الركن الثاني: المستعاذ به
وهو الله تعالى لأنه الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وقد وردت الاستعاذة بكلمات الله ونحوها، والمقصود التوسل بها إلى الله تعالى لفضلها وكرامتها عليه، وإلا فالاستعاذة الحقيقية لا تكون إلا بالله تعالى.

الركن الثالث: المستعيذ
وهو كل مكلف إذ كل أحد محتاج إلى ربه، وإلى الالتجاء إليه في دفع الشرور كلها، وقد حكى الله مطلق الاستعاذة عن أنبيائه وأوليائه وأمر بها في كتابه، وأرشد إليها على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

الركن الرابع: المستعاذ منه وهو الشيطان
والمقصود دفع شره من الوسوسة وغيرها من همزه ونفخه وخدعه ونحوها، ويتعلق بهذا الركن مسألتان:
المسألة الأولى: دلت الاستعاذة على وجود الشيطان؛ إذ المعدوم لا يكون منه فعل فيستعاذ منه، والكتاب والسنة ناطقان بوجوده، وذلك معلوم.
المسألة الثانية: في الحكمة في خلق إبليس، وتخليته وتمكينه من إغواء العباد، وإنزال الضرر بهم كما يقتضيه قوله تعالى: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }[البقرة:275]، والذي يجري على قواعد العدلية أن وجه الحكمة في ذلك أنه زيادة في التكليف، وذلك أدخل في باب الثواب، إذ الثواب على قدر المشقة، ولا شك أن هذا الوجه يقتضي حسن هذا التمكين كما يقتضي حسن التكليف.
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : وقد يمكن أن يكون إضلال الشيطان للإنسان بالإرسال من الله والتخلية عقوبة للإنسان على معصيته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا}[النساء:137].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36].
وأما تمكينه من إنزال الضرر فكسائر وجوه الابتلاء من الأمراض والمصائب، وخلق الحيات والعقارب، ووجه الحكمة في ذلك ما فيه من التعريض على الخير بالصبر على البلوى والمحنة، فإن قلت: إذا كان وجه الحكمة في تمكين إبليس من الإغواء هو ما ذكرتم من زيادة مشقة التكليف التي يعظم معها الثواب، فهل يحسن من الله تمكينه من إضلال من لو لم يدعه إلى الضلال لم يضل؟

قلت: قد اختلف في ذلك أبو هاشم وأبو علي، فقال أبو هاشم: يجوز ذلك كما تجوز زيادة الشهوة لمن لو لم يزدها له لم يعص؛ لأن ذلك زيادة في مشقة التكليف وهي جائزة، كما جاز ابتداء التكليف لمن علم أنه لا ينتفع به تعريضاً للثواب، فكذلك تجوز الزيادة في المشقة تعريضاً للزيادة في الثواب.
وقال (أبو علي): لا يجوز شيء من ذلك إذ تكون تلك الزيادة مفسدة للمكلف حينئذٍ، وأجيب بأن تلك الزيادة لو كانت مفسدة للزم في ابتداء تكليف من علم أنه يكفر أن يكون مفسدة لاستوائهما في كونهما تعريضاً للثواب، والمعلوم خلافه.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : ولقد خالف أبو علي في هذه المسألة ظواهر نصوص كثيرة من القرآن كقوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}[الأعراف:27].
فصرح تعالى بأن خروجهما كان بسبب وسوسته، وقال تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }[الحجر:42]، ونظائر ذلك كثيرة.
قال عليه السلام : ولا موجب لتأويلات أوردها متعسفة تقريراً لأصله، ولا ملجئ إليه.

الركن الخامس: في المطالب التي لأجلها يستعاذ
اعلم أن ما من شر من الشرور إلا والعبد محتاج إلى دفعه، فقوله: أعوذ بالله متناول لدفع جميع الشرور سواء كانت اعتقادية كالعقائد الباطلة أم عملية دينية كارتكاب ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر به، أو دنيوية كالآلام، والغرق، والفقر، والزمانة، والعمى وغيرها من المكروهات والمخافات التي لا تكاد تنحصر، وينبغي للعاقل إذا قال أعوذ بالله أن يستحضر هذه الأنواع وأقسامها كانقسام العقائد الباطلة إلى التعطيل والتجسيم، وإنكار النبوة، واعتقاد البدع التي أفضت بالأمة إلى الافتراق إلى ثلاث وسبعين فرقة وغير ذلك، وقس الباقي عليها فإنه إذا استحضر تلك الأنواع على كثرتها ثم علم أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفعها حمله طبعه وعقله على الالتجاء إلى القادر على ذلك، فكأنه قال: أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام المخافات والآفات والمكروهات، هذا إذا كانت الاستعاذة مطلقة، فأما إن كانت مقيدة بالاستعاذة من الشيطان الرجيم فالمراد كلما يدخل تحت مقدور الشيطان من تلك الشرور.
وهاهنا نكتة ذكرها الرازي، وهو أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم إن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن؛ لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن، وتفكر في وعده ووعيده، وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات، ورهبته عن المحرمات، فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعي الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة، وبهذا تم الكلام على ما يتعلق بالاستعاذة من مهمات المسائل العقلية، وما يتصل بها، وهو الموضع الأول من الموضعين الذين بنى الكلام في الاستعاذة عليهما.

ما يتعلق بالاستعاذة من المسائل الفقهية
الموضع الثاني: فيما يتعلق بالاستعاذة من المسائل الفقهية وما يتصل بذلك وفيه مسائل:
المسألة الأولى [وقت الاستعاذة]
وقت الاستعاذة قبل القراءة عند الجمهور سواء كان في الصلاة أو خارجها، وذهب أبو هريرة، ومالك، وداود، والنخعي، ومن القراء حمزة إلى أنه بعد القراءة، وهو إحدى الروايتين عن ابن سيرين، وحكاه الخازن في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين.
قال (أبو حيان): وهو الظاهر لظاهر الآية إذ الفاء للتعقيب، ولأن القراءة في الآية شرط والاستعاذة جزاء والجزاء متأخر عن الشرط، ولأن القارئ يستحق ثواباً عظيماً، وربما داخله عجب أو وساوس، هل يحصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعدها اندفع ذلك.
احتج الجمهور بحديث أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك))، ثم يقول: ((الله أكبر كبيرا))، ثم يقول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه))، الهمز: قيل: الموتة، قيل: وهي الجنون؛ لأن من جن فقد مات عقله، وقيل: همزه: وسوسته، ونفخه: قيل: الكبر، وقيل: ما يلقيه من الشبه في الصلاة ليقطعها، والنفث: الشعر، وقال ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )).
وعن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاةً حين افتتح الصلاة قال: ((الله أكبر كبيرا ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات)) ثم قال: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)).

وقد روي من دون ذكر التثليث، ومن دون زيادة من همزه وما بعده، ولفظه عن جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل في الصلاة قال: ((الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم)).
وعن علي عليه السلام في الاستفتاح: ((الله أكبر اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدِي من هديت، ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت ربنا وتعاليت، سبحانك رب البيت))، ثم يتعوذ ثم يقرأ.
وعن علي عليه السلام أنه إذا استفتح الصلاة قال: ((الله أكبر وجهت وجهي ...إلى قوله وأنا من المسلمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، ثم يبتدئ ويقرأ.
وعن (الأسود) قال: رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يتعوذ.
وفي الباب عن أبي أمامة وغيره. قالوا: وهذه الأخبار والآثار توجب ترك الظاهر، وتأويله بمعنى: فإذا أردت القراءة، عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأنه يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان بسبب قوي وملابسة ظاهرة، وله نظائر: منها قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ }[المائدة:6]، وقولهم: إذا سافرت فتأهب، وإذا أكلت فسم، على أنا لا نسلم ظهورها فيما ذكرتم بل تحتمله وتحتمل ما ذكرنا، والأخبار تعين أحد المحتملين وهو قولنا.

وأما الدليل العقلي الذي أبديتموه فمعارض بأن الوسوسة إنما تعرض في أثناء القراءة بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ }[الحج:52 ] فكان تقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب تلك الوسوسة أولى من تأخيرها، على أن تقديمها يتناول ما وقع من الوسوسة عند القراءة، وما وقع بعدها من العجب ونحوه، فكان التقديم أكثر فائدة. والله أعلم.
قال (الرازي): وأقول هاهنا قول ثالث، وهو: أنه يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.
المسألة الثانية [شرعية الاستعاذة وحكمها]
دلت الآية على أن التعوذ مشروع للقارئ سواء كان في الصلاة أم في غيرها، واختلف العلماء في حكمه، فقال الجمهور: هو سنة في الصلاة وغيرها، فلو تركه المصلي لم تبطل صلاته سواء تركه عمداً أو سهواً، وقال عطاء: بل واجب في الصلاة وغيرها، وقال ابن سيرين: إذا تعوذ الرجل في عمره مرة واحدة كفى في إسقاط الوجوب، وظاهر كلام الرازي ترجيح قول عطاء لظاهر الآية؛ ومواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الاستعاذة.

أجاب الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فكان هذا صارفاً لما يفيده ظاهر الآية، والمواظبة من الوجوب إلى الندب، على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست واجبة كتكبير النقل والتسبيح، والتعوذ مثلها، مع أنا لا نسلم المواظبة فقد رويت استفتاحات كثيرة لم يذكر فيها التعوذ، ولقائل أن يقول: خبر الأعرابي لا ينفي وجوب الاستعاذة لأن الأمر بها لأجل القراءة لا لأجل الصلاة، والخبر وارد في بيان واجبات الصلاة التي لا تتم إلا بها، وليست الاستعاذة كذلك، ألا ترى أنه لو سقط فرض القراءة عن المصلي لم تشرع في حقه الاستعاذة فاكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذكرها بالأمر المتناول للقراءة في الصلاة وغيرها، ولأنها تبع للقراءة، فكان الأمر بالقراءة أمر بها، وكذلك الجواب عن عدم ذكرها في بعض روايات الاستفتاح فإنهم ربما اقتصروا على ما يتعلق بالصلاة بخصوصها، مع أن خبر الأعرابي لم يشمل جميع واجبات الصلاة، فالأولى أن يقال: الصارف للظاهر عن الوجوب الإجماع على أنها سنة. رواه الحاكم.
ولعل انعقاده بعد انقراض عصر المخالف، وأما ابن سيرين فيمكن الاحتجاج له بأن الأمر لا يدل على التكرار إلا أنه يرد عليه أن المواظبة قرينة مفيدة للتكرار. والله أعلم.
فائدة [في إطلاق القرآن]
المراد بالقرآن في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ...} [النحل:98] الآية، الجنس الصادق بالبعض، قال في الثمرات: لا أن المراد جميع القرآن، ولعل هذا إجماع أعني أنه مشروع للبعض كما هو مشروع للكل.
فرع [في صحة صلاة من ترك الاستعاذة]

لو قيل: بوجوب التعوذ فالظاهر أن الصلاة لا تفسد بتركه لما مر من أن وجوبه لأجل القراءة فهو واجب مستقل، وكذا لو سلم وجوبه لأجل الصلاة إذ ليس جزءاً منها ولا شرطاً في صحتها، وإنما شرع لصرف الشيطان عن الوسوسة ونحوها، وذلك أمر خارج عن مسمى الصلاة.
المسألة الثالثة [الاستعاذة في الصلاة]
الاستعاذة مشروعة في الصلاة في كل زمان عند أهل البيت" والأكثر من غيرهم، وقال مالك: لا تشرع إلا في التراويح في قيام رمضان، لنا ما مر، ولا دليل لمالك.
المسألة الرابعة [مشروعية الاستعاذة في صلاة النوافل]
عموم ما تقدم يدل على أنها مشروعة في النفل، بل حديث أبي سعيد نص في ذلك.
المسألة الخامسة [التعوذ في الركعة الأولى أم في كل الركعات]
قال الأكثر: ولا يتعوذ إلا في الركعة الأولى، قال السيد محمد بن الهادي بن تاج الدين عليه السلام : التعوذ في الصلاة مرة واحدة، وهو الظاهر من قول أهل البيت" وقول جمهور العلماء وعامتهم، وذهب ابن سيرين إلى أن التعوذ في كل ركعة من الصلاة، والدليل على قولنا إنه لم ينقل ذلك أحد من الصحابة ولا قال به أحد من عيون العلماء في جميع الأعصار والأمصار، فلا يبعد أن يكون خلاف الإجماع، وقال في (نيل الأوطار): الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى، وقد ذهب الحسن، وعطاء، وإبراهيم إلى استحبابه في كل ركعة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بالله }[النحل:98 ]ولا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن، وهي أعم من أن يكون القارئ خارج الصلاة أو داخلها، وأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة يدل على المنع منه حال الصلاة من غير فرق بين الاستعاذة وغيرها مما لم يرد به دليل يخصه، ولا وقع الإذن بجنسه، فالأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط.

23 / 329
ع
En
A+
A-