قال العلامة المقبلي: وما أظن أصل الخلاف إلا أنه وقع في خلد أفراد حين رأوها في أول كل سورة، أنها كسائر الكلام وغيره مما يبدأ فيه ذكر الله جل وعلى حين رأوها في أول كل سورة آية واحدة متكررة، ثم تكلموا في ذلك بناءً على ذلك التوهم إلى أن صار جدالاً كغيره يقود إليه المغالط والأوهام، ثم جاء المتكلمون بقولهم: ما توفرت الدواعي عليه لزم تواتر نقله، ولو تواترت البسملة لما اختلف فيها، فليست بمتواترة فليست بقرآن، كما سلكوا هذه الطريقة في قسمتهم ما صح نقله إلى ما سموه شاذاً ومتواتراً، وقد نازعناهم في هذه المقدمات في غير هذا الموضع، بل اللازم تواتر الجملة، وجمهور التفاصيل، وقد تواترت بحمد الله أكثر مما قضت به العادة، فكل سورة متواترة، وكذلك الآيات المتداولة لا وجوه القراءات، وكل ما صح لفظه فهو قرآن، والبسملة من جملة المتواتر، ووصف كونها قرآناً مثل سائر الآيات فإنه لم ينقل وينص على وصف كل آية بذلك.
وعلى الجملة فالفرق بينها وبين غيرها تحكم، أما الخلاف فلا يلزم منه ظنية أي مسألة. ذكره في المنار وهو بحث نفيس، وقد صرح جماعة من العلماء بأن تواترها في مصاحف الصحابة فمن بعدهم بخط المصحف، مع منعهم أن يكتبوا فيه ما ليس من القرآن كاف في كونها قرآناً؛ إذ لو لم تكن قرآناً لم استجازوا إثباتها بخطه من غير تمييز لأن ذلك يحمل على اعتقادها قرآناً، فيكونون مغررين بالمسلمين حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً، وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة، وقد صرح عضد الدين بأن الرسم طريق علمي، احتجوا ثانياً بأن الأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية لا من الفاتحة، ولا من غيرها إلا في النمل، وهي ما روي عن أنس بن مالك، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد ومسلم، وفي لفظ: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح، ولأحمد ومسلم : صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها، ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال شعبة : فقلت لقتادة: أنت سمعته من أنس؟ قال: نعم، نحن سألناه عنه.
وللنسائي عن منصور بن زاذان، عن أنس، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما. هكذا ساق هذه الألفاظ في منتقى الأخبار.
قال (الشوكاني) بعد أن ذكر أن صاحب المنتقى قد استوفى أكثر ألفاظه ما لفظه: ورواية وكانوا لا يجهرون أخرجها أيضاً ابن حبان، والدارقطني، والطحاوي والطبراني، وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرون. ثم ذكر أن بعضهم قد أعل قوله ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم بالاضطراب لأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه بهذا، وجماعة رووه عنه بلفظ: فلم أسمع أحداً منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ثم حكى عن الحافظ أنه قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، ثم ذكر عن جماعة من المحدثين تخريجه باللفظين.
وأخرج مالك في الموطأ، وسفيان ابن عيينة في تفسيره، وأبو عبيد في فضائله، وابن أبي شيبة، وأحمد في مسنده، والبخاري في جزء القراءة، ومسلم في صحيحه وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي في السنن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج ثلاث مرات غير تام)).
قال (أبو السائب): فقلت: يا أبا هريرة إني أحياناً أكون وراء الإمام فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها يا فارسي في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأوا يقول العبد: الحمد لله رب العالمين فيقول الله: حمدني عبدي ويقول العبد الرحمن الرحيم فيقول الله: أثنى عليَّ عبدي ويقول العبد: مالك يوم الدين فيقول الله: مجدني عبدي، ويقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين فيقول الله: هذا بيني وبين عبدي أولها لي وآخرها لعبدي وله ما سأل، ويقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فيقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)). هكذا في الدر المنثور للسيوطي، ورواه في المنتقى وقال: رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة، فينظر في عد السيوطي ابن ماجة من المخرجين للحديث وقد عده منهم أيضاً في الجامع الصغير، وأما البخاري فلعل جزء القراءة في غير الصحيح. والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني محدث صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي رواية ذكرها في المنتقى: فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين. قال: رواه الجماعة إلا أبا داود.
قال في (نيل الأوطار): تفرد به الجريري، وقد قيل: إنه اختلط بآخره وهو أيضاً من أفراد ابن عبد الله بن مغفل ذكر أن اسمه يزيد وهو مجهول لا يعرف روى عنه إلا أبو نعامة، وقد رواه معمر عن الجريري، ورواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن عثمان بن غياث، عن أبي نعامة، عن ابن عبد الله بن مغفل، وإسماعيل هو الجحدري روى عنه النسائي، وقال أبو حاتم: صدوق، فعثمان متابع للجريري وقد وثق عثمان أحمد ويحيى، وروى له البخاري ومسلم، والحديث قد ضعفه الخطيب، قيل: وسبب ذلك جهالة ابن عبد الله بن مغفل والمجهول لا تقوم به حجة، وقال اليعمري: هي جهالة حالية لا عينية للعلم بوجوده فقد كان لعبد الله بن مغفل سبعة أولاد سمى هذا منهم يزيد، وما رمي بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا أبو نعامة فحكمه حكم المستور.
قال: وليس في رواة هذا الخبر من يتهم بكذب فهو جار على رسم الحسن عنده، وأما تعليله بجهالة المذكور، فما أراه يخرجه عن رسم الحسن عند الترمذي ولا غيره.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين. أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت في رجل حتى غفر له وهي: تبارك الذي بيده الملك)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان وصححه، وحسنه الترمذي، وأعله البخاري في التاريخ الكبير بأن عباساً الجشمي لا يعرف سماعه من أبي هريرة، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرجه أيضاً ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، وأخرج نحوه الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً بسند واه.
وأخرج ابن مردويه من طريق ابن الصباح، عن عبد العزيز، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((دخل الجنة رجل بشفاعة سورة من القرآن وما هي إلا ثلاثون آية تنجيه من عذاب القبر تبارك الذي بيده الملك)).
والجواب عما أوردوه من وجهين: جملي، وتفصيلي:
الوجه الأول: أنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين ما رواه أنس وابن مغفل وأبو هريرة وأضرابهم، وبينما رواه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة، وما قاله فإنه يجب الحكم ببطلان ما عارض ما صح عن الوصي، بل لو اجتمع الصحابة كلهم على أمر وخالفهم أمير المؤمنين عليه السلام فإنا نحكم بالخطأ عليهم دونه، فكيف والمعارض له من ذكرنا، ولعمري لو كان ثمة إنصاف وانقياد تام لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما احتفل القوم بذكر هذه الروايات مع معارضتها لما صح عن الوصي المعصوم فضلاً عن ترجيحها، هذا مع ما انضم إلى رواية الوصي ومذهبه من مرويات أكابر الصحابة كابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأضرابهم الذين لا يعادلهم المذكورون في شيء من الصفات الموجبة للترجيح من كثرة الملازمة لمجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرب منه، وزيادة الفهم والحفظ، وقوة الضبط، والتحرج في الدين وغير ذلك، ثم إنا لو فرضنا تساويهم في العدالة والضبط وغيرهما لكان ترجيح ما يدل على مذهب العترة" بكثرة رواته ومخرجيه، وما اشتملت عليه كتب المحدثين من تصحيح كثير منها ومشاركة أئمة العترة" في رواية بعضها متعيناً، هذا مع ما فيها من الدلالة على الإثبات والتصريح بذلك، ولا شك في ترجيح المثبت على النافي، والصريح على المحتمل، والمشهود له بالتطهير على غيره.
[التعليق على حديث أنس في البسملة]
الوجه الثاني: وهو التفصيلي فنقول: أما حديث أنس فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن فيه اضطراباً وتلوناً، واختلاف ألفاظ مع اختلاف معانيها، وقد قدمنا أكثر ذلك، ومنه ما روي أنه سئل عن ذلك فقال: كبرت ونسيت، ولذا قال ابن عبد البر: إنه لا يجوز الاحتجاج به.
وقال (زين الدين العراقي) بعد أن حكى عن ابن الجوزي اتفاق أئمة الحديث على صحته: أنه قد أعله الشافعي والدارقطني، وابن عبد البر، والبيهقي، قال: فأين الاتفاق مع مخالفة هؤلاء الحفاظ.
الوجه الثاني: أنه قد عارضه ما تقدم من روايته لحديث صلاة معاوية، وحديث نزول الكوثر، وهما حديثان صحيحان أخرج الثاني منهما مسلم، ويعارضه أيضاً ما سيأتي عنه في ثبوت الجهر بالبسملة، وما أخرجه البخاري عن قتادة، قال: سئل أنس: كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: كانت مداً، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم، والحديث وإن كان قد أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بدون ذكر البسملة فرواية البخاري مقدمة عند المحدثين، وإذا كانت هذه الرواية مع تلونها واضطرابها معارضة بما ذكرنا مع كونها تقتضي النفي، وما عارضها يقتضي الإثبات، فلا شك في وجوب تقديم ما سلم من العلة على المعلول، والمثبت على النافي.
الوجه الثالث: أن الحديث ليس صريحاً في عدم ثبوت البسملة، بل غايته أن أنساً لم يسمعها، وعدم سماعه لا يدل على عدم ثبوتها؛ إذ من سمع حجة على من لم يسمع، مع أن أنساً وأمثاله لم يكن لهم من المنزلة ما يستحقون به الحكم بالقرب من موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، وهذا في التحقيق راجع إلى ترجيح المثبت على النافي، وما ورد في بعض ألفاظه من أنهم كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين فمحمول على عدم السماع أيضاً، أو على أحد التأويلات الآتية، على أن ما في بعض ألفاظه من قوله: كانوا لا يجهرون كانوا يسرون صريح في أن المنفي الجهر بها لا قراءتها، وهو غير محل النزاع.
وأما حديث أبي هريرة في تنصيف الصلاة فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه معارض بما تقدم عنه من وجوه صحيحة من إثبات البسملة قرآناً، وعند التعارض فالترجيح لما تقدم من حيث الإثبات والصراحة في هذا؛ إذ في هذا من الاحتمال ما سيأتي، ويعارضه أيضاً ما تقدم عنه من ثبوت البسملة في حديث التنصيف والمثبت أرجح، وما قيل فيه من التضعيف فهو منجبر لما يعضده من أدلة الإثبات.
الوجه الثاني: أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات، فإن قيل: قد ثبت بالإجماع أن الفاتحة سبع آيات، والتنصيف لا يكون إلا إذا كان للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد مثلها، وقد نص في الخبر على أن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5] مشترك فوجب أن نعد أنعمت عليهم آية لتكمل بعد الآية المشتركة ثلاث آيات؛ إذ لو عددنا البسملة وجعلنا التنصيف باعتبار ما يخص الفاتحة لخالفنا الحديث في إثبات الآية المشتركة.
قيل: عد البسملة آية أولى من عد أنعمت عليهم رعاية لتشابه المقاطع، ولأن (غير) صفة، أو بدل لا يجوز قطعه عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم مشروط بكونهم لا مغضوباً عليهم ولا ضالين، بدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً }[إبراهيم:28]، وحينئذٍ يكون التنصيف باعتبار ما يختص الفاتحة من الآيات بالنظر إلى المعنى، فيكون معنى قوله: نصفها لي ونصفها لعبدي أي بعضها لي وهو ما اشتمل على الثناء، وبعضها لعبدي وهو ما اشتمل على الطلب.
وإطلاق النصف على البعض شائع كما في قول شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، ويدل على ذلك ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال: مدحني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي ثم قال: هذا لي وله ما بقي)). وهذا نص في أن التنصيف باعتبار المعنى إذ لم يكن للباري تعالى إلا آيتان، لكنه يعارضه ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي بن كعب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب، ثم قال: ((قال ربكم: ابن آدم أنزلت عليك سبع آيات ثلاث لي وثلاث لك وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي: فـ(الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأما التي بيني وبينك: إياك نعبد وإياك نستعين منك العبادة وعلي العون لك، وأما التي لك: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)).
هذا وقد تأولوا حديث أبي هريرة بتأويلات أُخر منها أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة لا إلى الفاتحة عملاً بظاهر اللفظ، لكنه يرده حديث أبي، ومنها أن المراد فإذا انتهى العبد في قراءته إلى الحمد لله رب العالمين، فحينئذٍ تكون القسمة.
والحق أن أحاديث القسمة متعارضة، فمنها ما صرح فيه بعدِّ البسملة آية في كحديث ابن عباس وبعض الروايات عن أبي هريرة، ومنها ما لم يصرح فيه بعدها من الفاتحة، مع احتمال دلالته للتأويل، ومنها ما هو ظاهر في نفيها، ومنها ما ضعفت طريقه، ومنها ما قويت، ومنها ما سكتوا عنه، ومع هذا التعارض والاحتمالات فالواجب الرجوع إلى غيرها، ولا ريب أن دلائل إثباتها أكثر وأصح وأصرح، مع أنها مسوقة لإثباتها بخلاف هذه الأحاديث فإنها لم يقصد بها بيان كون البسملة من الفاتحة أم لا، وإنما قصد بها بيان فضيلة الصلاة، ووجوب قراءة الفاتحة فيها.
وأما حديث عبد الله بن مغفل فلا تقوم به حجة لما تقدم، ولا التفات إلى تحسين الترمذي له فقد نسبه الحفاظ إلى التساهل في ذلك.
قال (ابن حجر المكي): وهو تساهل شديد جداً فقد ضعفه الحفاظ كابن خزيمة وابن عبد البر والبيهقي بجهالة الابن الناقل عن أبيه، وعلى تسليم صحته فرواية الإثبات مقدمة عليه، مع أنه ليس بصريح، بل غايته عدم السماع، وذلك غير مفيد لنفيها كما مر في حديث أنس.
وأما حديث عائشة فيحتمل عدم سماعها للبسملة، ويحتمل أنها أرادت السورة بكمالها، كما يقال: قرأت {البقرة}، و{ق}، و{ن}.. ونحو ذلك، والمقصود السورة التي ذكر فيها ذلك، وقد روي أن الحمد من أسماء هذه السورة وقد مر.
وأما حديث أبي هريرة في فضل سورة تبارك وما طابقه، فجوابه من وجوه:
أحدها: القدح في صحتها لما تقدم من الكلام على أسانيدها.
الثاني: ما ذكره العلامة المقبلي من احتمال دخول البسملة في العدد المذكور ولفظه: وحديث سورة الملك، وسورة الفاتحة في العدد من الجانبين ليس بالواضح لاحتمال إدخالها في العدد؛ إذ لا قطع بتحديد كل آية. ذكره في المنار.
فإن قيل: يدفع هذا الاحتمال ما روي من الإجماع على أن سورة الملك ثلاثون آية بدون التسمية.
قيل: ليس إلا إجماع أهل العدد كما صرح به ابن تيمية في المنتقى، وإجماعهم ليس بحجة.