الفصل الثالث: في ذكر شيء مما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وعن بعض قدماء أهل البيت عليهم السلام مما يوهم القول بالجبر وذكر تأويله أو إبطاله
فمن ذلك ما في الجامع الكافي عن أحمد بن عيسى" أنه قال: أفعال العباد مخلوقة، هي من الله خلق، ومن العباد فعل، لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا فعل العباد تقدم خلق الله، وقد سئل علي عليه السلام عن ذلك فقال: (هي من الله خلق، ومن العباد فعل، لا تسأل عنها أحداً بعدي).
وفيه قال (محمد)، وحدثني على بن أحمد، عن أبيه قال: سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن أعمال العباد أشيء منهم أم من الله؟ فقال: خلقها الله وعملها العباد، ولا تسأل عنها أحداً بعدي.
وفيه قال (الحسن) عليه السلام : (أفعال العباد مخلوقة، أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره الأفعال وغير ذلك، والحجة في ذلك كتاب الله، ثم احتج بآيات نحو قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } [مريم:89]إلى قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً }[مريم:92]وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }[القمر:52 ] وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }[الصافات:96].
قال: والنطق والشهوة والحركة من الإنسان مخلوقة، وقال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين:4].
قال: وكل الخلق يقرون بأن الإنسان مخلوق، وليس منه شيء إلا وهو مخلوق، وهذا القدر كاف فيما يتعلق بهذا الموضع.
والجواب: أن هذا الكلام المروي عن هؤلاء " ليس على ظاهره لوجوه:
أحدها: أن القول بالعدل هو المشهور عند أهل البيت " سيما قدمائهم".
قال القاضي العلامة (عبد الله بن زيد العنسي) رحمه الله: فأما أهل البيت" فإضافة الأفعال إلى العباد معلومة بالتواتر عنهم، وهو دينهم ودين آبائهم وأبنائهم لا يعرفون غيره، وأخذوا ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام .
الثاني: أن (القاسم بن إبراهيم) عليه السلام ممن يقول: بكفر المجبرة، وذلك مشهور عنه، ولم يحك عن أحد من أهله القول به، بل عد جماعة منهم في كتاب الرد على الروافض وقال: إنهم أخيار آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكر منهم الصادق، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله وغيرهم ممن لا ينعقد الإجماع الذي رواه الحسن بن يحيى عليه السلام بدونهم، ثم قال القاسم عليه السلام في وصفهم: كانوا أزهد الخلق وأعلم الخلق، وكانوا فرجاً للمستضعفين من عباد الله الذين كانت وجوههم كصفائح الفضة ملس يبس من خوف الله، صفر الألوان من سهر الليل، قد انحنت أصلابهم من العبادة، باكية أعيانهم من خوف الله وشفقة من عذاب الله، لم يستحلوا ما استحل غيرهم من قبض أموال الناس، ولا يستأثرون بشيءٍ في المسلمين مثلما استأثر غيرهم، أحدهم إذا وصله المؤمن وصله بمائة ألف فما دونها من صميم أموالهم، وخرجوا من أموالهم زهداً في الدنيا ورغبة فيما عند الله، فلو كانوا يقولون بشيء من الجبر لما مدحهم القاسم عليه السلام بهذه الأوصاف؛ إذ كلامه في ذم المجبرة مشهور غير خاف، وبعضهم من أهل عصره، بل ممن بايع القاسم عليه السلام في بيت محمد بن منصور المرادي .
فقد روي أنه اجتمع القاسم، وأحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، وعبد الله بن موسى في بيته وتشاورا في قيام أحدهم حتى اجتمع رأيهم على القاسم عليه السلام وبايعوه، فلو كان فيهم من يقول بالجبر لما رضى القاسم عليه السلام بعرض البيعة عليه، وهذا وجه قوي.
الثالث: أنه قد روي عمن شملهم الإجماع التصريح بما يدفع ظاهره، بل قد روى عن الحسن بن يحيى وأحمد بن عيسى ذم الجبر وعدم القول به، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام للشامي مشهور، وكذا ما رواه عند الأربعة الذين سألهم الحجاج عن القضاء والقدر، فقال: لقد أخذوها من عين صافية.
ومن كلامه عليه السلام في خطبته الغراء: فلم يكلفه ما لا يطيق أنظره بالأمر، ومد له في العمر، ثم كلفه دون الجهد، ووضع عنه ما دون العهد، وقد أطلقه للفكر، وحثه على النظر بعد وصفه له الأدلة، وإزاحته له كل علة.
ومن كلام زين العابدين عليه السلام لما حمل إلى عبيد الله بن زياد بعد أن قُتل أبوه وأخوه، وقال له ابن زياد: ألم يقتل الله علي بن الحسين؟ فقال عليه السلام : قد كان أخي يسمى علياً وكان أكبر مني وإنما قتله الناس لا الله، قال: بل الله، قال: فالله إذن قتل عثمان فانقطع اللعين.
وروي عنه عليه السلام أن سائلاً سأله عن القضاء والقدر فقال:
لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها .... إحدى ثلاث خصال حين نأتيها
أما تفرد مولانا بصنعتها .... فاللوم يسقط عنا حين ننشيها
أو كان شاركنا فاللوم يلحقه .... إن كان يلحقنا من لائم فيها
أولم يكن لإلهي من جنايتها .... فعل فما الذنب إلا ذنب جانيها
سيعلمون إذا الميزان مال بهم .... أهم جنوها أم الرحمن جانيها
وقيل إنه عليه السلام قال ما هذا معناه، فنظمه الشاعر، وبعضهم روى هذه الرواية عن جعفر الصادق عليه السلام .
وروي عن زيد بن علي عليه السلام أنه لما خرج جاءه أبو الخطاب فقال له: عرفنا ما تذهب إليه، فقال: إني أبرأ من القدرية الذين حملوا ذنوبهم على الله.
وسئل الصادق عليه السلام عن القدر، فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله، وما لم تستطع فهو فعل الله يقول الله للعبد لم عصيت؟ ولا يقول:لم مرضت.
وقال (أحمد بن عيسى ) عليه السلام : والحجة من الله تلزم العباد بما ركب من جوارحهم وسلامتها من الآفات المانعة لهم من الفهم بها والحركات، فمن علم منه الهداية جاءته من الله المعونة والتوفيق، ومن علم منه الضلالة خذله فلم يكن له منه هداية، وذلك من منِّ الله على أوليائه وأهل طاعته بسابق علمه فيهم. ذكره في الجامع الكافي.
وفيه عن (الحسن بن يحيى) عليه السلام ومحمد بن منصور لا تقول إن الله أجبر العباد على معاصيه ولا فوض الأمور إليهم قال: لأن المجبر لا يجبر على ما يحب ويهوى، وإنما يجبر على ما يكره الدخول فيه ويبغضه، وليس أحد يدخل في المعصية إلا وله فيها شهوة ومحبة، ومن زعم أن الأمور مفوضة إليه فقد زعم أن الله أعطاه أعظم مما أعطى الأنبياء، وكيف يكون الأمر مفوضاً إلى عبد، والرزق، والموت، والحياة، والقلب، والسمع، والبصر، والأجزاء مملوكة عليه، والقدرة محيطة به، ولو كان الأمور إلى العباد لم يكن العاقل الشديد البطش، المنطلق اللسان، الثابت الحجة تبعاً للجاهل الضعيف، فتبارك الله أحسن الخالقين الذي لا يكون إلا ما شاء كما شاء على ما شاء.
وقال (الحسن) أيضاً: (لم يجبر الله العباد على الأفعال، ولم يفوض الأمر إليهم، ولم يكلفهم إلا ما طوقهم، وجعل لهم السبيل إلى فعله) إلى غير ذلك مما روى عنه وعن غيره، مما يدل على دفع ظاهر ما حكيناه أولاً عن علي عليه السلام وأحمد بن عيسى، والإجماع الذي رواه الحسن بن يحيى عليه السلام .
فإن قلت: قد ثبت بما قررتم أن أهل البيت" قائلون بالعدل جميعاً فما تأويل هذا المروي عنهم؟ قلت: هو من المجاز العقلي الذي أسند الفعل فيه إلى السبب، وهو في القرآن كثير، وهو أحد الوجوه التي حمل عليها قوله تعالى:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }[البقرة:7].
والقرينة: ظهور مذهبهم في العدل، وقد تقدم شيء من ذلك، بل في تفسيرهم لما حكيناه عنهم تصريح بهذا، وذلك أن أحمد بن عيسى عليه السلام ، قال بعد أن روى ما تقدم عن علي عليه السلام ما لفظه: (ومعنى قوله خلقها الله وعملها العباد أن العباد هم العاملون لها والله خالقها عند فعلهم، فالفعل منهم والخلق من الله معاً لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا تأخر عن وقت فعلهم، والثواب والعقاب على فعلهم لا خلقه أعمالهم، والحجة تلزمهم بما ركب من جوارحهم وسلامتها من الآفات المانعة لهم من الفهم والحركات، فمن علم منه الهداية جاءته من الله المعونة والتوفيق الزائد، ومن علم منه الضلالة خذله فلم يكن له منه هداية، وذلك مما من الله على أوليائه وأهل طاعته لسابق علمه فيهم، وقد ألزمهم حجته وقطع عذرهم، فما كلفهم من طاعته فهم عاملون ما علم لا محالة، لا أنه يحول بينهم وبين طاعته إلا بالخذلان لهم لسابق علمه فيهم، وقد قطع عذرهم بأن جعل فيهم ما بمثله يفهم، فمن لم يفهم فهو مقطوع العذر، وذلك أنه تعالى ذكره إذا أمرهم بأمر فقد جعل فيهم مابمثله يفهمون ذلك الأمر من الفعل الذي يكسب مما يثاب عليه ويعاقب، لأن معاونة الله إياهم على فعلهم هي غير فعلهم، فعلى فعلهم أثابهم لا على معاونته لهم على الفعل، وإنما أعان من علم أنه فاعل الطاعة، وخذل من علم أنه فاعل المعصية).
وكلامه عليه السلام صريح في أن الفعل الذي يقع عليه الجزاء من العبد لا من الله، وأن نسبتها إلى الباري تعالى ليس إلا لكونه أعان المطيع وخذل من علم منه عدم الاهتداء، وهو وجه صحيح في صحة الإسناد المجازي لا يخفى على من له أدنى مسكة في علم المعاني.
فإن قلت: ففي كلامه عليه السلام ما يدل على أن القدرة مقارنة للمقدور حيث قال: لا أن خلق الله تقدم فعل العباد... إلخ وهو خلاف مذهب العدلية.
قلت: قد تقدم أنه لم يقصد بنسبة خلقها إلى الله تعالى إلا من حيث أنه أعان المطيع وخذل من علم منه الضلالة، وإلاعانة والخذلان مقارنان للفعل، ألا ترى أن من حاول نقل الثقيل ونحوه فإنه إن لم يقدر عليه يطلب المعونة على نقله، ولا تكون تلك المعونة حاصلة إلا إذا قارنت العمل وحيث طلبها من أحد ولم تحصل عند المحاولة للثقيل، فإن تاركها المتمكن منها يسمى خاذلاً، فثبت أن أحمد بن عيسى عليه السلام لم يقصد بالمقارنة إلا من هذه الحيثية، وأما خلق الفهم والجوارح فقد صرح عليه السلام بتقدمها حيث قال: والحجة تلزمهم بما ركب من جوارحهم، وسلامتها من الآفات المانعة لهم، وهذه متقدمة قطعاً، والحاصل أن نسبة خلقها إلى الباري ليس إلا من حيث الإعانة بمزيد الهداية والخذلان لا من حيث التمكين بخلق الجوارح ونحوها، على أنه لا مانع من نسبتها إليه تعالى مجازاً من هذا الوجه إلا أنه غير مقصود هنا، وقد ذكر ذلك العلامة ابن أبي الحديد فإنه نص على أن الله تعالى مؤثر في كل شيء، قال: إما بنفسه أو بأن يكون مؤثراً فيما هو مؤثر في ذلك الشيء كأفعالنا فإنه يؤثر فينا، ونحن نؤثر فيها. ذكره في شرح النهج، بل لو قيل إنه أراد بهذه النسبة الحقيقة لم يبعد ويكون مقوياً لما يأتي من التأويل الآخر لكلام الأئمة".
وأما ما ذكره الحسن بن يحيى عليه السلام من الإجماع فليس المقصود به أيضاً إلا الإسناد المجازي مع نفي استقلال العبد بفعله، حتى لا يحتاج إلى تمكين الله تعالى له، ولا خلق القدرة فيه عليه؛ لأن ذلك يكون شركاً، وهذا حق فإن العدلية لم يقولوا باستقلال العبد بفعله واستغنائه عن الله إذ لو لم يمكنه الله تعالى لما قدر على شيء أصلاً، والدليل على أن هذا مقصودهم أنه احتج على صحته بما يدل على نفي الشريك، فإنه قال والحجة في ذلك كتاب الله عز وجل، قال الله سبحانه: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...} [مريم:90] الآية.
فإن قلت: لكنه احتج بعد هذه الآية بقوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }[الصافات:96 ] ونحوها، قلت: لم يقصد بذلك إلا ما تقدم من نسبتها إلى الباري تعالى على جهة المجاز؛ لأنه قال بعدها: فإن زعموا أن أفعال العباد ليست منهم فقد زعموا أن الله عذب العباد على ما ليس منهم وأثابهم على ما ليس منهم، وإن زعموا أن أفعال العباد منهم فقد لزمتهم الحجة أن أفعال العباد مخلوقة، فإن زعموا أنها ليست منهم مخلوقة فقد جحدوا أن الله خلق العباد، وهذا تصريح بأن نسبة خلق أفعال العباد إلى الله تعالى من حيث أنه خلق الفاعلين لها فيكون من الإسناد إلى السبب كما قيل: إن الختم في الحقيقة من الشيطان، وأسند إلى الباري تعالى لأنه الذي خلق الشيطان ومكنه من ذلك.
واعلم أنه لا يجوز حمل كلامهم" على الجبر والتصريح بنسبة أفعال العباد إليهم، وما قالوه في تفسير كلامهم هذا الموهم، وقد تأولنا كلامهم بما دلونا عليه وفسروه به، وبما اهتدت إليه عقولنا وفوق كل ذي علم عليم.
وجه آخر في التأويل: وهو أن هؤلاء الأئمة" لا يجيزون تسمية العبد خالقاً لفعله كما يفهم ذلك من عباراتهم منها ما تقدم، ومنها ما في الجامع الكافي من الكلمات الدالة على ذلك، ذكرها في الكلام في خلق القرآن لأنه لم يرد بتسمية العبد خالقاً إذن شرعي، بل ورد ما ظاهره المنع نحو قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }[الزمر:62]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ }[فاطر:3]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96].
وهذه الآيات تتناول أفعال العباد بعمومها إلا أنه لما قام الدليل القطعي على أنها منهم، ومنه ما استدلوا به من إثابتهم وعقابهم عليها جمعوا بين الأدلة بأن جعلوا الأفعال مخلوقة لله تعالى من حيث أنه أعان عليها إن كانت حسنة، أو خذل مرتكبها إن كانت سيئة على جهة المجاز كما مر؛ لأن من أمده الله بمزيد المعونة فإنه لا يتخلف منه فعل الطاعة عادة، ومن خذله فلا بد لطموح نفسه واتباع هواه، وأن يرتكب المعصية عادة، وهذا هو الذي وكله الله إلى نفسه، والمعونة والخذلان لا يوجبان الفعل ولا يمنعان الاختيار، فكان هؤلاء الأئمة" يقولون: لا خالق إلا الله ونحوها من العبارات، وينصون على أن أفعال العباد مخلوقة لله لتلك الأدلة السابقة، وينسبون فعل العبد إلى الله تعالى لأجلها على الوجه السابق، وينسبونه إلى العبد حقيقة، وكل هذا مأخوذ من صريح كلامهم ليس فيه تعسف، ولا إخراج لكلامهم عن ظاهره، وقد عملوا فيه بظواهر القرآن وبراهين العقول، وهذه المسألة- أعني مسألة تسمية فعل العبد خلقاً وتسميته خالقاً - قد اختلف فيها المعتزلة، فقال أبو القاسم البلخي، وعباد الصيمري، والبغدادية: لا يجوز تسمية فعل العباد خلقاً ولا تسميتهم خالقين، بل لا يسمى خالقاً إلا الله تعالى، ولا يسمى خلقاً إلا فعله تعالى؛ لأن الخلق هو الاختراع، فكما لا يسمى أحدنا مخترعاً ولا يسمى فعله اختراعاً، فكذا لا يسمى خالقاً ولا يسمى فعله خلقاً؛ لأن الاختراع مختص بالله تعالى، وقال أكثر المعتزلة: بل يجوز لأن الخلق هو الفعل المقدر على حسب الغرض والداعي، ولو كان كما زعم الأولون لم يصح وصف غير الله تعالى به، وقد قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون:14]، وقال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ }[المائدة:110].
قال (النجري): وليس الخلاف إلا بالنظر إلى أصل اللغة ومقتضى وضعها، وأما بالنظر إلى الشرع فذكر جماعة من أصحابنا أنه ممتنع اتفاقاً فلا يوصف بأنه خالق، أو بأنه يخلق، أو بأن فعله خلق إلا الله تعالى، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ }[النحل:17]فنفى أن يكون غيره خالقاً، وممن نص على وقوع الإجماع على ذلك الشيخ أبو محمد بن متويه.
قلت: وكلام الأئمة السابقين" محمول على هذا، فإنهم كما قدمناه عنهم لما نظروا إلى منع الأدلة الشرعية من إطلاق الخالق على غير الله تعالى قالوا: لا خالق إلا الله، ولما كانت تلك الأدلة متناولة لأفعال العباد نسبوها إلى الباري من حيث الإعانة والخذلان، ولما وجدنا كلماتهم صريحة في نسبة أفعال العباد إليهم على جهة الحقيقة، ورأيناهم مصرحين بنفي الجبر، ومتبرئين ممن يحمل ذنبه على الله تعالى حكمنا بأن نسبتهم أفعالنا إلى الباري تعالى من تلك الحيثية من المجاز العقلي، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ولهم" كلمات في العلم والإرادة والمشيئة، وسنتكلم عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى، وبهذا تم الكلام في الركن الأول من أركان الاستعاذة، والحمد لله.
استكمال تفسير بقية أركان الاستعاذة
وقد تقدم الكلام في تفسير ركنها الأول: (أعوذ) وفي هذه الصفحات يستكمل تفسير بقية أركانها.