نعم أما من يقول: بأن قوله عليه السلام حجة كما هو المختار فإنه يحكم ببطلان ما عارضه، وأما قولكم: إن جمهور الآل على القول بالإسرار بها في النهارية، فيدفعه ما تقدم من إجماع قدمائهم على الجهر من دون تقييد كما في الجامع الكافي، وما رواه في الجامع والأمالي عن أعيانهم من القول به، وبهذا يندفع ما رجحتم به تخصيص حديث: ((صلاة النهار عجماء ...)) إلخ، ولعمري إن الاشتغال بالجمع بين هذا الحديث مع ما قد قيل فيه من القوادح وبين ما ورد في الجهر من ضياع الوقت لولا أن بعض الأصحاب قد جعله عمدة في ما ذهبوا إليه، أما أهل الحديث وعلماء النظر فلم يرفعوا إليه رأساً، ولا شغل كثير منهم به قرطاساً، وأما حديث الحكم بن عمير ومحمد بن السري العسقلاني فمن النص على بعض أفراد العام وهو لا يفيد التخصيص، ولعلهما لم يحضرا إلا فيما ذكراه من الصلوات لاشتغالهما بالزراعة ونحوها، ويدل على أنهما لم يكونا ملازمين وإنما نصا على ما كانا ملازمين لحضوره من الصلوات ذكر العسقلاني للصبح والمغرب دون العشاء وغيرها من المجهورات، على أن دلالتهما على نفي الجهر بها في العجماوين من باب المفهوم، وهو لا يقاوم المنطوق، وأما الإجماع الذي ذكره الأمير الحسين فمعارض بما في الجامع الكافي عن أهل البيت"، مع أن الخلاف في المسألة مشهور، والصواب مع ناقل الخلاف، مع أنه يمكن أنه أراد بالإجماع في ما عدا البسملة، وأما الدليل الرابع وهو أن التفصيل أحوط فطريقة الأحوطية إنما يصار إليها عند عدم المرجح وتعارض الأدلة، أما مع رجحان بعضها فالواجب المصير إليه والآية وهو: {فَبَشِّرْ عِبَادِ ...} [الزمر:18 ]إلخ، تدل عليه؛ إذ اتباع الراجح والأقوى من الأحسن، مع أن الأحوطية منتفية على مذهب القائلين بالجهر مطلقاً لما تقدم من أن في أدلتهم ما يدل على فساد صلاة من لم يجهر بها في السرية.
نعم قد سلك بعض المتأخرين طريقة أخرى في الاحتياط، وهي أنه يجهر بها في ركعة ويسر في أخرى، وهو مبني على أن قراءة الفاتحة وما يقرأ معها لا تجب إلا مرة واحدة في جملة الصلاة، فيكون قد أتى بالقدر الواجب على الوجه المشروع؛ لأنا إن فرضنا وجوب الجهر بها فقد أتى به، وإن فرضنا وجوب الإسرار فقد أتى به، وهذا هو الظاهر من عمل من يذهب إلى الجهر من علماء عصرنا، وأما ما ذكره صاحب الروض من حمل ما ورد في الجهر على إرادة إثباتها قرآناً، فجوابه أنه لا مستند له إلا فهمه من كلام المؤيد بالله ومن ذكر معه، وكونهم يوردونها في مقام الاحتجاج على كونها قرآناً، وهذا لا يفيده لأمرين:
أحدهما: أن فهمهم ليس بحجة، لا سيما مع مخالفته للظاهر.
الثاني: أن احتجاجهم بأحاديث الجهر على كونها آية لا ينافي ثبوت الجهر بها في السرية، بل تلك الأحاديث تدل على الأمرين، وقد نبهنا على أن أحاديث الجهر تدل على ثبوت قرآنيتها في المسألة الأولى، والمعتمد ظاهر الدليل، ومن ادعى خلاف الظاهر ولم يأت عليه بدليل وجب رد دعواه كائناً من كان، ولو جوزنا له دليلاً فلا تكليف علينا إلا بما علمنا، خلا أن الواجب إبلاغ الوسع في البحث عن مستندات أقوال العلماء؛ لأن مخالفتهم للظواهر تفيد أن له مستنداً ما، وبعد البحث الشديد فلم نجده، أو وجدناه وظهر لنا ضعفه يسقط عنا لوم المخالفة لأفراد منهم، إذ كل أحد مكلف بما علم، ومن الجائز أن يطلع بعض العلماء على ما يطلع عليه الآخرون، بل ذلك معلوم، واعلم أني قد بحثت أشد البحث فلم أجد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أمير المؤمنين نصاً صريحاً يدل على هذا التفصيل.
وأما ما قيل من نفي الملازمة بين قراءته لها صلى الله عليه وآله وسلم وبين الجهر فقد مر الجواب عنه، واحتمال كونهم فهموا ذلك من ثبوتها آية ممنوع لما في بعض الروايات من استنادهم إلى سماعها مع أنه خلاف الظاهر، وأما تقييد ما في الجامع الكافي من الإجماع بما في الشفاء والروضة، والقدح في صحته بخلاف الهادي عليه السلام وما روي عن بعض الآل من عدم وجوب الجهر والإسرار، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الذي في الشفاء والروضة إنما دل على إجماعهم على شرعية الجهر بها في الجهرية مع السكوت عن السرية، ومن الجائز أن لا يعلم الأميران عليهما السلام بالإجماع في السرية.
الثاني: أن الإجماع الذي روياه متأخر عما في الجامع، ومن المعلوم أن الخلاف انتشر في الأزمنة المتأخرة في المسألة، فذكرا المجمع عليه في زمانهما وصاحب الجامع الكافي متقدم، والإجماعات المروية فيه مختصة بالقدماء، لا يقال: لو كان الإجماع على ظاهره لما خالفه بعض المتأخرين؛ لأنا نقول من الجائز أن لا يبلغهم، ويؤيد هذا أن الجامع كان في الزمن الأول غير مشهور في جهات الزيدية من أرض اليمن وغيرها، وإنما كان ظهوره بالعراق، وبين العراق وسائر جهات الزيدية موانع من الاتصال من البعد، وخوف السلاطين والأمراء وغيرهم، ويجوز أن يبلغهم من طريق غير صحيحة، ويجوز أيضاً أن يفهموا منه مثلما فهمه صاحب الروض، وأما ما ذكر من خلاف الهادي عليه السلام ففيه نظر مع روايته لما تقدم من العموم، وقد سلف حكاية السيد عماد الدين عليه السلام موافقة الهادي لما روي، وأما من لا يوجب الجهر والإسرار في القراءة من العترة" فيمكن حمله على غير البسملة، أو أن خلافهم متأخر، وعذرهم في المخالفة ما تقدم، وكذا إن صح خلاف الهادي عليه السلام فهو متأخر، والعذر ما ذكرنا.
قلت: ويدل على صحة ما في الجامع الكافي من إجماع أهل البيت"، وأنه على ظاهره في تناول جميع الصلوات أن البيهقي قد روى إجماع أهل البيت" على الجهر بالبسملة حكاه عن أبي جعفر الهاشمي، ثم حكى عن الشيعة الجهر بها في السرية والجهرية، واسم التشيع عندهم يتناول كل من قدم الوصي على الثلاثة في الفضيلة والإمامة، ولا شك أن أهل البيت يقدمونه فيهما، فيستفاد من مجموع كلامه أن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجمعون على الجهر بها مطلقاً، وبه يتضح أن ما في الجامع على ظاهره، وأما حمل الآية التي ذكرها الرازي على مطلق الذكر، فيدفعه ما ذكر في تفسيرها من أنهم كانوا يجتمعون بعد الموسم فيذكرون مفاخر آبائهم بالأشعار وغيرها، ومعلوم أنهم لا يجتمعون لهذا من دون إظهاره على رؤوس الأشهاد، وإعلانه للحاضر والباد، وقد أمر الله بأن يكون ذكره كذكر آبائهم، وهو يفيد الافتخار به وإعلانه، على أن الاحتجاج بالآية غير معتمد، إلا أنه يفيد ظهور النكتة والسر في تخصيصها بالجهر كما مر، وأما ما في البحر عن علي عليه السلام من القول بالتفصيل فلم أجده في كتب الحديث بعد البحث، ولعل أحد العلماء استنبطه له. والله أعلم.
وبقي الكلام على ما روي عن الحكم، وابن أبي ليلى من استواء الجهر والإسرار، وهذا القول قد حكاه في الروض عن إسحاق، وفي هامشه عن السيد محمد بن إسماعيل الأمير، واحتج لهم في الروض بأنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا وهذا، ولا تعارض في الفعل كما علم في الأصول فيحصل الاقتداء بكل من الفعلين، ولهذا اختلفت أفعال السلف فيهما.
قال (ابن حبان): وهذا عندي من الاختلاف المباح والجهر أحب إلي، وقال ابن القيم في الهدي: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة، ويخفيها أكثر مما جهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً حضراً وسفراً ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح.
والجواب: أما قولهم: قد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا وهذا، فغير مسلم، فإنه لا مستند لثبوت الإسرار إلا حديث أنس، وابن المغفل وقد عرفت ما فيهما، وأما قولهم لا تعارض في الفعل، فمسلم لكنا نقول: قد صح الجهر بها قولاً وفعلاً، لكنهم لا يعدون ما رواه أهل بيت التطهير شيئاً مذكوراً، وأما قول صاحب الهدي أن الإخفاء كان أكثر، فممنوع لما مر مما يفيد ملازمة الجهر، وما استند إليه من استبعاد ملازمة الجهر بها مع خفائها على من ذكر، فنقول: لم تخف عليهم، وقد صح عنهم روايتها مرفوعة وموقوفة، مبينة لا إجمال فيها، وإن كان في شيء منها إجمال فقد زال إجماله بما روي من البيان، وقد استوفينا ذلك أو أكثره، فلا يغرك بزخرف قوله، وأما قوله إن الصريح غير صحيح، فمبني على قاعدتهم في تضعيف ما رواه آل محمد وشيعتهم"، وإلا فذلك الصريح صحيح رواه أئمة الهدى القاسم بن إبراهيم، والهادي إلى الحق، ومحمد بن منصور وغيرهم، وقد أسلفنا لك تصحيح حديث علي وعمار وغيره من غير طريق أهل البيت"، لكنهم يبالغون في رد أدلة ما اشتهر عن أهل البيت ولو طابق قواعد التصحيح عندهم، ولا عجب فإنهم نشأوا على النصب والمجانبة لمن أمروا باتباعهم وتلقاه خلفهم عن سلفهم، إنما العجب كل العجب ممن نشأ بين أئمة أهل البيت"، وعرف علماءهم، وقرأ كتبهم، وتربى على أيديهم، ثم أخذ في عيب علمائهم، وتضعيف أدلتهم، وتشييد أقوال معانديهم، واتباع ما يزخرفه ابن القيم وأضرابه مما يفيد الغض في جانب آل محمد، مع أنهم لو نظروا في كلامه وكلام أضرابه لوجدوه أوهن من نسج العنكبوت، انظر إلى ما حكينا عنه وعن غيره في هذا الموضع كيف اشتمل على دعوى أن كون الخلفاء، وجمهور الصحابة كانوا يسرون بالبسملة أمر معلوم مسلم عند الخصوم؛ ليبني عليه ذلك الاستبعاد الموهوم، فلما بحثنا ونظرنا وجدنا هذه الدعوى لا أصل لها ولا مستند، بل الأمر المعلوم بخلافها كما تقدم ذلك عن جمهور السلف برواية
الموالف والمخالف، ولا أدري أين ابن القيم وأتباعه عن ما تقدم من أن رواة الجهر فوق عشرين صحابياً، وقد ذكر الإمام القاسم بن محمد عليه السلام أنه لم يرو الإسرار إلا أنس وابن المغفل.
وحكى في الروض عن بعضهم أنه لم يرو أحاديث النفي إلا سبعة من الصحابة، قال: وقد تقدم عدم صحة الاستدلال بكل منها.
قلت: وبهذا يظهر لك بطلان قوله إنه كان يخفيها أكثر مما يجهر بها، وأن الاستبعاد المتضمن لإطباق الخلفاء وجمهور الصحابة على الإسرار دعوى كاذبة.
واعلم أن صاحب شرح منظومة الهدي قد تبع ابن القيم في المجازفة في الدعوى، فإنه قال: والأظهر والله أعلم ضعف هذا القول يعني القول بالجهر مطلقاً لضعف دليله؛ إذ العموم غير منتهض فقد صح تخصيصه ببعض الصلاة بما لا يمكن دفعه، وفعل علي عليه السلام ومن ذكر معه إن صح فهو محمول على وقوع ذلك منهم نادراً، كما ورد من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمعهم بعض الآيات في الصلاة السرية أحياناً، وبيان المجازفة أنه ادعى صحة تخصيص الجهر ببعض الصلوات بما لا يمكن دفعه، وقد بحثنا وأتينا على أدلة المختلفين في المسألة أجمع إلا ما لعله شذ عنا ولا أظنه ولم نجد هذا المخصص الذي ادعاه لا من طريق صحيحة، ولا من طريق ضعيفة، فإن أراد به ما ذكره أهل القول بالتفصيل فقد عرفت ضعفه وإمكان دفعه، وإن أراد غيره فهلا بينه فلا عطر بعد عروس، وعند التحقيق أنه لا مخصص كما ادعاه، لكن قد تبع في التهويل وتنميق العبارة ابن القيم، لكن لا ينبغي إرسال اللسان في مثل هذه المواضع التي هي موضوعة لبيان أحكام الله تعالى لئلا يؤدي ذلك إلى التقول على الله بما لا يعلمه القائل.
وأما تأويله لكلام علي عليه السلام فلا وجه له، لا سيما وذلك مشهور عنه، ولذا صار الجهر بها شعار الشيعة.
قال (البيهقي): ذهبت الشيعة إلى أن السنة هي الجهر بالتسمية سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه.
قلت: نسبة الخلاف إلى جمهور الفقهاء يفيد أن منهم من يوافق الشيعة، وقد صرح الرازي بأن هذا مذهب علي عليه السلام فقال بعد كلام ذكره: ولهذا السبب نقل أن علياً رضى الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات قال: وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي، راسخة في عقلي، لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين، أقول: لله العلماء الفحول الذين لا تستخفهم زخارف الأقوال، ولا تستهوي عقولهم الرجال، وقال الرازي بعد أن ذكر ترجيح هذا المذهب بموافقته للدلائل العقلية، وكونه مذهب علي عليه السلام ما لفظه: ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
تنبيه [تفسير مقتضى قول القائلين بالجهر بالبسملة]
في عبارات بعض القائلين بالجهر تصريح بوجوبه، وفي عبارات بعضهم ما يقتضي عدم الوجوب وأنه مشروع على جهة السنة، وبعضهم كلامه محتمل للأمرين، فممن صرح بالوجوب القاسم بن محمد، والإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي، وولده فخر الإسلام، ورواه عن علي عليه السلام وزيد بن علي وعلي بن موسى، وهو ظاهر ما في الجامع الكافي عن السلف؛ لأنه ترجم المسألة بمسألة وجوب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وعن عكرمة أنه كان لا يصلي خلف من لم يجهر بها، وعن أبي جعفر الهاشمي مثله.
قلت: والقول بالوجوب هو الظاهر لحديث: ((من لم يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم فقد أخدج صلاته )) إذ وصفها بالخداج يدل على فسادها بترك الجهر وهو معنى الوجوب، وقد نص الهادي عليه السلام على أن الخداج النقصان قال: وما لم يتم فهو باطل، وكلام أهل اللغة في تفسير الخداج يقتضي ذلك، وظاهر كلام الرازي وما حكاه البيهقي عن الشيعة أنه سنة، فعلى هذا لا تفسد بتركه.
قلت: والذي يظهر أن لفظ السنة غير صريح في نفي الوجوب؛ إذ يحتمل أن المراد بالسنة سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء لا المعنى المصطلح عليه، وهو ما قابل الواجب، هذا وأما سائر من نقل عنه الجهر فهو يحتمل الوجوب وعدمه لعدم التصريح، وأما القائلون بالإسرار فحكى في الروض النضير عنهم أنهم لا يقولون بفساد صلاة من جهر بها، وهذا يقتضي عدم وجوب الإسرار عندهم، وكذلك القائلون بعدم وجوب الجهر والإسرار في القراءة من أئمة العترة، فإن ظاهر كلامهم عدم الوجوب في الكل وإن كان يحتمل تخصيص البسملة، وأما القائلون بالتفصيل فقد نص على وجوب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة الأمير الحسين في الشفاء، وحكاه عن آبائه أئمة الحجاز".
وفي البحر عن الهادي والمرتضى أن الصلاة تفسد بترك الجهر والمخافتة حيث يجب، وفي الروض أن القائل بالتفصيل يقول: لا تصح صلاة من لا يجهر بها في الجهرية ويسر بها في السرية، ووجهه أنها من الفاتحة والجهر بالفاتحة في موضعه واجب، وتفسد الصلاة بتركه، وكذلك الإسرار كما سيأتي إن شاء الله.