الوجه الثالث: أن المراد عدد ماهو خاصة السورة؛ لأن البسملة كالشيء المشترك فيه، وكذا الجواب عما روي عن أبي هريرة أن سورة الكوثر ثلاث آيات.
احتجوا ثالثاً بما ذكره القرطبي في تفسيره، وهو أن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط بسم الله الرحمن الرحيم اتباعاً للسنة.
والجواب: أن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن وصيه، وعن الصحابة من المهاجرين والأنصار، وما تقدم من إنكارهم على معاوية تركها يدفع هذه الحجة، وينادي على موردها بالجهل، أو عدم الإنصاف والقصد إلى الحق من أينما ورد، والذي يظهر أن كثيراً من أتباع الفقهاء يتشبث في تقويم مذهب إمامه بالحجر والمدر، ولا يبالي إذا قد تزخرفت له العبارة، واستقامت له الكلمة عند أغمار الناس وجهالهم ظهر من عيبه ونقصه عند علماء الدين من أهل البحث والنظر. فلا قوة إلا بالله.
احتج أهل القول الثالث وهم القائلون بأنها آية فذة مستقلة لا مائة وثلاثة عشر آية بأن إثباتها في المصحف من غير إنكار يدل على كونها قرآناً، قالوا ولم تقم حجة على كونها آية من أول كل سورة، واحتجوا أيضاً بما في بعض الروايات من نزولها للفصل بين السور.
والجواب: أن الحجة قد قامت على كونها آية من أول كل سورة، وقد بيناها بياناً شافياً.
حجة القول الرابع: تظاهر الأخبار بكونها من الفاتحة، وقيام الدليل على كونها قرآناً في سائر السور، وهو إثباتها في المصحف، ولم يقم دليل على كونها جزءاً من السور أولا، ولا على كونها آية تامة أم لا.
وحجة القول الخامس: كهذه الحجة إلا أنهم أثبتوها بعض آية في سائر السور لعدم الدليل على تمامها، ومثلهاحجة القول السادس إذ لم ينتهض عندهم الدليل على تمامها في الفاتحة كسائر السور.
وأما حجة القول السابع: فهي أنه قد قام الدليل على كونها آية أنزلت مع كل سورة فوجب تعددها بتعدد السور التي أنزلت معها، ولم يقم دليل على كونها جزءاً من تلك السور.
وحجة القول الثامن: ما ورد من تكثر الأخبار بكونها من الفاتحة، ولا دليل في غيرها يجب العمل به.
وأما حجة القول التاسع والقول العاشر فمأخوذة مما ذكرنا.
والجواب عليهم جميعاً ما تقدم من قيام الحجة على ثبوتها آ ية كاملة من أول كل سورة أثبتت فيها، وأنها آية منها.
فرع [في ذكر خلاف العلماء في هذه المسألة]
واختلاف العلماء في كون هذه المسألة قطعية أم لا، فظاهر كلام أئمتنا" أنها قطعية؛ لأنهم يشترطون التواتر في ثبوت القرآن العظيم، ولذا منعوا من القراءة بالشواذ، وحجتهم على ذلك أن القرآن مما تتوفر الدواعي إلى نقله، ولأن الظني لا ينفى عنه الريب، وقد قال تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ }[لبقرة: 1] وهذا أحد وجهي أصحاب الشافعي، وهو قول القاضي أبي بكر.
قال: والخطأ فيها إن لم يبلغ الكفر فلا أقل من الفسق.
وقيل: بل هي ظنية بمعنى أن ثبوت قرآنيتها ليس إلا على سبيل الحكم.
قالوا: والتواتر إنما يشترط فيما كان قرآناً على سبيل القطع، فأما ما ثبت قرآناً على سبيل الحكم فلا كالبسملة، وهذا أحد وجهين لأصحاب الشافعي حكاهما المازري وغيره، ومعنى سبيل الحكم أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة، ولا يكون قارئاً لسورة كاملة إلا إذا أتى بها في أولها، ولعل هذا قول جمهور الشافعية، بل قال بعضهم في الوجه الأول هو غباوة من قائله لأن ادعاء العلم حيث لا قاطع محال.
وقال الرازي: الذي عندي أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه مثبت في المصحف بخط القرآن، وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا إنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة، إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن، مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا، وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا، وهل يجوز للمحدث مسها أم لا، ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية، فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمورٌ اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي.
قلت: وكلام الرازي هذا ساقط؛ إذ يلزم منه صحة كون جميع القرآن أحادياً؛ لأن هذه الأحكام كما قال خواص للقرآن كله، ثم إنه لا يلزم من ثبوت الأحكام الاجتهادية لبعض ما يشترط فيه القطع وتوقفها على ثبوته أن تصير تلك القطعيات ظنية؛ إذ علة قطعيتها كونها مما تتوفر الدواعي إلى نقلها، وليس كذلك الأحكام الثابتة لها، مع أن قوله إنه لم يبق لقولنا إنها من القرآن أو لا فائدة إلا ثبوت تلك الأحكام غير مسلم، فإن له فائدة غير ذلك لا تصح إلا مع القطع، وهي اعتقاد القرآنية.
فرع [الخلاف في هذه المسألة لا يستلزم كفراً]
وعلى القول بأنها قطعية فلا يكفر من أثبتها، ولا من نفاها لأجل اختلاف العلماء فيها، وقوة الشبهة من الجانبين، وقد روى غير واحد إجماع الأمة على ذلك، وظاهر ما تقدم أن الخلاف فيها كان في أيام الصحابة، ولم ينقل تكفير بعضهم بعضاً بخلاف ما لو نُفيَ حرفاً مجمعاً عليه، أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالإجماع.
فائدة [في أنه لا خلاف بين الفقهاء في قراءتها في أول كل سورة]
لا خلاف بين القراء السبعة في تلاوتها في أول فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا سورة التوبة، وأما في أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير، وقالون، وعاصم، والكسائي من القراء في أول كل سورة غير براءة، وحذفها منهم أبو عمرو، وحمزة، وورش، وابن عامر، ولا خلاف بينهم في جواز البسملة في الابتداء بأواسط السور، وإنما اختلفوا في المختار فاختارها جمهورالعراقيين، واختار تركها جمهور المغاربة، وقيل: إن قرأ بقراءة من يأتي بها بين السورتين كقالون أتى بها وإلا فلا.
وفي (البحر) و(الانتصار) عن القراء أنهم لا يسمون لأوساط السور، واختاره الإمام يحيى للفرق بين أوائل السور وغيرها، ولقول الصحابة: ما كنا نفرق بين أوائل السور إلا بالبسملة، ونسب في البحر القول باختيار التسمية إلى المرتضى وهو المصحح للمذهب، ونسبه في الانتصار إلى العترة والفقهاء، والأصح أن القراء مختلفون كما حققناه عن الكتب الموضوعة لقواعدهم.
نعم أما لو قرأ من وسط السورة في الصلاة، فقال (المقبلي): التصرف في الصلاة وغيرها من العبادات يحتاج إلى دليل وإلا منع، وليس لك إدخاله تحت حديث: ((كل أمر ذي بال )) لأنه يلزم في كل نوع من الأذكار، والأدعية في الصلاة، والشيء المركب من أنواع إنما البداية لأوله، على أن بعض روايات هذا الحديث بذكر الله عز وجل، والقرآن ذكر، ويجري ما ذكرنا في الاستعاذة، نعم ابتداء القراءة الخارجة عن الصلاة يصدق فيها: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ...} [النحل:98] إلخ.
قلت: و(أهل المذهب) ومن قال بقولهم لا يفرقون بين القراءة في الصلاة وغيرها، ولذا رد عليهم المقبلي فيما يتعلق بالصلاة.
واختلف في أوساط براءة، فقال (السخاوي): هي كسائر السور، ومنعه الجعبري اعتباراً ببقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة من أولها، وهي نزولها بالسيف، واختاره الشاطبي.
قال (الشوكاني): ولا خلاف في إثباتها خطاً في أوائل السور في المصحف إلا في سورة التوبة.
وحكى (الرازي) في تفسيره أن القائلين بأنها ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل اختلفوا، فمنهم من قال: هذا الفصل قد صار الآن معلوماً فلا حاجة إلى إثباتها، قال: فعلى هذا لو لم تكتب لجاز، ومنهم من قال: لا يجوز تركها.
المسألة الثانية: في قراءة البسملة في الصلاة
ذهب الأكثر إلى وجوب قراءتها مع الفاتحة لما تقدم من أنها آية منها، ولما سيأتي من الأحاديث القاضية بثبوت قراءتها معها، وسيأتي أيضاً أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة، وذهبت طائفة إلى أنه لا يقرأ بها سراً ولا جهراً منهم الأوزاعي، وعبد الله بن معبد الزماني ونسبه في (نيل الأوطار) إلى القائلين بأنها ليست من القرآن، ورواه فيه عن عمر، وروى القرطبي عن مالك أنه لا يقرأ بها في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً، ويجوز أن يقرأ بها في النوافل، قال: هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه، وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن، وعنه ابتدأ القراءة بها في الفرض والنفل ولا تترك بحال، وفي (الروض النظير) عن مالك أن المصلي إذا قام في شهر رمضان استفتح السورة بالبسملة ولا يستفتح بها في أم القرآن، احتج هؤلاء على نفي قراءتها بحديث أنس، وعائشة، وابن المغفل، وما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نهض في الركعة الثانية استفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين.
والجواب: أن هذه الأحاديث قد تقدم الجواب عنها بالمعارضة لما هو أقوى منها وأصرح، وحديث أبي هريرة يؤخذ تأويله مما تقدم من احتمال عدم السماع، أو أنه جعل قوله: الحمد لله رب العالمين اسماً للسورة، وأما ما ذكر عن مالك من التفاصيل فلعلها تؤخذ أدلتها والجواب عنها من أدلة سائر الأقوال، وما أجيب عنها وإلا فعدم الدليل كاف في إبطالها.
وأما القائلون بوجوب قراءتها فاختلفوا في الجهر والإسرار بها على أقوال، وبعضهم اختلفت الرواية عنه، فذهب إلى شرعية الجهر بها في الصلاة الجهرية والسرية الإمام القاسم بن محمد، والشرفي، والإمام الحسن بن يحيى القاسمي وولده علامة العصر عبد الله بن الإمام، ورواه عن زيد بن علي، وعلي بن موسى، وحكاه في نيل الأوطار عن جماعة من أهل البيت"، وهو الظاهر من مذهب بعض علماء العصر، وقواه الرازي، ورواه عن علي عليه السلام .
قلت: وهو المشهور عنه عليه السلام لما سيأتي من الروايات الكثيرة عنه بذلك، ويؤيد شهرته عنه أن القول بالجهر بها مطلقاً مذهب الشيعة حكاه عنهم البيهقي.
وقال السيد (عماد الدين): هو مذهب الأئمة: زيد، والهادي، ومحمد بن منصور، وقد روي الجهر بها مطلقاً عن التقييد بجهرية أو سرية عن جماعة من سلف العترة" وغيرهم، فرواه في الجامع الكافي عن علي عليه السلام والحسن بن علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وزيد بن علي، وعبد الله بن الحسن، وولديه محمد وإبراهيم وجعفر بن محمد، وعمر بن علي بن الحسين، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله"، وعن أبي بكر، وعمر، وعمار، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير، وأبي عبد الله الجزلي، وابن معقل، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد والزهري، وأبي عاصم النبيل، وروى ذلك في العلوم عن أكثر المذكورين بأسانيده، ورواه عن أصحاب علي عليه السلام ، وقال في الروض، ونيل الأوطار: وذكره الخطيب أي الجهر عن أبي بكر وعثمان، وأبي بن كعب، وأبي قتادة، وأبي سعيد، وأنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وشداد بن أوس، وعبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، ومعاوية.
قال الخطيب: وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا، وأوسع من أن يحصروا، منهم: سعيد بن المسيب، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، وأبو وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وعكرمة، وعلي بن الحسين وابنه محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن المنكدر، وأبو بكر بن محمد بن عمر وابن حزم، ومحمد بن كعب، ونافع مولى ابن عمر، وأبو الشعثاء، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول وحبيب بن أبي ثابت، والزهري وأبو قلابة، وعلي بن عبد الله بن العباس وابنه، والأزرق بن قيس، وعبد الله بن معقل بن مقرن.
وممن بعد التابعين: عبيد الله العمري، والحسن بن زيد، وزيد بن علي، ومحمد بن عمر بن علي، وابن أبي ذؤيب، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وزاد البيهقي من التابعين: عبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية، وسليمان التيمي، ومن تابعيهم المعتمر بن سليمان، وفي الروض أن أبا عمر زاد عمرة وابن دينار، وابن جريج، ومسلم بن خالد الزنجي، وسائر أهل مكة، وفي النيل أنه محكي عن ابن المبارك وأبي ثور، وفيه أن ابن وهب كان يقول بالجهر ثم رجع عنه إلى الإسرار، وزاد الخازن من القائلين بالجهر زيد بن أسلم، قال: وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك.
وذهب جمع إلى الإسرار بها مع الفاتحة، وظاهر الرواية عنهم الإطلاق أعني في السرية والجهرية، وممن ذهب إلى ذلك من الفقهاء أحمد، وأبو حنيفة رواه عنهما الرازي وغيره، ورواه بعضهم عن الحكم وحماد، وإسحاق، والثوري، وأبي عبيد والحسن، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأعمش والأوزاعي، وحكاه في البحر وتفسير الخازن عن مالك، وهو مروي عن علي عليه السلام والباقر، وأبي بكر وعمر وعثمان، وابن عباس، وابن مسعود، وعمار، وابن الزبير، وابن مغفل، وابن سيرين، وحكاه في الروض عن أكثر أصحاب الحديث، وفي النيل: أن ابن سيد الناس حكاه في شرح الترمذي عن علماء الكوفة ومن شايعهم، ورواه الترمذي والحازمي عن أكثر أهل العلم.