تطابق على ذلك العقل والنقل، أما العقل فلأنه لما ثبت أن الله تعالى أعظم الأشياء كان كلامه أعظم الكلام، وأما النقل فقد وصفه الله تعالى بأوصاف لا يشاركه فيها غيره، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى مفصلاً، فسماه تعالى نوراً وهدى، وموعظة وشفاءً، ورحمة وذكرى، وبياناً وتبياناً، وبصائر وفرقاناً، إلى غير ذلك من الممادح العظيمة، والأوصاف الكريمة، وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيها الناس إنكم في دار هدنة وعلى ظهر سفر، وإن السير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المقام))، فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((دار بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وصادق مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل على خير سبيل، وكتاب تفصيل وبيان وتحصيل، والفصل ليس بالهزل، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنارات الحكمة، والدليل على المعرفة لمن عرف الطريق، فليولج رجل بصره، وليبلغ الطريقة نظره، ينجو من عطب، ويتخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور بحسن تخلص وقلة تربص)). رواه أبو طالب، والإمام أحمد بن سليمان واللفظ له، وأخرج السيلقي نحوه من حديث أبي سعيد.
[شرح اللغويات]
الهدنة في الأصل: الصلح سواء كان على وجه الصحة والسكون، أم على وجه يؤدي إلى الفساد وعدم التمام، وهذا هو المراد هنا، ولهذا فسرت بالبلاء والانقطاع، شبه الاطمئنان إلى الدنيا بالصلح المبني على الغل والخيانة فإنه لا يوثق به، ولا ينبغي الغفلة عن الحزم والتيقض، كما يقال: (هدنة على دخن) أي: سكون على غل، والنشب: ما تعلق بالشيء يقال: نشب الشيء بالشيء بالكسر نشوباً إذا علق به، والرواية في أمالي أبي طالب أشب، وفي الحقائق بالنون، ولعل الأولى لغة أو تصحيف.
وعن الحارث قال: دخلت المسجد فإذا قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث قال: وقد فعلوها ؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ستكون فتنة . قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأمواء، ولا تلبس به الألسن، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته إلا أن قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور)). ورواه المرشد بالله عليه السلام وأخرجه الدارمي، والترمذي، وقد تكلم طائفة في الحارث على عادتهم في وصم شيعة أمير المؤمنين.
[توثيق الحارث ]
قال القاضي عياض: (أسيء الظن بالحارث لما عرف من مذهبه في التشيع ودعوى الوصاية لعلي عليه السلام )، وجرحه القاضي بما لا يجرح بمثله، وكلها ناشئة عن تشيعه.
قال القرطبي: (الحارث رماه الشعبي بالكذب، وليس بشيء، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره، ومن هاهنا والله أعلم كذبه الشعبي؛ لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم.
قال أبو عمر بن عبد البر: وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أحد الكذابين).
قلت: والحديث أخرجه أبو طالب عليه السلام عن معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفتنة فعظمها وشددها، فقال علي بن أبي طالب: فما المخرج منها؟ فقال: ((كتاب الله...)) وساقه بنحو حديث علي عليه السلام .
وفي البحر المحيط لأبي حيان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أراد علم الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن )).
قال في المختار: ثوَّر القرآن بحث عن علمه.
وعن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خير الناس من تعلم القرآن، وعلمه ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)). رواه المرشد بالله، وله بطريق أخرى عن علي عليه السلام مرفوعاً: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه )). وأخرجه البخاري والترمذي، وأخرجه المرشد بالله، وأحمد، وأبو داود، عن عثمان، ونسبه القرطبي إلى البخاري من رواية عثمان، وللمرشد بالله إليه طرق، وفي بعضها: ((وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)).
وعن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خياركم من تعلم القرآن وعلمه )). رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن ماجة، عن سعد بن أبي وقاص. ذكره في الجامع الصغير، وحكى العزيزي عن شيخه تصحيحه.
وفي الجامع عن ابن مسعود مرفوعاً: ((خياركم من قرأ القرآن وأقرأه غيره ))، ونسبه إلى ابن الضريس، وابن مردويه، قال العزيزي: قال الشيخ حديث حسن.
وعن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كأني قد دعيت فأجبت ، وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)). رواه علي بن موسى الرضا في الصحيفة.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا الثقلين وأحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)). رواه المرشد بالله.
وهذا -أعني حديث الثقلين- متواتر لا ينكره إلا معاند، رواه أئمة العترة وشيعتهم ومخالفوهم بطرق متعددة عن جماعة من الصحابة، ومن أراد الحقيقة طالع الأمهات، والمناقب، والمسندات، والمرسلات يجد بغيته، ويبلغ أمنيته.
وذكر الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة: تلقي الأمة له بالقبول، وأنه ظهر في الكتب المصنفة في أيام الأموية والعباسية من دون نكير فيما بينهم.
[من كلام الإمام علي في وصف القرآن]
ومن كلام علي عليه السلام بعد أن ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله: (ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وبنياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العلم وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطريق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجنة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى). رواه في نهج البلاغة.
وأقول: لو لم يكن في هذا الموضع إلا هذا الفصل العجيب لكان كافياً فيما نريده من الحث على العمل بالكتاب، والترغيب، ولنقتصر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام هنا عليه، ففيه ما يكفي من التنبيه.
[شرح اللغويات]
لا يخبو بالخاء المعجمة أي: لا ينطفيء، والأثافي: جمع إثفية الأحجار توضع عليها القدر بشكل مثلث، والغيطان: جمع غايط المطمئن من الأرض، ويغيضها بفتح حرف المضارعة من غاض وروي بالضم من أغضت الماء، والآكام: جمع أكم كجبال جمع جبل، والأكم جمع أكمة كعنبة ما علا من الأرض وهي دون الكثيب، والمحاج: جمع محجة جادة الطريق، وانتحله: دان به، والفلج: الظفر، واستلأم: لبس لامة الحرب وهي الدرع.
[من كلام الإمام زيد في وصف القرآن]
وقال زيد بن علي عليه السلام في كتاب الإيمان: (وأوصيكم أن تتخذوا كتاب الله قائداً وإماماً، وأن تكونوا له تبعاً فيما أحببتم وكرهتم، وأن تنهِمُوْا أنفسكم ورأيكم فيما لا يوافق القرآن، فإن القرآن شفاء لمن استشفى به، ونور لمن اهتدى به، ونور لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، من عمل به رشد، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن خالفه كفر، فيه نبأ من قبلكم، وخبر معادكم، وإليه منتهى أمركم، فإياكم ومشتبهات الأمور وبدعها؛ فإن كل بدعة ضلالة).
[كلام الإمام القاسم في وصف القرآن]
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (المديح الكبير للقرآن): (فكتاب الله إمام لكل مهتد من خلق الله ورشيد أعزه من الوهن والتداحض فلا يتصلان به أبداً، ومنعه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ إذ حفه بالنور والهدى، فنوره وهداه مقيمان أبداً معه، مضيئان مشرقان لمن قبله عن الله وسمعه، ساطع فيه نور شمسهما، بين هداه ونوره لملتمسهما، لا يميلان بمتبع لهما عن قصده، ولا يمنعان من طلب رشدهما عن رشده، بل يدلانه على المراشد، ويقصدان به الأمور المسعدة التي لا شقاء أبداً معها، ولا يضل أبداً من اتبعها، فرحم الله امرأً نظر فيه فرأى سعادته ورشده وهداه، فجانب شقوته وغيه ورداه، قبل أن يقول يوم القيامة مع القائلين: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] فضلال من ترك كتاب الله لايغبا إلا على من لم يهبه الله عقلاً ولباً، كتاب نزله الله الرحيم الأعلى برحمته من فوق السماوات العلى، فأقر في أرضه قراره، وبث في عباده أنواره، فنوره ظاهر لا يخفى، وضياؤه زاهر لا يطفى).
[كلام الإمام محمد بن القاسم في وصف القرآن]وقال ولده محمد بن القاسم: (وبعد: فإن الله بفضله ورحمته جعل من عظيم ما من به علينا وعليكم من نعمته ما هدانا وهداكم إليه، ودلنا ودلكم عليه من طلب حقائق الحق، حين ضل عن ذلك كثير من الخلق في تنزيل الله سبحانه وكتابه؛ إذ لا يوصل إلى حقيقة حق إلا بأسبابه، ولا يهتدى إلى صواب رشد إلا بمفاتيح أبوابه، فمن فتح الله له أبواب علم الكتاب علم حقائق البر والهدى والصواب).
[كلام الإمام الهادي في وصف القرآن]
وقال الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام : (إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً إلى الأمة بكتاب ناطق، وأمر صادق، فيه شفاء الصدور، وكمال الفرائض والأمور، والهدى والتقوى، والرجوع عن الردى، والنجاة من المهالك، والسبيل إلى أفضل المسالك، لا يضمأ من ورد شرائعه، ولا يجوع من أكل سائغه، ولا يصم من سمع واعظه، ولا يعمى من أبصر سبيله، ولا يضل من اتبع نوره، ولا يغلط من استشهد ناطقه، ولا يهلك من اتبع بيانه، ولا يندم من استمسك بوثيق عروته، ولا يفلج إلا من احتج بمحكم حججه، نور ساطع، وبرهان لامع، وحق قاطع، كتاباً مفصلاً، ونوراً وهدى، قد ترجمه الرسول، وأحكم فيه وثائق الأصول، وفرع فروعه بأحسن القول).