الحجة الثانية: [قراءة النبي صلى الله عليه]
ما تقدم من قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة مع الفاتحة وغيرها، وهو يستلزم الجهر؛ لأن الطريق إلى نقله هو السماع وما يسمع فهو مجهور به.

الحجة الثالثة: [إجماع أهل البيت]
ما رواه في الجامع الكافي من إجماع العترة" على الجهر بها في السورتين، ولم يقيده بالجهرية.

الحجة الرابعة: [الاعلان بها]
أن البسملة ثناء على الله تعالى وذكر له بالتعظيم، فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}[البقرة:200]، ومعلوم أن المفتخر بأبيه والمعظم له يعلن بذكره والثناء عليه، فوجب أن يكون الإعلان بذكر الله أولى عملاً بالآية، ذكر معنى هذا الرازي.

[أدلة القائلين بالإسرار بالبسملة]
احتج القائلون بالإسرار مطلقاً بما في بعض ألفاظ حديث أنس: فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وفي بعضها: فكانوا لا يجهرون، وفي بعضها: كانوا يسرون، وبحديث ابن المغفل وقد مر، وبما روي عن علي عليه السلام من الإسرار بها مطلقاً، ومثله عن ابن عباس وابن الزبير، وروي عن عمر.
قال (ابن عبد البر) من وجوه ليست بالقائمة- أنه قال: يخفي الإمام أربعاً: التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، وربنا لك الحمد.
وروى علقمة، عن الأسود، عن عبد الله بن مسعود قال: ثلاث يخفيهن الإمام: الاستعاذة، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين .
وعن الأسود صليت خلف عمر سبعين صلاة فلم يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة وكان أهل مكة يدعون مسيلمة الرحمن فقالوا: إن محمداً يدعو إلى إله اليمامة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإخفائها فما جهر بها حتى مات.
وأخرج الطبراني من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم هزئ منه المشركون وقالوا: محمد يذكر إله اليمامة وكان مسيلمة يتسمى الرحمن، فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجهر بها. ذكره في الدر المنثور، والآية المشار إليها قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110 ]كما في رواية القرطبي.

قال: وقد روي عن سعيد بن جبير قال: كان المشركون يحضرون المسجد فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: هذا محمد يذكر إله اليمامة -يعنون مسيلمة- فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110].
قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.
ومن حججهم ما استنبطه بعض الفقهاء من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}[الأعراف:205]، وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }[الأعراف:55]، والبسملة من ذكر الله فوجب إخفاؤها، وأجابوا عما ورد في ثبوت الجهر بها أنه ينقسم إلى ما قيد بكونه في الصلاة، وإلى ما ورد مطلقاً عن التقييد بها، فالأول لا ينتهض الاحتجاج به، ولذا قال الدارقطني: إنه لم يصح في الجهر بها حديث، والثاني لا يفيد المطلوب لأنه لا نزاع في الجهر بها خارج الصلاة، وأما الأحاديث الواردة في قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة فلا نسلم أنها تستلزم الجهر بها لجواز أن تكون الطريق إلى ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بها في الصلاة فلا ملازمة، وأما ما ذكر من إجماع العترة" فلعلهم ينفون حجيته، أو ينفون صحته، إما لكون رواته من الشيعة، أو لتشتتهم في الأقطار بحيث لا يمكن الاطلاع على قول كل واحد منهم، أو نحو ذلك.
وأما الحجة الرابعة، فمعارضة بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ }[الأعراف:205].

والجواب: أما ما رواه أنس وابن المغفل فقد تقدم الكلام عليه، وأن أنساً تلون في روايته واضطرب فيها اضطراباً يسقط معه الاحتجاج بحديثه، وقال الخازن: لم يرد في صريح الإسرار بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا روايتان، إحداهما: ضعيفة، وهي رواية عبد الله بن مغفل، والأخرى عن أنس وهي في الصحيح، وهي معللة بما يوجب سقوط الاحتجاج بها.
قلت: ولعله أراد بالصراحة باعتبار ما ورد في بعض روايات أنس من إثبات الإسرار بها ونفي الجهر، وما في قول ابن المغفل لابنه فلا تقلها، وإلا فالصراحة في بعض ألفاظ حديث أنس منتفية لاحتمال عدم السماع، وكذلك ابن المغفل فإنه لم يصرح إلا بعدم السماع، فتأمل.
ومما يدل على اضطراب أنس في روايته وتلونه ما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة قال: سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، فقلت: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في النعلين؟ قال: نعم مع أن ما تقدم عنه من ثبوت الجهر بها يعارض ما روي عنه من نفيها، والإثبات مقدم على النفي، لا سيما مع ما في رواية النفي من الاحتمال، سلمنا عدم ترجيح رواية الإثبات فحينئذٍ يبقى التعارض بين ما رواه، ويتعين الرجوع إلى غيره من الأدلة.
قال (الرازي) بعد أن ذكر اختلاف الروايات عن أنس ما لفظه: فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل قال: وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام ، فلعل أنساً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه.

قال (سعد الدين التفتازاني): أما حديث الجهر بالبسملة فهو عندهم من قبيل المشهور، حتى أن أهل المدينة احتجوا على مثل معاوية وردوه على ترك الجهر بالبسملة، وهو مروي عن أبي هريرة، وعن أنس إلا أنه -يعني أنساً- اضطربت رواياته فيه بسبب أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر، وحاول معاوية وبنو أمية محو آثاره فبالغوا على الترك فخاف أنس. ذكره في التلويح.
قال (الرازي): ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي عليه السلام أولى، قال: وهذا جواب قاطع في المسألة، ثم قال: هب أنه وقع التعارض بين دلائلكم ودلائلنا إلا أن الترجيح معنا، ثم ذكر وجوهاً من الترجيح: منها أن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبا هريرة كانوا أكثر علماً وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنس وابن المغفل، ومنها أن من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقدم الأكابر والعلماء والأشراف على غيرهم، ولا شك أن علياً عليه السلام وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل، قال: والغالب على الظن أن علياً، وابن عباس، وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أنس وابن المغفل يقفان بالبعد منه، وأيضاً أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يبالغ في الجهر امتثالاً لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110] وأيضاً فإن الإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف، ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة، قال: فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن أنساً وابن المغفل ما سمعاه.

قلت: ولعل ما ذكره هو السبب في الاختلاف في الجهر بها فإن من لم يسمعها لبعد أو ضعف صوت، أو رجة أصوات الناس بالتكبير ظن عدم ثبوت الجهر بها، أو عدم قراءتها، لا سيما من لم يكن له رتبة تقتضي تقديمه ولو في بعض الأحوال، فإنه استمر على ذلك، ولذا لا تجد أكثر رواة النفي والإسرار إلا من أصاغر الصحابة الذين لا مقام لهم إلا في مواضع البعد التي ينتفي فيها السماع لأحد تلك الأسباب، ولعل ظهور هذا المذهب من الأصاغر هو الحامل لأمير المؤمنين على المبالغة في الجهر بها حتى اشتهر عنه، وما رواه هؤلاء النافون جعله بنو أمية ذريعة إلى محو ما اشتهر عن علي عليه السلام من الجهر بها؛ لأنه لما جعل المبالغة لأجل الرد على النافين، فكأنها منقبة له خاصة، وهم قد صرفوا هممهم إلى إخفاء مناقبه وإطفاء أنواره، لا جرم بالغوا في تشييد أقوال أولئك الأصاغر وتقويتها {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32].
وقد ذكر الأمير الحسين في الشفاء، وأبو الحسين في (المعتمد) أن السبب في عدم نقل الجهر بالبسملة على حد نقل الفاتحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرؤها في حال رجة الناس بتكبيرة الإحرام، وهذا أمر مشاهد.
حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعاً وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال: وكان صيتاً يملأ صوته الجامع، فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم: يجهر، وقال بعضهم: يخفت، هذا وقد تأول الرزاي نفي الجهر في حديث أنس وابن مغفل على نفي المبالغة في رفع الصوت كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ...} [الإسراء:110]الآية.

وأما ما رووه عن علي عليه السلام من الإسرار بها فما تقدم عنه من رواية الموالف والمخالف يدفعها، على أنها ليست صريحة، وإنما روي عنه عليه السلام أنه كان لا يجهر بها كما أخرجه عبد الرزاق والمحاربي، وقد ذكر روايتهما ابن عبد البر، وهي محمولة على أن الراوي لم يسمع لبعد أو نحوه، وقد نص على تواتر الجهر عنه عليه السلام البيهقي.
وأما ما روي عن ابن عباس وابن الزبير فقد تقدم عنهما ما هو أرجح سنداً، وأكثر طرقاً مما يدل على قولهما بالجهر، على أن قول ابن عباس إن الجهر قراءة الأعراب ليس صريحاً في ترجيح الإسرار بها لاحتمال أنه أراد أن الجهر بها قراءة من بقي على الفطرة، ولم تلابسه الأهواء، والتقرب إلى السلاطين، وأكثر من بقي على هذه الصفة في دولة الأموية الأعراب الذين لا جاه لهم عند السلطان ولا منزلة لهم لديه، ولا تحدثهم نفوسهم بطلب ذلك منه، فيتقربون إليه بما يطابق غرضه من وصم البريء، وتنقيص الكامل، ولا معرفة لهم بمذاهب الناس واختلاف أهوائهم فيكون تعريضاً بغيرهم، وأما ما روي عن عمر فقد عرفت ضعفه وعدم مقاومته لما روي عنه من الجهر، على أن أقوال الصحابة ومذاهبهم ليست حجة إلا أمير المؤمنين عليه السلام ، وبهذا يجاب عما روي عن ابن مسعود وغيره.
وأما حديث سعيد بن جبير وابن عباس في الأمر بترك الجهر بها عند استهزاء المشركين، وأنه استمر ذلك إلى أن مات صلى الله عليه وآله وسلم ، فمعارض بما روي عنهما من شرعية الجهر بها، ومن البعيد مخالفتهما لما روياه مرفوعاً، وبهذا يظهر لك أن زيادة ولم يجهر بها حتى مات غير صحيحة.

وقد تقدم الحديث من رواية الحازمي ولم يذكر النهي عن الجهر بها، ورواه في الاعتصام عن مجمع الزوائد ولم يذكره أيضاً، ولفظه: عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم هزئ منه المشركون وقالوا: محمد يذكر إله اليمامة. قال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ولو سلم صحت الرواية التي ذكرها الخصم فليست صريحة في المقصود لاحتمال عدم السماع لأحد الأسباب السابقة، أو أن المراد بالآية النهي عن المبالغة في الجهر بها، وهذا هو الذي تقتضيه الآية إذ نهي عن الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط، ولا توسط يقدر إلا عدم المبالغة، وإلا لم يكن لقوله: {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110].
[فائدة] بل يلزم على كلامهم المناقضة بين أول الآية وآخرها، ويدل على صحة هذا التأويل رواية النيسابوري للحديث ولفظه: عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون: يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فيسمع المشركون فيهزأون به {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110] عن أصحابك فلا تسمعهم أي: بل يسمعهم، وهذا نص فيما ذهبنا إليه، وبه تصير الآية حجة في الجهر.
وأما قول الترمذي الحكيم، فمبني على صحة تلك الرواية، وقد عرفت ما فيها، ولو سلمنا صحتها فلا نسلم له الاستمرار، مع ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أمير المؤمنين، وعن أكابر الصحابة والتابعين وغيرهم، ولو لم يكن إلا عمل أمير المؤمنين الذي قد أخبر النبي بأنه المبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعده، وأنه مع الحق والحق معه، وأمر بالأخذ بحجزته.

39 / 329
ع
En
A+
A-