فائدة [في صورة التحري عند الوسوسة]
في البحر عن أبي العباس أن التحري فوري، فإن أخره إلى الثانية بطلت؛ إذ لا يبني على الأول حتى تصح، وهذا هو المصحح للمذهب، وقال (م) بالله والإمام يحيى: تصح إذ مجموعهما كالركن، فإذا حصل ظن في أيها أو بعدها عمل به.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : ولا يخفى على الناظر أن مذهب (م) بالله أقوى؛ لأن المقصود تأدية الصلاة بالتحقق أو غلبة الظن، وهذا حاصل سواء وقع ذلك عقيب الشك أو فيما بعده مع اشتمال الصلاة عليه، ولا دليل على وجوب الفور، وإنما القصد حصوله قبل فراغ الصلاة.
هذا تمام الكلام على ما يتعلق بالاستعاذة بالله تعالى من شر الشيطان، وهي تستدعي أكثر مما ذكرنا لكثرة مداخله وإعماله كل حيلة في إضلال الإنسان، خلا أن من استعمل عقله وتدبر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واقتدى بمن أمره الله بالاقتداء بهم، فلا بد وأن يحصل له من الألطاف ما يكون سبباً قائداً إلى التوفيق وحسن الخاتمة.
تفسير سورة الفاتحة
مكية على الأصح، وهو قول علي عليه السلام وابن عباس، وعلي بن الحسين، والصادق، وبه قال الأكثر، وقيل: مدنية، وقيل: مكية ومدنية، ولها عدة أسماء، وسيأتي بعضها في فضائلها إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}
الكلام فيها يكون في بابين: الأول: فيما يتعلق بمفردات آياتها، والثاني: فيما يتعلق بجملتها.
الباب الأول فيما يتعلق بالآيات
وأولها قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وفيه موضعان: الأول: في مفردات ألفاظها، والثاني: في جملتها.
الموضع الأول: قوله تعالى: بسم الله، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: [تعلق الباء]
الباء إما للاستعانة أو للمصاحبة، وعلى أيهما فهي تدل على ما ذهب إليه أئمة العترة" وسائر العدلية من كون أفعال العباد منهم، وتبطل مذهب طوائف الجبرية، أما الأول فلأن أفعالنا لو كانت من الله تعالى لما كان للاستعانة معنى؛ إذ لا يحتاج الباري تعالى في فعله إلى معين، وأما على الثاني فواضح إذ ليس المقصود إلا التبرك بالاسم الشريف، والتبرك باسمه تعالى لا يصح إلا إذا كنا الموجدين لأفعالنا، إذ لا معنى لتبركنا باسمه على أفعاله، فإن قيل: إنما يصح ما قلتم لوجعلنا الاستعانة أو التبرك بنفس الاسم لكنا لا نسلم ذلك إما لأن الاسم هو المسمى، وإما لأن لفظ اسم صلة زائدة، فيكون معنى بسم الله بالله أي بخلقه وتقديره.
قيل: لا يضرنا عدم تسليمكم مع قيام الدليل عليه، وما استندتم إليه باطل، أما الأول فلما سيأتي من البرهان على أن الاسم غير المسمى، وأما الثاني فلأنه خلاف الظاهر، بل لم نقف عليه لأحد من علماء اللغة إلا عن معمر بن المثنى، وقد نص المحققون على فائدة الإتيان به، وهي إما للفرق بين اليمين والتيمن، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة هاهنا؛ لأنها قد تكون تارة بالله تعالى، وحقيقتها طلب المعونة على إيقاع الفعل وإحداثه بالتمكين واللطف ونحوه، وهذه هي المطلوبة بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة:5]، وتارة تكون باسمه تعالى، وحقيقتها طلب المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً، فإنه ما لم يصدر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم، ولما كانت كل واحدة من الاستعانتين واقعة وجب تعيين المراد بذكر الاسم، وهذا تصريح بوجوب الإتيان بلفظ إسم، وفيه بطلان القول بزيادته سلمنا، فلا بد من تقدير اتفاقاً بيننا وبينكم، ولستم بأولى منا به، فنقول: معنى قوله بالله أي بتمكينه ومعونته ونحو ذلك، والحق أن نرجع في تصحيح أحد التقديرين إلى دليل صحيح؛ إذ لا تثبت الدعوى إلا ببرهان، وقد تقدم في بحث الاستعاذة ما يفيد العلم بأنا الموجدون لأفعالنا، وفيه تصحيح ما قدرنا وإبطال تقديركم.
المسألة الثانية: [معنى الاسم]
الاسم في اللغة ما صح إطلاقه على ذات سواء كان اسماً نحو: يا كزيد، أو فعلاً كضرب ويضرب، وله في اصطلاح النحاة حدود كثيرة منها ما ذكره ابن الحاجب وهو قوله: الاسم ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، واختلف العلماء هل هو المسمى أم غيره؟ فقال أئمتنا" والمعتزلة، والرازي، والخازن، وأبو حيان، والنيسابوري، وابن القيم وغيرهم: ليس الاسم المسمى بل غيره لقوله تعالى: {بسم الله}، ونحوها بإضافة الاسم إلى الله تعالى، وإضافة الشيء إلى نفسه محال، ولأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي؛ إذ معناه سلب لا ثبوت له والألفاظ موجودة، ولأن الاسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالاسماء المترادفة والعكس كالاسماء المشتركة، وذلك يوجب المغايرة، ولأن الأصوات حروف مقطعة وضعت لتعريف المسميات وتلك الأعراض غير باقية، والمسمى قد يكون باقياً، بل قد يكون دائم الوجود كالباري تعالى، ولأنك تقول: سميت هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية غير المحلى، فكذلك الاسم غير المسمى، وأيضاً فإنا نصف الاسماء بكونها عربية وفارسية فنقول: الله اسم عربي، وحداي اسم فارسي وذات الله منزهةٌ عن ذلك.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : ونقول لهم أخبرونا عن أسماء الله هل هي موجودة في الكتب وصدور العارفين أم لا؟ فإن قالوا: لا خالفوا الإجماع والكتاب والسنة والعقل، وإن أقروا صح أنها له وأنها غيره.
قلت: والأدلة على ذلك شهيرة عقلاً ونقلاً، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الأعراف:180 ]ولم يقل هو الاسماء الحسنى ولا المسميات الحسنى، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن لله تسعة وتسعين اسماً ))، وقال: ((تسموا باسمي))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لي خمسة أسماء )). ولا يصح أن يقال في ذلك كله أن المراد بها المسميات، وأيضاً إنا نقول بسم الله ولا نقول بمسمى الله، ومن كلام على عليه السلام في الدرة اليتيمة: (له سبحانه من أسمائه معناها وللحروف مجراها؛ إذ الحروف مبدوعة، والأنفاس مصنوعة) وفيها عنه عليه السلام : (إن قلت متى فقد سبق الوقت، كونه، وإن قلت قبل فالقبل بعده، وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه).
وروي عنه عليه السلام أنه قال: (من عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بحقيقة المعرفة فهو مؤمن حقاً). ذكره في حقائق المعرفة.
وقالت (الكرامية) ومتأخروا (الحنفية)، وحكاه (الرازي) عن (الحشوية)، و(الأشعرية): بل هو نفس المسمى، وحكاه القرطبي عن أبي عبيدة وسيبويه، قال: وارتضاه ابن فورك، ونقله القاضي أبو بكر بن الطيب عن أهل الحق، واحتجوا على ذلك بأن أحدنا يقول: طلقت زينب، فلو لم يكن الاسم هو المسمى لم يكن الطلاق واقعاً عليها.
قلنا: معناه الشخص المسمى بزينب، لكن اقتصر على الاسم اختصاراً لقيام القرينة، ولهذا قد لا يقتصرون فيقولون: مررت بالرجل المسمى فلاناً.
قالوا: إذا قيل قام زيد وخرج وضحك ومات، فإنما القائم والخارج والضاحك والميت المسمى، والفعل لم ينسب إلا إليه.
قلنا: جوابه كالأول وتحقيقه أن الألفاظ لم توضع على المسميات إلا توصلاً إلى الأخبار عنها والحكم عليها بما يعرض لها، فإذا قال القائل: قام زيدٌ فالمعنى قام مدلول هذا اللفظ، لكن استغني باللفظ اختصاراً وهذا واضح، ولهذا يفرق بين لفظ الاسم ولفظ المسمى، فيقال: الاسم عبارة عن اللفظ الموضوع على المسمى، والمسمى عبارة عما وضع عليه ذلك اللفظ.
قال (أبو حيان): الاسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوساً، وفي الأذهان إن كان معقولاً من غير تعرض ببنيته للزمان، ومدلوله هو المسمى.
قالوا: قال تعالى: {بسم الله} والله تعالى هو الذات المقدسة لا الصوت ولا الحرف.
قلنا: كما يجب علينا تعظيم ذات الله تعالى، يجب علينا تعظيم اسمه وتشريفه بالتبرك به، والابتداء بذكره.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : ليس لهم فيه حجة؛ لأن مراد المتكلم قطعاً التبرك بالبداية بسم الله لا أنه أراد أن يبتدئ بذات الله.
قلت: مع أن الله قد تعبدنا بالتسمية كما تعبدنا بغيرها من الأقوال لما علمه لنا من المصلحة في ذلك، قالوا: قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما .... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
وإنما أراد باسم السلام نفس السلام. قلنا: هذا حجة عليكم لأن السلام من أسماء الله، فإن كان الشاعر أراد هذا فلا إشكال إذ المقصود التبرك باسمه تعالى، وإن أراد التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وهو المسمى وباسمه لفظه الدال عليه، والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما، فيراد بالأول اللفظ، وبالثاني المعنى كما تقول: زيد بطة ونحوهما مما يراد بأحدهما اللفظ، وبالآخر مدلوله، وفيه نكتة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني، بل أنا مراعيه دائماً، وأجاب بعض المحققين بأن لبيداً لم يرد إيقاع السلام لوقته، وإنما أراد بعد الحول، ولو قال السلام عليكما لكان مسلماً لحينه، فلذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك لأن السلام دعاءٌ، والدعاء لا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه، ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة أو بعد الموت: اللهم اغفر لي، وإنما يقال: اللهم اغفر لي بعد الموت أو بعد الجمعة، فيكون بعد ظرفاً للمغفرة، والدعاء واقع لحينه، فإذا أردت أن تجعل الوقت ظرفاً له للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت بعد الجمعة أدعو بكذا؛ لأن الظروف إنما يراد بها الأحداث الواقعة فيها، وبهذا يتضح لك أن لبيداً لو قال: إلى الحول ثم السلام عليكما لكان مسلماً لحينه، ولكنه لما أراد أن لا يوقع اللفظ بالسلام إلا بعد الحول ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفاً، وهو جواب حسن، وأما أصحابنا فحملوا البيت على مجاز الزيادة، أو على إقحام لفظة اسم لاستيفاء الوزن.
واعلم أن في الرواية عن سيبويه نظر لنصه على أن الاسم غير المسمى، فقال: (الكلم: اسم، وفعل، وحرف)، فقد صرح بأن الاسم كلمة، وكيف تكون الكلمة هي المسمى وهو شخص.
قيل: وفي كتابه قريب من ألف موضع يدل على أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى.
بل قال (ابن القيم): إنه لم يقل نحوي قط ولا عربي أن الاسم هو المسمى.
قلت: وعندي إن الخلاف لفظي، وقد ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، وتوضيحه ما ذكره الرازي في تفسيره وهو أن يقال: إن كان المراد بالاسم اللفظ الذي هو أصوات وحروف، وبالمسمى الذوات والحقائق بأعيانها فالعلم ضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى، والخوض في المسألة على هذا عبث، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان المعنى أن ذات الشيء غير الشيء، وهذا وإن كان حقاً إلا أنه من توضيح الواضحات.
قلت: وحاصله أن الاسم قد يطلق تارة ويراد به الدال، ويطلق أخرى ويراد به المدلول، لكن إرادة المعنى الثاني تحتاج إلى قرينةٍ، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله تعالى.