ومن كلام (القاسم بن إبراهيم) عليه السلام في كتاب (الرد على المجبرة): فزعموا أنه لم يرد منهم أن يطيعوا رسله، وأن الله أمر بما لا يريد، ونهى عما يريد، وخلقهم كفاراً وقال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ }[آل عمران:101]ومنعهم من الإيمان وقال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بالله }[النساء:39]وقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}[الإسراء:94] وأفكهم وقال: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وصرفهم عن دينه وقال: {أَنَّى يُصْرَفُونَ}.
فافهموا وفقكم الله ما يتلى عليكم من كتاب الله فإن الله يقول فيه: {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }[يونس:57]ويقول: {كِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41،42] ويقول: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ }[الجاثية:6]، ويقول: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[الزمر:55].
وقال عليه السلام : وقد بين الله للخلق واحتج عليهم بما بين لهم في كتابه وأمرهم بالتمسك بما في الكتاب، والاقتداء بما عن نبيه جاءهم: (فإنما هلك من كان قبلهم بإعراضهم عن كتاب ربهم، والترك لمن مضى من أنبيائهم من أهل الكتاب وغيرهم، واتقوا الله وانظروا لأنفسكم قبل نزول الموت، واعلموا أنه لا حجة لمن لم يحتج بقول الله فإن الله سبحانه يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ }[العنكبوت:51].
وله عليه السلام من جنس هذا الكلام الكثير الطيب، وهو يدل على صحة الاحتجاج على مسألتنا بالقرآن من وجهين:
أحدهما: أنه قد احتج به عليها.
الثاني: أنه قد نص على أن الاحتجاج به أقوى الحجج، ولغيره من الأئمة" نحوه.

الموضع الثالث: في ذكر شبه المخالفين والرد عليها
واعلم أن لهم شبهاً عقلية وسمعية، أما العقلية فهي كثيرة، ونحن نذكر أقواها دون ما يظهر ضعفه للمبتدي والمنتهي:
[الشبهة الأولى في الداعي والمرجح]
أحدها: دليل الداعي والمرجح، وقد تقدم وسيأتي له مزيد تحقيق إن شاء الله في سياق قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }[البقرة:7]
الشبهة الثانية [الحركة الاضطرارية والاختيارية]
أنا نفرق بين الحركة الاختيارية والاضطرارية ضرورة في تعلق الأولى بنا دون الثانية، فلو كان تعلق إحداهما بنا من جهة الحدوث لوجب في الأخرى مثله؛ لأن الحدوث ثابت فيهما، والمعلوم خلافه، فلم يبق إلا تعلقها بنا من جهة الكسب والمحدث هو الله تعالى، وربما يؤكدون هذا بأن الحدوث في الذوات متماثل فلو صح منا إحداث الحركة لوجب أن نحدث الأجسام والألوان، والمعلوم خلافه.
والجواب: أن الاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى محدث معين بل إلى محدث ما، وأما تعيين المحدث فموقوف على الدليل، وقد قام الدليل على أنا المحدثون لأفعالنا.
وأما قولهم إن الحدوث متماثل فباطل لأن التماثل والاختلاف إنما يصحان على الذوات دون الصفات، فكيف يصح وصف الحدوث بذلك على أن المتعلق بنا هو ذات الحركة على وجه الحدوث، ولا يلزم من القدرة على اتحاد ذات القدرة على سائر الذوات، ولا من القدرة على إيجاد ذات على وجه القدرة على إيجادها على وجه آخر.
قال السيد (مانكديم): وإنما كان يجب ذلك لو ثبت في الذوات كلها من الجواهر والألوان أنها تقف على قصدنا ودواعينا لا الحدوث، ثم يقال لهم: أليس أن وجه الكسب ثابت في هذه التصرفات على وجه واحد، ولم تجب في القادر على بعضها أن يكون قادراً على جميعها، فهلا جاز مثله في مسألتنا.
الشبهة الثالثة [القدرة على إحداث الفعل]
قالوا لو قدر أحدنا على إحداث أفعاله لوجب أن يقدر على إعادتها كالباري تعالى.

والجواب: ليس العلة في قدرة الله تعالى على الإعادة هي قدرته على الإحداث، ولا دليل على ذلك بل العلة كونه قادراً لذاته وأحدنا قادر بقدرة، والقدرة لا تتعلق على التفصيل إلا بمقدور واحد، مع أنهم أقاسوا الشاهد على الغائب وهو عكس الصواب، وأيضاً يلزمهم في الكسب مثله على أن في أفعال الله تعالى ما تستحيل إعادته، فيبطل قولهم: إن من قدر على إيجاد شيء قدر على إعادته.
فإن قيل: وما الذي تستحيل إعادته من أفعاله تعالى؟
قيل: هو ما فعل بسبب، والأجناس التي لا تبقى كالصوت ونحوه.
أما الأول: فلأنه لو أعيد ابتداء للزم أن يكون له في الوجود وجهان فيحصل على أحدهما بقادر وعلى الآخر بقادر آخر، وفي ذلك صحة مقدور بين قادرين وهو محال، ويلزم أيضاً قلب ذاته لأن احتياجه إلى سببه ذاتي له، وإن أعيد بسبب فإن كان ذلك هو السبب الأول لم يصح، وإلا لزم أن يكون للسبب الواحد في الوقت الواحد مسببان: أحدهما المعاد، والآخر مسبب الوقت، والسبب كالقدرة لا يكون له في الوقت الواحد إلا مسبب لا يتعداه إلى غيره.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : إذ لو صح تعديه في الوقت الواحد إلى أكثر من مسبب واحد لزم أن لا يقتصر على حد فيتعدى، ولا حاصر فيصح أن يولد ما لا نهاية له، فيلزم إذا قدرنا على فعل السبب أن نقدر على ما نهاية له من المسببات، فيلزم ما قدمنا من المحال.
قلت: أراد عليه السلام بما قدمه من المحال أن السبب إذا كان مقدوراً لنا لزم منه والحال هذه ممانعة القديم تعالى؛ لأنا إذا قدرنا أنه أراد تحريك جسم وأردنا تسكينه، فإنه كلما أوجد حركة أوجدنا سكوناً ثم كذلك، فلا يصح منه تحريكه في ذلك الوقت، وممانعة القديم محال فما أدى إليه فهو محال، والذي يؤدي إليه هو تعدي السبب والقدرة، وإن كان غيره فذلك يقتضي اجتماع سببين على توليد مسبب واحد، فيؤدي إلى مقدور بين قادرين.

وأما الثاني: وهو ما لا يبقى فلأنه لو صح أن يعاد للزم أن لا يختص بوقت واحد، بل يكون قد صار له في الوجود وقتان، وهما وقت ابتدائه ووقت إعادته، وإذا جاز وجوده في وقتين مفترقين جاز في متواليين؛ إذ لا فرق بين وجوده في الجواز على جهة التوالي، أو على وجه يتخلل بين الوقتين ثالث، لأن الصفة لا تحيل نفسها وإن أحالت غيرها والوجود في الحالين صفة واحدة، ولو وجد في وقتين أو صح فيه ذلك للزم أن يصير باقياً بعد أن لم يكن باقياً، وعدم اختصاصه بوقت واحد بل يتعداه إلى وقت ثاني، وفي ذلك خروجه عما هو عليه في ذاته قلب حقيقته؛ إذ المعلوم أن اختصاصه بالوقت الواحد صفة ذاتية له لا يخرج عنها، وإذا كان لا يخرج عنها صح أن جواز وجوده في وقتين يقتضي انقلاب الذات، وانقلاب الذات محال، فما أدى إليه وهو صحة إعادة ما لا يبقى فهو محال.
الشبهة الرابعة [العلاقة بين القدرة والعلم]
قالوا لو كان العبد موجداً لأفعاله لعلم تفاصيلها؛ لأن الفعل مشروط بسبق العلم وهو لا يعلمها، ألا ترى أنه يتحرك حركة وهو لا يعلم كمية أجزائها ولا كيفيتها، ومحرك الأصبع يُحرّك جميع أجزائها ولا يعلم بكمية الأجزاء.
والجواب: أن هذا مقابل للضرورة، فإن كل فاعل يعلم تمكنه من فعله من دون العلم التفصيلي، بيانه أن من قصد إلى أن يصلي ركعتين مثلاً فإنه يقصد إلى أن يوجد من الحركات والسكنات القدر الذي تحصل به الركعتان، وإن لم يعلم كمية تلك الحركات والسكنات، وكذلك محرك الأصبع، والقاصد إلى الحج إنما يحدث من الخطأ القدر الذي يصل به إليه وإن لم يعلم كميته، وجميع الأفعال تجري هذا المجرى، وهذا يعلمه كل عاقل، بل الصبي إذا تناول الكوز فإنما يشرب القدر الذي يحصل به الري، ولا يتعرض للعلم بكمية حركات الفم، ولا ما يأخذه من قطرة، ولا بد للخصوم من الاعتراف بهذا، وبهذا يظهر لك بطلان شرطية العلم بالتفصيل وأنها دعوى مجردة عن الدليل.

قال العلامة (المقبلي) في (العلم الشامخ): (ولا نسلم شرطية التفصيل).
قال في (الأرواح): (يعني أنه ممنوع أما أولاً فلأنه تشكيك في الضروريات، وأما ثانياً فلأنه يصدر الفعل ممن لا يتهيأ منه العلم كالنائم، والمجنون، والطفل، والبهائم وسائر الحيوانات غير العاقلة، فلو كان العلم شرطاً لمطلق الفعل لما صدر عنها فعل البتة، وإنما يشترط مطلق الشعور ولو تخيلاً بحيث يصح التوجه والقصد، ثم إنا لو سلمنا لهم شرطيته فمن أين لهم أنه لا يعلم؟ فإنَّا لا نشكُّ في علمه، لكنه ذاهل عن علمه بالعلم لقلة وقت العلم.
قال (القرشي): وقد قال بعض أصحابنا إن أحدنا يعلم تفاصيل ما أحدثه أي يعلم أعيانها وإن لم يعلم كميتها؛ لأن العلم بالكمية أمر زائد على ذلك، ألا ترى أن من دخل جامعاً فإنه يعرف أعيان من فيه وإن لم يعلم كميتهم، ولنا أن ننقل هذه الشبهة في الكسب، فنقول: يلزم أن يكون أحدنا عالماً بتفاصيل ما اكتسبه، وجوابهم جوابنا، ولا محيص لهم عن هذا، وحينئذٍ تكون هذه الشبهة مقتضية لنفي الفعل بالكلية، وفي تصحيحها إثبات مذهب جهم الذي أجمعنا على بطلانه، وأنه مخالف للضرورة، لكنه لما لم يكن لهم همة إلا رد مذهب خصومهم تعلقوا بكل ما وجدوا وإن علموا أنه لا يفيدهم.
ولنقتصر على هذا القدر من شبههم العلقية؛ إذ ليس لهم إلا ما هو أضعف منها وأوضح بطلاناً، ولعله يمر بك شيء منها في أثناء المسائل الآتية في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الشبه السمعية فسيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
واعلم أن معظم اشتغالنا برد الشبه التي تمسك بها القائلون بالكسب، ولم نشتغل كثيراً بالكلام مع الجهمية لظهور مخالفة مذهبهم للضرورة، مع أن ما أوردناه وما أورده الأشاعرة متضمن لإبطال مذهبهم. والله الموفق.

[اللوازم الباطلة المترتبة على مذهب المخالفين]
الموضع الرابع: فيما يلزم على مذهب المخالفين من اللوازم الباطلة، وغير ذلك من الحكايات والمناظرات التي يؤيد بها مذهب العدل، ويبطل بها مذهب الجبر.
أما اللوازم فهي كثيرة، ولنورد منها هنا ما سنح فنقول:
أحدها: أنه يلزمهم أن يكون الظلم والكذب والعبث كطول القامة وقصرها في عدم استحقاق المدح والذم عليها البتة، وفي ذلك قبح بعثة الأنبياء" وبطلان الشرائع؛ لأن الله إذا كان هو الموجد للظلم ونحوه فما فائدة النهي عنه والتعبد بتركه، وكذلك سائر الشرائع ما فائدة الدعاء إليها والأمر بها؛ إذ لا معنى لإرسال الرسل على قود مذهبهم ودعائهم إلى الشرائع، كما أنه لا يجوز بعثة الرسل لدعاء الخلق إلى الخروج من صورهم وألوانهم، وهذا ظاهر، بل على مذهبهم يلزم إبطال فائدة كل إمام وواعظ، وداعي إلى الله من أول الدنيا إلىآخرها، ولا شك أن كل مذهب يؤدي إلى الباطل فهو باطل.
اللازم الثاني: قبح مجاهدة الكفار؛ لأن لهم أن يقولوا تجاهدوننا لأن الله خلق فينا الكفر، أو لأجل أنه لم يخلق فينا الإيمان، وكل ذلك بمنزلة مجاهدتنا على صورنا وألواننا.
الثالث: قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنحو ما مر، ولأن الآمر إما أن يكون آمراً بالواقع، وذلك قبيح كأمر المرمي به من شاهق بالنزول لأنه عبث، وإما أن يكون أمراً بما لا يقدر عليه المأمور على أصلهم فيكون أمراً بما لا يطاق، وقبحه معلوم، وهكذا الكلام في النهي عن المنكر.
الرابع: أن تكون الحجة للكفار على الأنبياء؛ لأنهم يقولون للمرسل إليهم: تدعونا إلى الإسلام، ومن أرسلك إلينا، أراد منا الكفر وجعلنا بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه، ولهم قطع المرسل أيضاً من وجه آخر لأنهم يقولون: إن كنت تدعونا إلى ما خلقه الله فينا فإن ذلك مما لا فائدة فيه، وإن كنت تدعونا إلى ما لم يخلقه الله فينا فذلك مما لا نطيقه.

الخامس: أنه يلزمهم التسوية بين الرسول وإبليس لأن الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراده الله منهم، كما أن إبليس يدعوهم إلى ذلك، بل يلزم أن يكون حال الرسول أسوء من حال إبليس لأن إبليس يدعوهم إلى ما أراده الله بزعمهم والرسول يدعوهم إلى خلافه، وكل مذهب يؤدي إلى هذا فكافيك به فساداً.
السادس: أن يكون الباري تعالى بعث الرسل لتغيير خلقه وتجهيله وليقع خلاف ما أراد، وبيانه أن الله تعالى بعث الرسل إلى الكفار ليتركوا الكفر مع أنه الذي خلقه فيهم وأراده منهم، فطلب الرسل تركه تغيير له وهو خلق الله تعالى فيهم، وأما تجهيله وطلبهم وقوع خلاف ما أراد، فلأنهم طلبوا خلاف ما علم وقوعه وخلاف ما أراد منهم لأنه أراد منهم الكفر، والرسل طلبوا الإيمان. نعوذ بالله من الضلالة، ومن كل مذهب يؤدي إلى مثل هذه الجهالة.
السابع: أن مذهبهم يؤدي إلى الإغراء بالمعاصي وترك التوبة؛ لأن أحد شرائط التوبة الاعتراف وهو قولك: أذنبت أو نحوه، وإذا كانت المعصية من فعل الله فلا يتصور من العبد الاعتراف، وأيضاً يدخل في المعاصي ويقول: إذا أراد الله مني التوبة تبت، أو يقول: أنا لا أقدر عليها. وفي هذا القدر كفاية من ذكر الإلزامات القاضية ببطلان مذهبهم الردي، ومن أراد الزيادة فلا يعدمها.
واعلم أنهم إذا عرفوا أن هذه الإلزامات لازمة لهم قالوا: قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }[الأنبياء:23].

والجواب: أن الآية الكريمة كلمة صادقة، فإنه تعالى لا يسأل عما يفعل، ولكنه قد بين أن فعله العدل فلا فرح لهم فيها، وأما الحكايات والمناظرات فمنها ما روي أن أبا الهذيل قال لحفص الفرد: يا أبا عثمان هل تعرف غير الله وغير ما خلق؟ فقال: لا، فقال: فعذب الله الكافر على أنه الله أو على أنه خلق؟ فقال: لا على واحد منهما. فقال: فعلام ؟ قال: على أنه عصى. قال: فكونه عصى، قسم ثالث قال: لا، فأعاد السؤال فانقطع وكان النظام حاضراً فلقن حفصاً حجته فقال: قل لأنه اكتسبها فقال: ذلك، فقال: هل الكسب شيء غير الله وغير ما خلق ؟ قال: لا، فأعاد السؤال فانقطع، ولما قيل للنظام: ما بالك ذكرته الكسب؟ قال: لأني قد علمت أنه يذكره عند انفصاله من المجلس، وعلمت أن أبا الهذيل لا ينقطع عن جوابه، فأردت أن ينقطع مرة واحدة.
ومنها ما روي أنه أتي بعض الولاة بطرار أحول العين وعنده عدلي ومجبر، فقال للمجبر: ما ترى نفعل فيه؟ فقال: تضربه خمسة عشر سوطاً، فقال للعدلي: ما تشير؟ فقال: تضربه ثلاثين سوطاً خمسة عشر لكونه طراراً، وخمسة عشر لكونه أحول العين، فقال المجبر: أتضربه على الحول ولا صنع له فيه، فقال: نعم إذا كانا جميعاً من فعل الله تعالى فالحول والطر سواء، فانقطع المجبر.
ومنها ما روي أن عدلياً سأل مجبراً فقال ما تقول: إراداة الله أحسن وأفضل للعباد أم إرادة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: إرادة الله. قال: أليس عندك أنه أراد الكفر والمعاصي، وقتل الأنبياء والمؤمنين، والزنا والسرقة، وشرب الخمر وعبادة الأوثان، وأراد النبي الطاعة والإيمان وترك المعاصي فقد زعمت أن الكفر أحسن من الإيمان؟ قال: أقول إرادة الرسول. قال: زعمت أن إرادة الرسول والأئمة واختيارهم أفضل من إرادة أرحم الراحمين، فبهت.

ومنها ما روى أن أبا محمد المزين وكان ظريفاً قال: إذا أعطيت كتابي يوم القيامة قلت: قد عرفت ما فيه ولكن هل أُسأل عن شيء أتيته باختياري أم عن شيء خلق في؟ إن قالوا: عن شيء أتيته باختيارك قلت: يا رب عبدك الضعيف أخطأ وأساء، وعلى عفوك وفضلك توكل، فإن عفوت فبرحمتك، وإن عذبت فبعدلك، وإن قالوا: خلق فيك وقضى عليك، قلت: يا معشر الخلائق العدل الذي كنا نسمع به في الدنيا ليس هاهنا منه قليل ولا كثير إلى غير ذلك من الحكايات، وما جرى من المناظرات الدالة على بطلان مذهب أهل الجبر، وسيمر بك إن شاء الله شيء منها في المواضع المناسبة لها.
تنبيه [في ترجيح مذهب العدلية]
قد تقدم ذكر الخلاف في أفعال العباد وبيان الأدلة، إلا أن في المتولدات نوعاً آخر من الخلاف لاينبغي إهمال التنبيه عليه وإن كان إبطاله داخلاً فيما تقدم من تصحيح مذهب الفرقة الناجية، فنقول: كل شيء يتولد عن فعل العبد فهو فعله عند جمهور العدلية.
وقال الجاحظ: ليس للعبد إلا الإرادة، فإنها واقعة باختياره دون ما عداها من المعرفة وأفعال الجوارح، فذلك وقع بطبع المحل.
قال (القرشي): وبه قال النظام ومعمر فيما يتعدى محل القدرة، إلا أن النظام يجعله بواسطة طبع المحل، والذي حكاه السيد مانكديم عنهما أن هذه الحوادث التي تحدث في الجمادات فإنما تحصل فيها بطبع المحل، وقال ثمامة: ما عدا الإرادة حدث لا محدث له.
قال السيد (مانكديم): ولعل شبهة الجيمع واحدة، فإنهم لما رأوا تعلقها بالفاعل قالوا: لا بد أن يكون للاختيار مدخل فيه، ولما رأوا وجوب وقوع المراد عند حدوث الإرادة، ووجوب وقوع المسبب عند حصول السبب أخرجوه عن التعلق بالفاعل أصلاً على حسب اختلافهم في تعليقه بالطبع، أو جعله حدثاً لا محدث له كما مر.

قال السيد (مانكديم): ولو أنهم أمعنوا النظر لعلموا أنها مما للاختيار فيه مدخل فيقع مرة بأن يختار الفاعل ما هو كالواسطة فيه، ولا يقع أخرى بأن لا يختار ذلك، يوضحه أن السبب لا يمتنع حصوله ثم لا يحصل المسبب لمانع عن التوليد، ومتى وجب وقوعه عند حصول السبب وزوال المانع فإن حاله كحال المبتدئ عند تكامل الدواعي، فإنه يحصل لا محالة، فأين الفرق بينهما.
قلت: ولنا أيضاً ما تقدم من وقوفها على قصودنا ودواعينا، وتعلق الأمر والنهي والمدح والذم بها وغير ذلك، وأما الطبع فغير معقول، فإن أرادوا به السبب فخلاف في عبارة، وأما ثمامة فقوله ظاهر البطلان، مع أنه يلزمه القول بذلك في جميع الحوادث؛ إذ لا فارق فإن راعى في المبتدءات الجواز واعتبره فهو ثابت في المتولد لما مر من أنه لا يمتنع حصول السبب ثم لا يولد لعارض، ولأنه لو جاز خروج المسبب عن التعلق بالفاعل لوجوب حصوله عند وقوع السبب وزوال المانع، للزم مثله في المبتدئ لوجوب وقوعه عند توفر الداوعي عادة. والله أعلم.

21 / 329
ع
En
A+
A-