فإن قلت: فما الحق عندك في هذه المسائل؟ قلت: الحق أن العبد متعبد بالعمل بالدليل، وقد قام الدليل على العمل باليقين في الطهارة، وأن الصلاة لا تؤدى إلا بطهارة كاملة متيقنة فمن لم يحصل له اليقين بتمام الطهارة المعتبرة عنده وجب عليه الإتيان بما لم يتيقنه، ولا فرق بين ما دليله ظني وما دليله قطعي، ولا فرق بين الظن والشك في عدم العمل به هنا، وتأمل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل تجد لهذه الفروق والتفاصيل أصلاً فيهما يرجع إليه، أو دليلاً يعول عليه؟.
واعلم إن ما ذكرناه من أنه لا يعمل بالشك ولا بالظن في حصول الطهارة، وأن من شك في ترك شيء منها يجب عليه إعادته، ولا يعمل فيه بالظن، إنما هو في حق من يعرض له هذا العارض في بعض الأوقات لا في حق من قد غلبت عليه الوسوسة والشك في اليقينيات والضروريات، فليس ما يعرض له من الشكوك إلا من تلبيس شيطان الوضوء قطعاً، والعمل بما يوسوس به محرم شرعاً؛ لأنه من خطوات الشيطان لعنه الله، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }[البقرة:168].
وعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان ، فاتقوا وسواس الماء)). والولهان: بفتح الواو من الوله وهو التحير سمي بذلك لأنه يحير المتطهر فلا يدري هل عم عضوه، أو غسل مرة أو غير ذلك، وهذا نص في المقصود إذ ليس المراد باتقائه إلا الإعراض عنه، وعدم العمل به لا عدم الوسوسة؛ إذ ليست من فعله خلا أنه إذا تكرر منه الإعراض وعدم الانقياد تركه الخبيث وشأنه، إذ لا يتعب نفسه فيما لا طائل تحته، ولا يغفل العبد عن دفع الوسوسة وكيد الشيطان بنحو ما تقدم من الأذكار، وصالح الأعمال، ولأئمة الهدى وغيرهم من العلماء رسائل ومسائل في تحريم العمل بهذا الشك، وهو الحق لأنا إذا قد علمنا أنه من عمل الشيطان فلا شك في تحريم العمل به.
قال (الهادي) عليه السلام : الشك وعوارضه وما يدخل منه على الإنسان فوسواس من الشيطان يدخلها على المربوبين ليباعدهم بها من رب العالمين، وذلك أن في الشك من معاصي الله وخلافه ممن أحدثه وألزمه نفسه أموراً تكثر، ثم عدد صوراً، منها: أن يوسوس له أنه قد طلق زوجته وهو في الواقع لم يطلقها فيفارقها فيتزوجها غيره وهي امرأته، فيكون عند الله من الهالكين لإمكانه غيره من امرأته بوسواس الشيطان وخطرات الشك، ثم قال: ولذلك قلنا: إن من ألزم نفسه الشك وعمل به وبما يعارضه الشيطان منه أثم، والذي دخل عليه في قبول الشك أعظم مما يخافه في دفعه، واحتج على ذلك بأن الله تعالى قد فرق بين الشك واليقين، فأوجب العمل باليقين وحرم العمل بالشك، قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12 ]وقال: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا }[النجم:28].
قال: والشك هو التحير، والظن من الإنسان، واليقين فهو الثبات، والحق والصدق، ثم قال عليه السلام : فلذلك -أي للفرق بين الشك واليقين- قلنا: أن الواجب على من داخله من الشك شيء أن ينفيه ويطرحه، ويبعده عن نفسه، ولا يعمل به في شيء من أمره واطراح الشك والمضي عنه، وترك العمل به أحوط وأسلم لمن ابتلي بوسواسه، وأمكن الشيطان من قلبه ونفسه.
وروى عليه السلام عن جده القاسم بن إبراهيم عليه السلام : أنه سئل عن رجل كثير الشك والامتراء في الصلاة وغيرها من الأشياء، فهو يظن أنه قد حلف، ويظن أنه لم يصل بعض صلاته وإن كان قد صلى، ويظن أنه قال فأكثر وإن لم يكن قال قولاً، فقال: هذه كلها شكوك وظنون لا يحكم بها ولا عليها، ولا يلتفت في حكم الحق البريء من الظن إليها، وليس لأحد أن يحكم بعتق ولا غيره في الدين إلا بما لا مرية فيه ولا شك من التثبيت واليقين، ثم احتج بنحو ما تقدم من افتراق حكم الشك واليقين حتى قال: فمن ملكه الله عبداً أو غيره فلا يزول ملكه عنه بيمين، ولا غير يمين إلا بما يزيل به ما ملكه الله إياه من حقائق اليقين، وهذا من الشيطان ووسواسه في هذا الباب، وفي الصلاة وغيرها فإنما هو تشكيك وارتياب حتى يخرجهم فيما كان من ذلك إلى غير مخرج، ويوهمهم أنما هم عليه من الخطأ فيه من الاحتفاظ والتحرج، وفي هذا من الإثم والوزر ما لم يعلم علمه إلا الله. ذكره في الأحكام وفي الجامع الكافي.
وروى محمد بإسناده عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام : إن المغيرة يتوضأ بجر أو قريب منه، فقال: ذاك عذاب عذبه الله به، قال: وسألته عن الوضوء، فقال: أسبغ ولم يحده لنا.
وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون: كثرة الوضوء من الشيطان، وفيه قال محمد: وإذا شك في مسح رأسه وهو يصلي فلينصرف ويمسح رأسه، وإن كان قد جف الطهور، وإن كثر هذا عليه مضى في صلاته ولم يعبأ به.
قال (الحسني): وعلى هذا القول إذا توضأ فشك في بعض وضوئه غسل ما شك فيه، إن كان ذلك أول ما شك، وإن كان هذا يعرض له كثيراً في صلاته أو بعد الفراغ منها لم يلتفت إليه ومضى في صلاته.
وقال (المنصور بالله) عليه السلام : وإذا شك المتوضئ وكان غير مبتلى بالشك أعاد من الموضع المشكوك فيه، وإن كان مبتلى غلب ظنه، وإن اعتدل بنى على الأقل، ولا حكم للشك فيما مضى، ولا يزول اليقين إلا بيقين. ذكره في المهذب، وللإمام يحيى عليه السلام رسالة إلى بعض أهل الشك والوسوسة في الطهارة بين فيها أن ذلك من تلعب الشيطان، وأن الوسوسة واتباعها مما يبعد عن رضا الرحمن بما فيه من مخالفة منهاجه القويم، والبعد عن سلوك الصراط المستقيم، والعدول إلى متابعة وساوس الشيطان الرجيم، وعدم اقتفاء ما أثر عن الصحابة، وأكابر أهل البيت وعلماء الأمة من التخفيف في الطهارات كلها، ثم قال: فسر سيرتهم، واقتف آثارهم، واترك بدعتك وجهالتك، فما أنت في ارتكاب هذه البدعة والاستمرار على هذه الضلالة، وإنكار القواطع الشرعية، وإبطال حكم القواطع النقدية من النصوص القرآنية، والظواهر الشرعية والإجماعات اليقينية إلا مشبهاً للسوفسطائية من إنكار القضايا العقلية، والمدركات الحسية، وكفى بها فضيحة بين علماء الشريعة مشابهتك لهذه الفرقة فيما أنكرته مما وضح اشتهاره، وصار ليله في الظهور كنهاره.
قال عليه السلام : وقد نصحك صاحب الشريعة صلوات الله عليه وآله وسلم عن الدخول في هذه البدع، وأمرك بالإعراض عنها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء)). ثم ذكر عليه السلام أن من هذا حاله لا تعويل على ظنونه في أحوال العبادات كلها؛ لأنها ظنون سوداوية، ولانحرافه عن قصد الشرع، قال: وكيف يكون عليه تعويل في أمور العبادة في الطهارة وغيرها، وقد خرج عن الحد وصار مُطْرَداً في نظر الشرع والعقل، والله تعالى لم يتعبدنا بالشك أصلاً في حالة من الحالات، فسر على السنة، ودع التعمق والبدعة.
وقال الإمام (محمد بن المطهر) عليه السلام في (المنهاج): ويستحب للمتوضئ أن لا يسرف في الماء مع الإتيان بالوضوء كاملاً.
قال عليه السلام : -يعني زيد بن علي عليه السلام كنا نؤقت في الوضوء للصلاة بمد والمد رطلان.
قال في (المنهاج): والوجه في ذلك ما رويناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ بمد من الماء، وقد روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((سيأتي قوم بعدي يستقلون ذلك أولئك على خلاف سنتي والآخذ بها في حظيرة القدس)).
وللإمام عز الدين عليه السلام في هذا الشأن رسالة شنع فيها على أهل الوسوسة بكلام باهر، ومعنى ظاهر، وحاصلها أن الشيطان لما أيس عن إلقاء من رسخ الإيمان في قلبه في الكبائر، وعظيم الجرائر، توصل إلى إغوائه من باب الديانة، فوسوس له بأنه لا كمال لدينه إلا بالدخول في هذه البدعة حتى أوقعه في اللبس، ونال منه من الميل به عن منهج الرشاد ما يريد، وحال من عرض له هذا العارض متفاوتة، فمنهم من يبلغ به إلى إنكار الضرورة فيعتقد ويقطع مع غسله للعضو مراراً كثيرة أنه لم يغسله حتى ترى منهم من يسأل الذي عنده، ومنهم من يقسم بالله أنه لا يزيد على ما قد فعل ليدفع بذلك نفسه والشيطان ثم يعود، ومنهم من يبلغ به الحال إلى ترك الصلاة في وقتها بأن يبالغ في الطهارة حتى يخرج الوقت، ومنهم من لا يبلغ به الحال إلى هذا الحد إلا أنه في عمله قد ارتكب مخالفة المشروع، وفوت على نفسه فضيلة الصلاة في أول وقتها، وصده ذلك عن الاشتغال بما هو أهم من أمر دينه ودنياه مما لا غنى به عنه، والكلام هنا فيمن هذه حاله هو المقصود، فأما من بلغ به الحال إلى ترك الصلاة في وقتها، وإنكار الضرورة، وإبطال حكمها واستعمال الأيمان المغلظة مع استمرار الحنث فيها، فتلك أمور ظاهرة الفحش، معلومة العصيان، مقتضية لغضب الرحمن، وقبحها لا يفتقر إلى بيان.
والذي نوجه إلى من ذكرنا أن نقول: المعلوم من حالك أنك لا تريد بطهارتك هذه إلا رضا الله وامتثال أمره، بحيث أنه لولم يوجب عليك الوضوء لما اشتغلت منه بشيء، فإذا كان الأمر هكذا فما الملجئ لك إلى تعدي المشروع إلى غيره، وتأمل هل يليق منك أن تشغل نفسك وتضيع وقتك في أمر لم يشرعه الله لك، ولا يعود عليك منه نفع في دينك ولا دنياك، وإنما فائدتك منه المقت من الله ومن الناس لمخالفتك ما شرعه الله.
فإن قلت: إن العبرة بغلبة الظن في إزالة النجاسة ولم يحصل لك ظن إلا بالجري على ما تعتاده، ولا يعد تعدياً إلا في حق من زاد بعد غلبة الظن.
قلنا: هذا من تخييل الشيطان، فإن الصحيح عند من يعتبر الظن ما ذكره بعضهم من أنه يعتبر ما لم يفض إلى الزيادة على الثلاث، ثم إن اعتبار الظن عند القائلين به إنما هو بالنظر إلى من يعرض له هذا العارض المخالف لمقتضى العقل والنقل، وكيف يعتبر الظن فيمن أفضى به الشك إلى مخالفة مقتضى العلوم الضرورية، والطرق اليقينية، ولو خطر ببال أبي طالب حال من هذه حاله لقطع بأنه متعد، وأن لا مراعاة لظن مثله، ولا اعتبار له، ولا قائل بأن الظن معتبر فيما يخالف حدود الشرع وينافيها.
فمن المعلوم قطعاً أن الذي يغسل عضوه عشر مرات أو عشرين مرة غير واقف على مقتضى الشرع، وأن ظنه فاسد، وأن هذا الذي عرض له من قبيل الوسواس قد صير ظنه غير معتبر، وقد أخل في حقه بصحيح النظر.
ثم إن كلام أبي طالب هذا إنما هو في إزالة النجاسة فما العذر في غسل الوجه ونحوه مراراً كثيرة، فلا ينبغي أن يعتل الشاك بقول نبي ولا إمام، وإنما الواجب عليه أن يعتقد أنه إنما أتي من قبل الشيطان لعنه الله، فإن وسوس في صدره وألقى في روعه أن يقول ما أردت إلا رضا الله، وتيقن الإتيان بما شرعه الله.
قيل له: رضاء الله لا يكون في ارتكاب البدعة، وحسن النية لا ينفع إلا إذا تعلق بالفعل على الوجه المشروع، وأما الاعتذار بأن اليقين لم يحصل إلا بهذا، فهو اعتذار بالجهل، وسبيله أن يداوي جهله وأن لا يعمل به في دينه، وتخليصه من هذا يحصل بأدنى تأمل، وهو أن يرجع إلى ما كان عليه معلم الشرع صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يجد الأمر يسيراً، فيتتبع كتب الآثار، وما نقله عنه العلماء الأخيار، فغرضنا الاقتداء به، والجري على ما كان عليه، وكذلك فليبحث عن حال الصحابة وأئمة العترة فإنه لا يبلغه عن أحد منهم الاعتداء في الوضوء، ولا المبالغة فيه حتى قال بعض الأئمة" فيمن زاد على الغسلات الثلاث فإنه قد أساء وتعدى وظلم...إلى آخر ما ذكره الإمام عليه السلام في هذه الرسالة وهي طويلة.
وغالب ما نقلناه منها بالمعنى ولغير ما ذكرنا من الأئمة والعلماء كلام في هذا الشأن، وجولان في هذا الميدان، يحذرون فيه من اتباع خطوات الشيطان، ويحرضون على الاقتصار والامتثال لما جاء في السنة والقرآن.
فإن قلت: لا شك أنه يجب اجتناب عمل الشيطان، لكن من أين لنا القطع بأن كل عارض يحصل عند الوضوء ونحوه فهو من وساوس الشيطان التي يجب اجتنابها، فما يؤمنك أن يلقي إليك أن هذه وسوسة شيطانية فاترك العمل بها ليتوصل بذلك إلى أن تأتي بصلاتك على غير طهارة كاملة.
قلت: قد علم قطعاً أن الشيطان يتوصل إلى إغواء الإنسان والتلبيس عليه بكل ممكن، وإذا كانت وسوسته ثابتة قطعاً، وتحريم العمل بها معلوم قطعاً فلا بد لنا من طريق إلى معرفتها، وقد أخبر الصادق بأن للوضوء شيطاناً، وأمرنا باتقاء وسوسته، وهذا يدل على أن غالب ما يحدث من الوسوسة فهو من ذلك الشيطان، وكذلك في غير الوضوء، وهذا معنى ما ذكره العلماء من أن من كثر منه الشك تركه كما يفيده كلامهم السابق، فقد جعلوا الكثرة دليلاً على كون ذلك وسوسة فقط، وجعلوا العارض النادر هو الذي تتعلق به تلك الأحكام من وجوب الإعادة والبناء على الأقل؛ لعدم القطع بكون ذلك من الشيطان.
فإن قلت: لا نسلم أن الكثرة تفيد اليقين بكون ذلك من عمل الشيطان حتى يجب اجتنابه.
قلت: بل تفيده مع الاختبار بل قد تفيد الضرورة كما في سائر التجربيات، والإنسان يعلم ذلك من نفسه ويعلمه منه غيره، وإذا ثبت أنه من عمل الشيطان وجب اجتنابه والإعراض عنه، وعدم العمل به، كما تفيده الأدلة السابقة وكلام القاسم بن إبراهيم عليه السلام وغيره.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام في رسالته: وقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي لذي الشك أن يتجنبه بكل ممكن ويطرحه، ولو خيل إليه أن صلاته باطلة واعتقد بذلك فلا يصرفه هذا الاعتقاد عن تخفيف الوضوء، فإنه بعد كسح النفس ومخالفتها، وعدم التعويل على اعتقادها هذا الفاسد يعود إلى صحة الاعتقاد، وطريق الرشاد، وتحصيل المراد.
وقال الشيخ (محمد الحفني) في شرح قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن للوضوء شيطانا ...)) إلخ ودواء الشيطان الإعراض عنه والإكثار من تلاوة: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ...}[إبراهيم:19]الآية.
وشكى بعض الصحابة له صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فأمره بأن يطعن أصبعه السبابة في فخذه اليسرى، وأن يقول بسم الله، فإنها سكين الشيطان أو مديته.
قلت: وهذا يقوي ماتقدم من عدم شرعية إعادة المشكوك فيه؛ إذ لم يأمره صلى الله عليه وآله وسلم بها، وإنما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بما يدفع شر الشيطان لئلا يشتغل قلبه بالوسوسة. أعاذنا الله والمؤمنين من شره آمين.
الفرع السادس: اختلف العلماء فيمن رأى بللاً ولم يذكر الاحتلام، فقال زيد بن علي، والإمام الحسن بن يحيى القاسمي، وولده فخر الإسلام، وأبو حنيفة، ومالك والثوري: يغتسل؛ إذ سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام، فقال: ((يغتسل)). وهو مخصص لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((المني الدافق إذا وقع مع شهوة )).
وقد ادعى ابن رسلان إجماع المسلمين على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني، وقال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا استيقظ الرجل فرأى بلةً أنه يغتسل، وهو قول سفيان وأحمد.
قلت: ورواه في الروض عن الناصر وغيره، وقال الهادي في الأحكام: ولو وجد في ثوبه منياً ولم يذكر جنابة لوجب عليه الاغتسال؛ لأنه قد رأى في ثوبه ما يجب عليه فيه الغسل، وقد يمكن أن ينسى ما رأى في المنام ولا يمكن أن يمني في ثوبه إلا من احتلام، وتأوله السيد أبو طالب على أن ذلك الثوب لم يلبسه غيره، ولا اغتسل بعد أقرب نومة من جنابة ولم يجوزه في غيره.
وقال أهل المذهب: لا بد مع تيقن المني من ظن الشهوة لخبر علي عليه السلام إذا كان الماء الدافق مع الشهوة، ولا بد من طريق إلى معرفة الشهوة فإذا تعذر العلم فلا بد من الظن، وأولوا حديث: ((ولا يذكر الاحتلام)) بأن معناه لا يتيقنه مع حصول الظن للشهوة.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وليس بواضح وإِنما ظاهره حجة لمن لا يشترط الشهوة، والاحتلام عبارة عن الشهوة، وقال في القاموس: الحلم والاحتلام الجماع في النوم.
قلت: والأولى أن يقال لا معارضة بين الأحاديث لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف المني بالدفق والفضخ والخذف، وهذه الأوصاف إنما تكون عند الشهوة واللذة غالباً، بل مطلقاً، وهي أوصاف تقييدية للمني بمعنى أنه لايكون منياً موجباً للغسل إلا إذا كان بهذه الصفة، وقد صرح بذلك في حديث علي عليه السلام وأصرح منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا خذفت الماء فاغتسل من الجنابة ، وإذا لم تكن خاذفاً فلا تغتسل)). والخذف يروى بالحاء المهملة والخاء المعجمة بعدها ذال معجمة مفتوحة وهو الرمي.
قال بعض العلماء: وفيه تنبيه على أن ما يخرج لغير شهوة إما لمرض أو بردة لا يوجب الغسل، وفي كلام المقبلي ما يدل على أن الخارج لفتور أو مرض أو أبرده لا يسمى منياً إلا على جهة المشابهة، وهذا يقوي القول بأن الدفق ونحوه خاصة للمني، وإذا ثبت هذا تقرر عدم المعارضة، وأن وجوب الغسل على من وجد البلل ولم يذكر الاحتلام للقطع بوقوع الشهوة حيث قلنا: إنه لا يكون منياً إلا ما صاحبها أوظنها، حيث قلنا: إن الغالب مصاحبتها للمني، والأ حكام مبنية على الغالب، وإطلاق الحديث مبني على الغالب مع أن الرائي قد ينسى ما رآه في نومه كما صرح بذلك الإمام الهادي عليه السلام وقد حمل الإمام محمد بن مطهر قول زيد بن علي عليه السلام في الرجل يجد البلل ولا يذكر الرؤيا إذا كان ماء دافقاً اغتسل على اشتراط مقارنة الشهوة، لروايته حديث تقسيم الخارج إلى أمورثلاثة، وفيه: والمني هو الماء الدافق إذا وقع مع الشهوة.
قال: أما اشتراط الشهوة فقد نص عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما هذه المسألة فإنه عليه السلام بنى على ذلك على أن الإنسان كثير النسيان فربما أنه رأى ونسي والجبلة الإنسانية على ذلك، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج فصلى في أصحابه وهو جنب ثم ذكر فانفتل... الخبر.