المسألة الأولى [معنى الرحمة وهل هي في حقه تعالى مجاز أم حقيقة]
ذهب الجمهور إلى أنهما مجازٌ في حقه تعالى لأن الرحمة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان، وهي مستحيلة عليه تعالى فيراد لازمها وهو الإحسان والتفضل؛ لأن الملك إذا رق على رعيته أصابهم بمعروفه وإحسانه، فهو مجاز مرسل تبعي لأن التجوز فيهما تابع للتجوز في أصلهما وقيل: هي إرادة الخير لمن أراد الله به ذلك.
قال أبو السعود: الرحمة في اللغة: رقة القلب والانعطاف، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها، والمراد هاهنا التفضل والإحسان، أو إرادتهما بطريق إطلاق اسم المسبب بالنسبة إلينا على مسببه البعيد أو القريب، فإن أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعالات.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : بل هما حقيقتان دينيتان وضعهما الشارع اسمين له تعالى كما في مؤمن وكافر إذ لو كانا مجازين لافتقرا إلى القرينة عند إطلاقهما عليه تعالى، والمعلوم أنهما لا يفتقران، فلما لم يفتقرا ثبت كونهما حقيقة فيه تعالى إما لغوية أو دينية، واللغوية ممنوعة لاستلزامها التشبيه فتعين كونهما حقيقة دينية، وأجيب بأن القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي حاصلة وهي العقل والسمع، أما العقل فلقيام الدليل على أنه تعالى لا تحله الأعراض والرقة عرض، وأما السمع فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى:11].

المسألة الثانية [اختصاص الرحمانية بالله تعالى وحده)
قال العلماء: الرحمن مختص بالله تعالى لا يجوز أن يسمى به غيره، ولا أطلق في لغة العرب على غيره، والدليل على اختصاصه تعالى به قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ }[الإسراء:110 ]فعادل الاسم الذي لا يشاركه فيه غيره، فأما قولهم في مسيلمة رحمن اليمامة فباب من تعنتهم في الكفر، مع أنهم لم يضعوه له إلا بعد أن قد تسمى به الباري تعالى، وهم معترفون بذلك فيمكن أنهم لم يسموه بذلك إلا على ضرب من المجاز، وهو أنهم لما اعتقدوا أنه رسول الرحمن سموه باسم مرسله.
قلت: في كلام بعضهم أنه الذي تسمى بذلك فألزمه الله تعالى نعت الكذاب حتى صار علماً يعرف به، وهذا يدفع حمله على المجاز ويصحح أنه من باب التعنت، وما قلناه من اختصاص الباري تعالى به هو الذي حكاه القرطبي عن أكثر العلماء، وحكايته توهم أن ثمة خلافاً ولم أقف عليه.
فإن قلت: هل هو صفة أم علم؟، قلت: بل من الصفات الغالبة عند الأكثر كالنجم والصعق.
وحكى أبو حيان عن الأعلم أنه علم وإن كان مشتقاً من الرحمة لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، بل هو مثل الدبران، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية، فجاء على بناء لا يكون في النعوت.
قال: ويدل على علميته وروده غير تابع لاسم قبله، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[طه:5]، {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ }[الرحمن:1،2].
وأما رحيم فقال في الأساس: أنه يختص به الباري تعالى مع الإطلاق، وأما مع الإضافة فيجوز (زيد رحيم بأهله) لأن الرحمة إذ علقت بشيء مخصوص فقد خرج لفظ رحيم عن إفادته عموم الرحمة المختص بالله تعالى، وكذا إن جعل صفة لشخص معلوم نحو زيد رحيم؛ لأن جريه على زيد تقييد.

فرع [في ترادف الرحمن الرحيم]
واختلفوا هل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيدة، وقيل:بل معناهما مختلف، فالرحمن أعم ولذا قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، واختاره الزمخشري إذ زيادة البناء تدل على زيادة المعنى.
قال الزجاج في الغضبان: هو الممتلي غضباً، ويدل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له عيسى: وما بسم الله؟ قال المعلم: لا أدري، فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الإلاهية، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة)). قال في الدر المنثور: أخرجه ابن جرير، وابن عدي في الكامل، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والثعلبي بسند ضعيف جداً.
وفي تفسير القرطبي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير بسم الله الرحمن الرحيم فقال: ((أما الباء فبلاء الله وروحه ومغفرته وبهاؤه ، وأما السين فسناء الله، وأما الميم فملك الله، وأما الله فلا إله غيره، وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه، وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة)). وهذان الحديثان إن صحا نص في المقصود من إثبات عموم الرحمن وإن اختلفت جهة التعميم والتخصيص، فإن الأول يدل باعتبار الأزمان، والثاني: يدل باعتبار الأشخاص، وقيل: الرحيم أكثر مبالغة ويدل عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر.
قال القرطبي: أي أكثر رحمة، وأرقهما الرحيم كما أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً.
قيل: وقوله رقيقان بقافين تصحيف وإنما هو رفيقان بفاء ثم قاف، والرفيق من اسماء الله تعالى.

وقال (أبو حيان): الذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة فلذلك جمع بينهما فلا يكون من باب التوكيد، فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من باب الامتلاء والغلبة، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة، ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل تقول: زيد رحيم المساكين كما تعدي فاعلاً تقول: زيد حافظ علمك وعلم غيرك، حكاه ابن سيده عن العرب قال: ومن رأى أنهما بمعنى واحد ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر احتاج إلى أنه يخص كل واحد منهما بشيء وإن كان أصل الموضوع عنده واحداً ليخرج بذلك عن التأكيد.
قال (مجاهد): رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وروى ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الرحمن رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة)). قال : وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه، ثم حكى أقوالاً عن السلف ولم يذكر لها أدلة.
قلت: وسيأتي في حديث عائشة وعبد الرحمن بن سابط ما يدل على أن معناهما واحد، وهو الدلالة على شمول رحمته في الدنيا والآخرة، والعموم على هذا باعتبار الأزمان لا الأشخاص.

المسألة الثالثة [إنزال الآلام والنقائص]
أن ما ينزله الله تعالى بخلقه من الآلام والنقائص ونحوها لا ينافي وصفه تعالى بأنه الرحمن الرحيم وأرحم الراحمين، ونحوها من الأوصاف الدالة على كونه في أعلى درجات الرحمة بخلقه، وذلك أن الألم إن كان لغير المكلفين فهو من الرحمة لهم؛ لأنه لا يفعله إلا لمصلحة لذلك المؤلم، وإن اختلف أصحابنا في ماهيتها، فقال أبو علي: وأصحاب اللطف إنما يحسن من الله تعالى للعوض فقط.
وقال السيد (مانكديم)، والإمام (المهدي) و(جمهور البصرية): بل لا بد في حسنها من العوض والاعتبار للمكلفين لتخرج بالأول عن الظلم، وبالثاني عن العبث.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : بل ذلك لمصلحة يعلمها الله تعالى وإن جهلناها؛ لأنه قد ثبت أنه عدل حكيم، ومن حكمته أنه لا ينزل الألم بغير العاصي إلا لمصلحة.
قلت: وعلى أي وجه أنزله عليه من هذه الوجوه فهو تفضل ورحمة، فثبت عدم المنافاة وإن كان إنزال الألم بالمكلف فهو إما مؤمنٌ أو عاص، فإن كان مؤمناً فلا شك في كونه رحمة له لأنه إما للاعتبار أو للتأديب، أو للتعريض على الصبر والرضا اللذين يستحق عليهما الثواب الكثير، وإما لتكفير الذنوب، وإما لمصلحة له يعلمها الله تعالى، وإنزال الألم على أحد هذه الوجوه ثابت كتاباً وسنة، وسيأتي الاستدلال عليه في موضعه إن شاء الله، ومن الأدلة العقلية على ذلك أن الوالد إذا أمر بقطع يد ولده المتآكلة لا يوصف بعدم الرحمة لولده، بل نقطع أن أمره بقطع يده ليس إلا لرحمته وشفقته على ولده، فإذا لم يخرج عن الرحمة بإنزاله الضرر بولده لهذه المصلحة كذلك لا يخرج الباري عن الوصف بالرحمة لأجل ما ينزله بعبده لأحد هذه الوجوه، بل هو أرأف بعبده المؤمن من أمه وأبيه، وإن كان عاصياً فهو تعجيل عقوبة لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }[الشورى:30].

وقيل: بل له عوض إذ لا عقاب قبل الموافاة، وسيأتي استيفاء الكلام على المسألة في موضعها إن شاء الله.

المسألة الرابعة [الجواب على شبه المرجئة في الرحمن الرحيم]
تعلقت المرجئة بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ونحوها على القطع بخروج أهل الصلاة من النار عند بعضهم، وعلى تجويزه عند آخرين؛ لأنها وردت مطلقة غير مقيدة بشيء، وأجيب بأن هذا جهل أو تجاهل، فأين أنتم من التقييد الصريح الوارد في قوله تعالى بعد ذكر المؤمنين بصفاتهم: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ }[التوبة:71]، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ...} [الأعراف:156 ]الآية على أنه يمكن إجراء الإطلاق على ظاهره، ويكون متناولاً لجميع الحيوانات من المكلفين وغيرهم باعتبار نعم الله تعالى في الدنيا من الإيجاد والعافية، والرزق، والتعريض على النعيم الذي لا ينقطع، وهذه رحمة شاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعاقل وغيره، ويكون تخصيص الرحمة في الآخرة بغير العاصي للأدلة الدالة على التخصيص، وفي هذا جمع بين الأدلة.

المسألة الخامسة [خواص الرحمن الرحيم]
في خواص هذين الاسمين الشريفين وبيان فضلهما، فمن ذلك أنه قيل في اسمه تعالى (الرحمن) أنه الاسم الأعظم.
وعن الحسن قال: (الرحيم) اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله قد أنزل علي سورة لم ينزلها على أحد من الأنبياء والرسل قبلي ))، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال الله تعالى ((قسمت هذه السورة بيني وبين عبادي فاتحة الكتاب جعلت نصفها لي ونصفها لهم وآية بيني وبينهم فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله: عبدي دعاني باسمين رقيقين أحدهما أرق من الآخر فالرحيم أرق من الرحمن وكلاهما رقيقان...)) الحديث.
قال (البيهقي): قوله رقيقان قيل: هذا تصحيف وإنما هما رفيقان، والرفيق من أسماء الله تعالى.
قلت: يعني أن الحرف الأول فاء لا قاف، وأخرج البزار والحاكم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن عائشة قالت: قال لي أبي: ألا أعلمك دعاء علمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: وكان عيسى عليه السلام يعلمه للحوارين لو كان عليك مثل أحد ذهباً لقضاه الله عنك، قلت: بلى، قال: قولي اللهم فارج الهم كاشف الغم، وفي لفظ البزار وكاشف الكرب مجيب دعوة المضطرين رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات ويعلمهن: ((اللهم فارج الهم وكاشف الكرب ومجيب المضطرين ورحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني اليوم رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك)).

الباب الثاني:المسائل الفقهية المتعلقة بالبسملة
الموضع الثاني: فيما يتعلق بجملة البسملة وفيه مسائل

المسألة الأولى [في حكم التسمية]
اختلفت الأمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة، فقال أهل البيت": هي آية كاملة من الفاتحة، ومن كل سورة صدرت بها، وبه قال قالون من قراء المدينة، وقراء الكوفة ومكة وفقهاؤها، وهو القول الجديد للشافعي، وحكاه الخازن عن الزهري، والثوري، ومحمد بن كعب، ورواه شارح الغاية عن جمهور السلف، وسيأتي ذكر بعضهم.
وقال (مالك)، و(الأوزاعي)، و(أبو حنيفة): ليست من القرآن أصلاً إلا في قوله تعالى:{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ ...} [النمل:30 ] الآية، وإنما كتبت للفصل والتبرك، وعليه قراء المدينة والبصرة، والشام وفقهاؤها، ورواه في شرح الغاية عن الثوري، وقال أبو السعود: هو المشهور من مذهب قدماء الحنفية، ورواه عن ابن مسعود، ورواه غيره عن أبي، وأنس وغيرهما، وقيل: أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وهذا مروي عن أحمد بن حنبل، وداود، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وعزاه في شرح الغاية إلى جمهور المتأخرين من الحنفية، وقال أبو السعود: هو الصحيح من مذهب الحنفية، وقيل: إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزءاً منها أو لا، ولا لكونها آية تامة أو لا، وهذا مروي عن ابن عباس وأبي هريرة.
وقيل: إنها آية تامة في الفاتحة وبعض في البواقي، وهذا أحد احتمالين للشافعية وسيأتي بيانهما، وقيل: بعض آية في الفاتحة، وآية تامة في البواقي، وقيل: بعض آية في الكل، وقيل: أنها آيات متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزءاً منها.
حكى هذا القول أبو السعود وقال: إنه غير معزي في الكتب إلى أحد.

34 / 329
ع
En
A+
A-