واعلم أن النجري قد جمع بين أقوال أصحابنا وقول من يدعي العلمية بأنه يمكن أن يقال: إن أصحابنا إنما يمنعون كون الله موضوعاً على العلمية من أصل وضعه كزيد ونحوه من الألقاب التي لا يجوز عليه تعالى، وأما كونه صار علماً بالغلبة بعد أن كان في الأصل غير علم بل موضوعاً بإزاء صفة ذات، فهذا مما لا سبيل إلى منعه، قال: فعلى هذا يكون قولهم: الله من يحق له العبادة أي في الأصل قبل الإدغام والتفخيم، ثم بقي ذلك المعنى ملحوظاً إليه بعد الغلبة كما هو حكم الأعلام الغالبة.
قال: وبهذا صرح كثير من أهل العربية الخلاف إلى الوفاق.
قلت: وهذا مبني على أن المتصرف فيه والمستعمل له في الباري تعالى العرب، وأما على ما تقدم من أنه اسم له تعالى قبل ذلك فلا يتم هذا الجمع.
ولقائل أن يقول: إن أعظم ما دفع به أصحابنا علميته كون الأعلام لا تفيد المدح، وهذا غير مسلم لهم، فإن العرب وغيرهم يلاحظون عند التسمية بالألقاب معان يقصدونها إما على جهة التفاؤل بها كتسميتهم فاضل وصالح ونحوهما، وإما على جهة التبرك كتسميتهم بمحمد وغير ذلك، ويقصدون الرفع من شأن المسمى بذلك الاسم، ولا معنى للمدح إلا ذلك، وقد يسمون بالاسماء القبيحة لقصد الضعة من المسمى بها، فما المانع من أن يكون الاسم الشريف موضوعاً لربنا جل وعلى ملاحظاً فيه ما يقتضيه لفظة (الله) من اختصاصه بصفات الكمال التي يحق له لأجلها العبادة، لا سيما وهذه الصفات متحققة فيه عند وضع الاسم وقبله، ونحن قد بينا أنا نلاحظ في وضع أسمائنا معانياً ليست بمعلومة ولا مظنونة، بل مقدرة مرجوة.
واحتج القائلون باشتقاقه بما ذكره الزمخشري، وهو أن معنى الاشتقاق أن تنتظم الصيغتان فصاعداً معنى واحداً، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم (إله) إذا تحير بتنظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن، ولذا كثر الضلال وفشا الباطل، وقل النظر الصحيح، ثم اختلفوا مما اشتق منه فقيل: من إله إذا تحير كما مر.
وقال (أبو القاسم البلخي) وغيره: من وله العباد إليه: أي فزعوا عند الشدائد، والهمزة مبدلة عن واو كوشاح وإشاح، ورد بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال: ولاه كما قيل: في إشاح وشاح.
قال (النجري): ومعلوم أنه لم يقل الولاه أصلاً، وأيضاً يلزم أن لا نسمي القديم تعالى إلهاً فيما لم يزل وإنما يسمى به بعد وله العباد إليه فقط، وهو ظاهر البطلان، وقيل: من لاه إذا احتجب أو ارتفع، وقيل غير ذلك.
قال بعض العلماء: ومجموع الأقاويل هو المعبود للخواص والعوام، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام، المحتجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته العظام، الذي سكنت إلى عبادته الأجسام، وولعت به نفوس الأنام، وطربت إليه قلوب الكرام.
واعلم أن القول بالاشتقاق لا ينافي الاسمية كما يدل عليه كلام الزمخشري رحمه الله فإنه نفى الوصفية، وأثبت الاسمية والاشتقاق كما ترى، وقال أبو السعود: واشتقاقه من الآلهة والألوهة والألوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يقال: إله واحد، ولا يقال: شيء إله، كما يقال: كتاب مرقوم ولا يقال: شيء كتاب، والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذات المبهمة باعتبار اتصافها بمعنى معين وقيامه بها، فمدلولها مركب من ذات مبهمة لم يلاحظ لها خصوصية أصلاً، ومن معنى معين قائم بها على أن ملاك الأمر تلك الخصوصية، فبأي ذات يقوم ذلك المعنى يصح إطلاق الصفة عليها كما في الأفعال، ولذلك تعمل عملها كاسمي الفعل والمفعول، والموضوع له في الاسم المذكور هو الذات المعينة والمعنى الخاص، فمدلوله مركب من ذينك المعنيين من غير رجحان للمعنى على الذات كما في الصفة، ولذلك لم يعمل عملها. ذكره في تفسيره.
وظاهركلام الرازي أن القائلين بأنه صفة قدماء الفلاسفة، وقال أبو حيان: ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس باسم ذات ولم يعين قائله، واحتجوا بأن اسم العلم قائم مقام الإشارة الحسية، وهي ممتنعة في حق الله فكذلك العلم، وأنه إنما يضاف إليه لتمييز شخص عن شخص يشبهه، ولا مشابهة في حق الباري تعالى، وإذا كان كذلك كان إثبات اسم العلم محالاً في حقه تعالى.
والجواب: أن الاسم هو الذي وضع لتعيين الذات من دون اعتبار كون المسمى مشاراً إليه أو مشابهاً لغيره، واحتجوا أيضاً بأن المعقول للحق سبحانه ليس إلا الصفات مثل كونه حياً قادراً عالماً موجوداً، ولا يعرف إلا بها، فأما معرفة حقيقة ذاته كمعرفة ما للسواد من كونه سواداً، وللجوهر من كونه جوهراً فذلك غير معلوم للبشر، فإذا جعلنا هذه اللفظة بإزاء معنى معقول للبشر لم يكن بد من أن نجعلها صفة؛ إذ لا يعقل منه تعالى إلا الصفات، ولأن اسم الذات لا فائدة له إلا معرفة المسمى، والله تعالى لا يدرك حساً ولا بديهة، ولا تعرف ذاته باسمه، وحينئذٍ يكون وضع الاسم له عبثاً لا فائدة فيه، فتعين أن يكون صفة كما قلنا.
والجواب: أنا لا نسلم أن خصوصية ذاته غير معلومة للبشر؛ لأنا إذا عقلنا أن الباري ذات لا متحيز ولا محتاج إلى المتحيز واجبة الوجود، وعلمناه بصفاته من كونه قادراً عالماً حياً فقد علمنا تلك الذات على الحد الذي علمنا به ماهية السواد والجوهر، ولا فرق بينهما إلا من حيث أن ذاته تعالى لا يتعلق بها إدراك العالم بها، فلفظ الله في دلالته على خصوصية ذات الباري تعالى كلفظ السواد في دلالته على خصوصية ذات السواد، لا فرق بينهما إلا ما ذكرناه من عدم الإدراك في ذاته تعالى وصحته في ذات السواد.
وأما قولهم: لا فائدة لاسم الذات إلا معرفة المسمى، وتعليلهم ذلك بعدم إدراكه حساً ولا بديهة، فلا يصح إلا لو كان وضع الاسماء لإدراك المسمى حساً أو بديهة، ونحن لا نسلم ذلك، ولا نعلم قائلاً به، وإنما وضعت لتمييز المسمى سواء كان مدركاً حساً أم لا، معلوم ضرورة أم لا، ولو كان ذلك كذلك لما صح وضع الاسماء على المسميات الغائبة التي لاتعلم بالبديهة، والمعلوم خلافه.
والحاصل أنا إذا قد علمنا ذات الباري تعالى على الوجه الذي يصح، فما المانع من إجراء ما يجوز في حقه من الاسماء عليه، كما أنه يجوز منا إجراء الاسماء على ما غاب عنا من الذوات وإن لم ندركها حساً ولا بديهة، كيف وعلمنا بالباري تعالى ضروري لأنه وإن كان في الأصل نظرياً فهو يؤول إلى الضرورة؛ إذ هو المعلوم بدلائله، المعروف بصفاته، فلا عقل من لم يره ينكره لوضوح الآيات الدالة عليه وكثرتها كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت:53].
تنبيه [في اسم الله هل هو للذات أم للمفهوم]
اختلف القائلون بإسمية هذا الاسم الشريف، هل هو اسم للذات أم للمفهوم وهو المعبود بحق.
فالذي عليه الجمهور: أنه اسم للذات المخصوصة على اختلافهم في كونه علماً أم لا، ووجهه أن الذات المخصوصة هي المشهورة بصفات الكمال فما يكون اسماً لها دالاً عليها بخصوصها يدل على هذه الصفات لا ما يكون موضوعاً لمفهوم كلي، وإن اختص في الاستعمال بها فإنه لا يدل على صفات الكمال كالرحمن، فلما وجدنا لفظ الجلالة دالاً على صفات الكمال علمنا أنه اسم للذات لا للمفهوم، وسواءً جعلناه علماً أم لا.
وقيل: بل هو اسم للمفهوم الكلي ثم انحصر في الفرد المعين. ذكره الجلال، ولعله نظر إلى الأصل.
قال القاضي (علي بن صلاح الطبري): أصله (الإله) وهو اسم جنس لكل معبود ثم غلب في المعبود بحق، وعليه فمفهوم الجلالة بالنظر إلى الأصل كلي، وبالنظر إليه جزئي، ومن ثم كان من الأعلام الخاصة إذ لم يطلق على غيره تعالى.
وقال (سعد الدين): هو علم للذات المعينة ومثله كلام الشريف.
واختلف في(الإله) قبل حذف الهمزة، فقال السعد: هو في الأصل لكل معبود ثم صار بالغلبة اسماً لمفهوم كلي وهو المعبود بحق، لكن لا إلى حد العلمية، وقال الشريف: بل صار بالغلبة اسماً للذات المعينة، وإنما زاده التغيير بحذف الهمزة تأكيداً فهو قبل الحذف وبعده علم لذات الباري تعالى، إلا أنه قبل الحذف قد أطلق على غيره إطلاق النجم على الثريا فتكون الغلبة تحقيقية، وبعده لم يطلق على غيره أصلاً فتكون الغلبة تقديرية بمعنى أن مقتضى القياس صحة إطلاق لفظ (الله) على المعبود بحق مطلقاً كالإله، إلا أنه لايطلق إلا على الواحد الواجب تعالى.
المسألة السادسة: في بعض خواص الاسم الشريف
ذهب بعضهم إلى أنه الاسم الأعظم؛ لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها كما مر، بخلاف سائر الاسماء فإن كلاً منها لا يدل إلا على بعض المعاني من علم، أو فعل، أو قدرة، أو غيرها ولأنه أخص الاسماء إذ لا يطلق على غيره لا حقيقة ولا مجازاً، بخلاف غيره فإنه قد يسمى به غيره كالقدير والعليم وغيرهما، واستقر به الرازي، ونسبه العزيزي إلى المحققين.
وعن ابن عباس قال: اسم الله الأعظم هو(الله)، وعن علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه سئل عن اسم الله الأعظم، فقال: هو أن تقول: الله يا الله بصدق اللجأ، فقيل: وما صدق اللجأ؟ فقال: هو أن تمثل نفسك غريقاً في لجج البحار فلا يسمعك سواه، ولا ينظر إليك غيره، ولا ينجيك إلا هو فحينئذ تقول: يا الله. رواه في الوسائل العظمى.
وعن جابر بن زيد قال: اسم الله الأعظم هو الله، ألا ترى أنه في جميع القرآن يبدأ به قبل كل إسم.
وعن الشعبي قال: اسم الله الأعظم يا الله.
وفي حديث أسماء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((هل في البيت إلا أنتم يا بني عبد المطلب؟ قلنا: لا رسول الله، قال: إذا نزل بأحدكم هم أو غم أو سقم أوأزل أو لأواء-وذكر السادسةفنسيتها - فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)). رواه المرشد بالله عليه السلام ، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة ولفظه: ((إذا أصاب أحدكم هم أو لأواء فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)) قال شيخ العزيزي: حديث صحيح، وفي رواية: ((لا شريك له)) ذكرها المناوي، وكأنه أراد مكان قوله لا أشرك به شيئاً.
الأزل: بهمزة مفتوحة وزاي ساكنة- الضيق، وقوله: لأواء بفتح اللام وسكون الهمزة والمد، قال العلقمي: اللأواء: الشدة وضيق المعيشة.
المسألة السابعة:
قوله: بسم الله يدل على وجود الباري إذ التبرك والاستعانة باسمه تعالى إنما هو لشرف ذلك الاسم، وليس شرفه إلا لشرف المسمى، ولا شرف للمعدوم، ولا خلاف بين أهل الإسلام وكثير من الفرق الكفرية وهم المُقِرُّوْنَ بالصانع كاليهود، والنصارى، والبراهمة، وبعض عباد الأصنام في أنه تعالى موجود، وتحقيق هذه المسألة يستدعي ذكر أبحاث:
البحث الأول: في حقيقة الموجود
وقد اختلف في ذلك، فقال أبو عبدالله البصري، والبغداديون: هو الكائن الثابت، واختاره الموفق بالله عليه السلام .
قلت: وتقييد الكائن بالثابت؛ لئلا يوهم الحدوث في حق الله تعالى لأن (كان) وما تصرف منها يفيد الحدوث والحصول والوجود، لكنه يقال: إذا احتملت معان يصح بعضها في حق الباري تعالى، ويمتنع بعضها بدلائل قطعية فلا مانع من الإطلاق؛ إذ لا يبقى للوهم مذهب إلى المعنى الممتنع مع قيام الدليل القطعي، وقد أطلقها الله تعالى بصيغة الفعل في مواضع: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً }[الكهف:45 ]وغير ذلك، فكذلك فيما تصرف من لفظ (كان) إذ لا فرق بالنظر إلى المعنى، اللهم إلا أن يقال بالفرق لأجل الصيغة والمعتبر الإذن، ويؤيده أنا لم نقف في كلام أمير المؤمنين عليه السلام إلا على تقييده بما يرفع الوهم كقوله: الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي... إلخ، وقوله: (كائن لاعن حدث). رواه في النهج.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في بعض أدعيته: ((يا كائناً قبل كل كون ، وحاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون)). رواه الرازي في تفسيره، ثم قال: أو لفظٌ يقرب معناه مما ذكرنا، وقد اعترض على هذا الحد بأن لفظ موجود أصرح منه ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود، وبأن الكائن والثابت كالمترادفين فذكرهما معاً تكرار وهو معيب في الحدود، وبأن الكائن إنما يستعمل في الجوهر الذي حصل في حيز فكيف يصح تحديد الموجود به، والفرض أنه متناول للباري تعالى إما بخصوصه، وإما بعمومه، وفيه نظر فقد تقدم وصف الباري به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن وصيه عليه السلام ، وقيل: الموجود ما يصح تعلقه بغيره. ذكره الموفق بالله عليه السلام ، قال: والجوهر يصح تعلقه على وجه، وهو أن يصادف فناً فينافيه، وقيل: هو ماله صفة مقتضاة عن صفة الذات، وهو مبني على أن الوجود صفة زائدة على الذات.
وقال قاضي القضاة: هو المختص بصفة تظهر عندها الصفات والأحكام، ويعني بالصفة كونه موجوداً إذ ظهور الصفات والأحكام مترتبة على الوجود.
وقال السيد (مانكديم): الأولى أن لا نحد الموجود لأن كل ما نذكره في حده، فقولنا: موجود أكشف منه وأوضح، فلو سألنا عن حقيقته فالواجب أن نشير إلى هذه الموجودات.