وقال الإمام (المهدي): الحق عندي أن الساهي والنائم كاليقظان في أن الفعل الكثير والكلام لا يقع عنهما إلا لداع، بخلاف الفعل اليسير الذي يصح صدوره من غير قصد، ألا ترى أن النائم إذا صدر منه كلام فإنما يكون عن رؤيا رآها يدعوه إلى ذلك، وكذلك في أفعاله التي ليست يسيرة، فإن من النيام من يقوم ويريد الخروج لرؤيا رآها تفزعه أو تفرحه، وربما حرك الصبي فكه في نومه لاعتقاده كونه راضعاً، وربما حركت المرأة يدها كما تفعل الطاحنة لاعتقاد ذلك، وأما تحريك الأصبع ونحوه فيجوز أن يصدر لا لداع من النائم واليقظان.
قال عليه السلام : ولست أقول كقول (أبي الحسين) إن الفعل لا يصح إلا لداع، بل أقول لا فرق بين النائم واليقظان في أن الفعل الكثير إذا صدر منهما استلزم الداعي، ولا فرق بينهما في ذلك، والمجنون والنائم يقطع بصحة ذلك منهما -أعني صدور الفعل الكثير- ولا بد من باعث لهما على الفعل، فباعث النائم الرؤيا، وباعث المجنون الخيال، وأما الساهي فمن البعيد أن يصدر منه فعل كثير في حال سهوه، وإنما يصدر منه اليسير الذي يصدر مثله من اليقظان من غير داع، ولا إرادة.
وحكى عليه السلام عن (البهشمية) نحو ما تقدم من منع الداعي المحقق للساهي والنائم لنحو ما مر من امتناع كون الداعي من جهة الله تعالى، ثم قال: وأما إذا كان فاعل الاعتقاد أو الظن هو النائم بنفسه، فمهما فعل فإما أن يفتقر إلى داع، أو لا.
الثاني: قولنا وهو أنه يقع الفعل منهما لا لداع، وإن افتقر إلى داع كان الكلام فيه، فيتسلسل أو ينتهي إلى داع ضروري من جهة الله تعالى، فيكون النائم عالماً، هذا خلف فبطل أن يكون لداع.
قال عليه السلام : هكذا ذكر أصحابنا معناه، ثم قال مجيباً: فأما ما احتج به أصحابنا من أن ذلك الداعي فعل فيفتقر إلى داع، فلنا أن نجيب أن الباعث على الداعي رؤيا، وسبب الرؤيا خواطر.

قلت: وما ذكره عليه السلام هو الحق، وقد تقدم لنا التنظير على معنى ما حكاه الإمام (المهدي) عليه السلام هنا، ولا أدري ما وجه جزمهم بانتفاء الداعي في حق النائم مع إثباتهم الاعتقاد له، والاعتقادات من جملة الدواعي، فقالت البهشمية: الرؤيا اعتقاد يفعله النائم ابتداءً، أو لداع من ملك، أو من شيطان.
وقال (البلخي): بل هي خواطر داعية إلى الاعتقاد من الله، أو من الشيطان، أو من الطبيعة، وقال أبو علي: منها ما يكون فكراً كمن يكثر التفكر في شيء فيعتقده حال النوم، ومنها ما يكون من الله أو من ملك، ومنها ما يكون من الشيطان نحو ما يعتقده من الشر، فهؤلاء كما ترى قد أثبتوا للنائم اعتقاداً، وجعلوا الباعث عليه أحد هذه الأسباب التي بها ينتفي التسلسل، فما المانع من أن يكون هذا الاعتقاد هو الداعي له إلى الفعل؟.
وأما قولهم: إنها لو انتهت إلى داع ضروري من جهة الله تعالى لكانت علماً، فنقول: قد جعلتم الداعي من جهة الله تعالى أحد الأسباب، على أنه لا يلزم إلا لو كان الاعتقاد من فعل الله تعالى، وقد نصت البهشمية على أنه لا يصح أن يكون الاعتقاد من الله، وحينئذٍ فنقول: الاعتقاد من النائم والداعي يجوز أن يكون من الله، وأن يكون من غيره كما قلتم فلا محذور، على أن الإمام (المهدي) عليه السلام قد اعترضهم فقال في إطلاق أصحابنا إنه لا يكون من الله لكونه جهلاً نظر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لم يبق من الوحي إلا الرؤيا ))، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ }[الإسراء:60]، وقولهم: إنه قد يكون من الله.

قال عليه السلام : فالأولى أن يقال: الرؤيا تصور يصرف النائم ذهنه إليه إما ابتداء، أو يدعو إليه خاطر من الله، أو من ملك بأمره، أو من شيطان فيفعله الله بمجرى العادة، وذلك التصور علم ضروري فلا يقبح بحال، وأما إيجاده الظن فإن جعلناه من جنس الاعتقاد كما هو رأي أبي هاشم فالكلام فيه كما مر، وإن جعلناه قسماً برأسه منعناه من النائم؛ لأنه لا يكون إلا عن أمارة، إلا عند ابن متويه فإنه أجاز صدوره لا عن أمارة.
قال: لأن من زال عقله بنوم أو جنون وقعت منه ظنون لا أمارة لها، وهو يُؤول إلى أن داعي النائم إذا كان ظناً لا يحتاج إلى داع، فيبطل قولهم إنه يصير علماً أو يتسلسل، على أن الإمام المهدي قد قال: إن التجويز فعل الله قطعاً لأنه علمان ضروريان، وهما أنه ليس في العقل ما يحيل ثبوت الشيء ولا نفيه، وهو لا يكون إلا من الله، فعلى هذا لا مانع من أن يكون داعي الظان ضرورياً، ولا ينقلب ظنه علماً؛ لأن الظن فعله، والداعي الذي هو التجويز فعل الله فلا منافاة، وأما الساهي فقد أجاب عنه الإمام (المهدي) عليه السلام بما يكفي، على أن الاعتراض بهما إنما يرد على عكس الدلالة ولا يجب انعكاس الدليل اتفاقاً، بل اطراده، فلا يصح هذا الاعتراض إلا لو ثبت فعل وقع بحسب قصودنا ودواعينا ولم يتعلق بنا تعلق الفعل بفاعله، فأما ثبوت محدث لم يقع فعله بحسب داعيه، فإن ذلك عكس ما دللنا عليه في المسألة، وذلك لا يقدح لأنه لا يمتنع في حكمين مثلين أن يكونا معلومين بدليلين مختلفين، كما نعرف حدوث الأجسام باستحالة انفكاكها عن الحوادث، وحدوث الأعراض بجواز العدم عليها، فكذلك هنا إذا لم يمكن العلم بأن الساهي محدث لفعله بهذه الطريقة، فلنا أن نعلمه بطريقة أخرى، فنقول: فعله يقف على قدرته يقل بقلتها، ويكثر بكثرتها كما مر، ويقف أيضاً على الأسباب الحاصلة من جهته، ولهذا فإن النائمين يتجاذبان الثوب فيستبد به أكثرهما قدرة.

فإن قيل: قد دللتم على أن فعل الإنسان يقع بحسب قصده ودواعيه، فمن أين لكم أن ذلك يقتضي كونه المؤثر فيه دون غيره، فإن قلتم: لأنه لو كان عادياً لاختلف ففيه ما تقدم، وإن قلتم إن وقوع الشيء بحسب شيء يقتضي أنه المؤثر فيه انتقض عليكم بالعادات المستمرة التي لم تختلف بحال سلمنا، فمن أين لكم أن هذه الطريقة يعلم بها تأثير المؤثرات أعلم ضروري؟ فغير مسلم، أم دلالة؟ فدلوا عليه.
قيل: لنا أن نقول إن العلم بذلك ضروري، وقد مر توضيحه، سلمنا أنه ليس بضروري فقد دللنا عليه بما فيه الكفاية، وما قدحتم به في صحة اختلاف العاديات قد تقدم الجواب عليه، وعدم اختلاف بعض العاديات لا ينقض علينا؛ لأن المانع من تأثيرها كونها عادية، وقد أورد نحو هذا السؤال السيد مانكديم في الشرح، وأجاب بأن الذي يدل على أن جهة حاجة أفعالنا إلينا هو الحدوث أن الذي يقف كونه على أحوالنا نفياً وإثباتاً هو الحدوث، فيجب أن تكون جهة الحاجة هي الحدوث، ولأن حاجتها إلينا لا تخلو إما أن تكون لاستمرار العدم، وهو باطل لأنها كانت مستمرة العدم، وإما لاستمرار الوجود، وهو باطل أيضاً؛ لأنا نخرج عن كوننا أحياء فضلاً عن كوننا قادرين وهي باقية مستمرة الوجود، وأما لتجدد الوجود، وهو الذي دل عليه الدليل، لا يقال: لم لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لأجل الكسب أو لأنها حالة فينا؛ لأنا نقول الكسب غير معقول، على أن الذي دلكم على تعلقها بنا من جهة الكسب هو وقوعها بحسب دواعينا، وانتفاءها بحسب صوارفنا، وهذا ثابت في الحدوث فهلا جعلتم تعلقها بنا من جهته، وأما تعلقها بنا لأجل الحلول فلو صح ذلك لوجب في اللون مثلها؛ لأن الحلول ثابت فيه، والمعلوم خلافه.

وقال الإمام (المهدي) عليه السلام في جواب هذا السؤال: التحقيق أنا لم نستدل على ذلك بمطابقة الفعل للداعي لانتفائه عند الكراهة، وإنما دليلنا في التحقيق هو علمنا ضرورة أنا متى أردنا الفعل ولا مانع وقع لا محالة، ومتى كرهناه لم نواقعه لا محالة، وعلمنا ذلك مستمراً، واستحال خلافه ضرورة، فعرفنا أن وجوده متعلق بنا لا بغيرنا؛ إذ لو جوزنا تعلقه بغيرنا لم يمكنا القطع باستمراره في كل حال لجواز أن لا يختاره ذلك الغير عند أن يدعونا إليه الداعي، فلما علمنا ضرورة استمراره في كل حال، واستحالة تعذره دلنا ذلك على أن وجوده متعلق بنا دون غيرنا، يزيده وضوحاً أنه يستحيل أن يحاول وجودها ولا توجد مع عدم المانع، أو نكره وجودها ثم توجد على حد إيجادها مع الاختيار، فلما علمنا استحالة ذلك في كل حال، وعلمنا أنا لو جوزنا تعلقها بغيرنا استحال ثبوت هذا العلم لتجويز أن لا يختارها ذلك الغير، علمنا أن وجودها إنما يكون بتأثيرنا لا بتأثير غيرنا، وبهذا يبطل القول بأن المعلوم وقوفها على دواعينا دون كوننا الموجدين لها مستنداً إلى أنه يجوز أن يخلق الله فينا علماً ضرورياً بأنه سيقع كذا، وأنه لا يقع كذا وإن لم نعلمه كطلوع الشمس غداً؛ لأنا نقول: يجوز أن لا يخلق الله ذلك العلم في بعض الأحوال.
وهاهنا سؤال حكاه (النجري) وهو أن يقال: الفعل إنما يدور وجوداً وعدماً على الداعي يوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه، فيجب أن يكون هو المؤثر دون قدرة العبد، وقد يكون الداعي ضرورياً من الله تعالى، فيجب أن يكون الفعل من الله تعالى؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب.
وأجاب بأنا لا نسلم أنه دار على الداعي كما ذكرتم، فإن الداعي لو حصل في العاجز لم يوجد بوجوده شيء، فيجب أن يكون التأثير لقدرة العبد، وقد يوجد الداعي كما في العالم، وقد لا يوجد كما في الساهي والنائم، وقدرة العبد غير موجبة لمقدورها.
تنبيه [في التعليق على كلام الرازي]

قد تقدم في عبارات أصحابنا أنه يجب وجود الفعل عند توفر الداعي وانتفاؤه عند الكراهة والصوارف، ولا يريدون بذلك الوجوب الذي يستحيل تخلفه، وإنما أرادوا وجوب استمرار، ولما سمع (الرازي) هذا الوجوب من كلام (أبي الحسين) تعجب من قوله به مع قوله بنفي الجبر، بل قال: إن قوله بهذا الوجوب غلو منه في الجبر ومبالغة فيه، وكأنه لم يعلم أن المراد بهذا الوجوب هو الاستمرار على طريقة واحدة كما تقدم، ولنقتصر على هذه الحجج الثلاث العقلية، ففيها كفاية لمن أنصف وترك المكابرة، والأشاعرة لا ينكرونها، ولذا لاذوا بالكسب.
وأما الحجج السمعية فهي كثيرة، ولا تكاد تجد آية ولا خبراً إلا وفيه دلالة بالمطابقة، أو التضمن، أو الالتزام على صحة مذهبنا، وسيأتي الكلام على الآيات في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وأما الأخبار فسيأتي في أثناء الكتاب إن شاء الله ما يصدق هذه الدعوى.
ومن جملة الأدلة السمعية ما نحن بصدد الكلام عليه، وهو الاستعاذة، ودلالتها على ذلك ظاهرة، فإن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تحسن إذا كان الإغواءُ والإضلال فعل الشيطان، فأما لو كان ذلك فعل الله تعالى ليس للشيطان فيه أثر فكيف يستعاذ من شره، بل كان الواجب على هذا أن يستعاذ من شر الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-.
وظاهر كلام (الرازي) التزام هذا وأن الاستعاذة لا تكون إلا من الله تعالى عن ذلك كما سيأتي، وفي هذا من سوء الأدب، ومخالفة العقل، والكتاب والسنة ما لا يؤمن عليه الهلاك بسببه، فإن أريد بذلك الحكاية، أو مجرد الجدل فقد لبس وشكك في موضع يجب عليه البيان فيه، فالله المستعان.
فإن قيل: ما المطلوب بالاستعاذة هل منع الشيطان بالنهي ونحوه، فقد فعل وطلب ما قد فعل محال؛ لأنه من تحصيل الحاصل وهو محال، أم منعه بالقسر والجبر، فذلك ينافي التكليف والشيطان مكلف.

قلنا: ليس المطلوب أيهما بل المطلوب اللطف الذي يدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، فإن قيل: إن الله تعالى لا يخل باللطف فما فائدة طلبه؟
قلنا: إن من الألطاف ما لا يفعله الله تعالى إلا عند الطلب، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}[فصلت:36] إذ المعنى فإن استعذت به أعاذك.
واعلم أن اللطف لا يمنع الاختبار؛ لأن شرطه أن يكون المكلف معه متردد الدواعي، بحيث لا يخرجه عن كونه مختاراً ويصيره في حكم الملجأ، كما أن من خوف غيره بالقتل إن لم يحضر طعامه لا يوصف تخويفه بأنه لطف في حضور الطعام؛ لأنه حينئذٍ يحضر للإلجاء لا لحسن الفعل ووجوبه.
قال (الرازي) بعد أن أورد شبهاً قد تضمن الجواب عنها ما ذكرناه هنا وفيما تقدم وما سيأتي: واعلم أن هذه المناظرات تدل على أنه لا حقيقه لقوله أعوذ بالله إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)).
قلت: وهذا هو ما حكيناه من التزامه كون الاستعاذة لا تكون إلا من الله تعالى، وقد حكينا لفظه بذاته، وهو كما ترى قد تضمن من سوء الأدب ما لا مزيد عليه، وصدق بإيراده ما ورد فيه وفي أصحابه من أنهم جند إبليس، وشهود الزور، ولولا خوف ارتكاب المحظور بعدم الجواب عليه لما ذكرته.
إذا عرفت هذا فاعلم أن هذا الرجل من فحول العلماء، وممن لا تخفى عليه دلالات الألفاظ ومعانيها، إلا أنه كثير المغالطة والتعصب لأصحابه وإن كان مخالفاً لهم في كثير من المسائل كما سيأتي بيانه.

والجواب: إنه إن أراد بقوله أن الكل من الله وبالله ما تقدم من أن المطلوب بالاستعاذة اللطف الذي يكون بالمعونة والتسديد ونحوهما فهو حق، وإن أراد أن الشر الواقع من الشيطان من الإغواء ونحوه من الله تعالى لا فعل للشيطان فيه، فهو الجبر، وقد تقدم من الأدلة العقلية على بطلانه ما فيه كفاية، وطابقها على ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وكلمات عترته، وأصحابه، وصالحي أمته.
وأما الحديث الذي أورده فهو حجة عليه لا له، وبيان ذلك أن قوله: أعوذ اعتراف بكون المستعيذ فاعلاً لتلك الاستعاذة، وقوله: برضاك من سخطك أصرح في الدلالة؛ لأن السخط لا يكون إلا على المعصية، فإن كانت المعصية من فعل الله تعالى فكيف يسخط على عبده بسبب فعله، وإن كانت من فعل المستعيذ فهو المطلوب، وكذا القول في قوله: وأعوذ بعفوك من غضبك.
فإن قلت: فما معنى استعاذة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السخط والغضب؟ قلت: ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم مثل طلب المغفرة مع أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك للتأدب وإظهار العبودية، ويجوز أن يكون المراد الاستعاذة من أسباب المعاصي الموجبة للسخط كالخذلان، وترك اللطف {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }.[الأعراف:99]
وأما قوله: وأعوذ بك منك، وهذه الكلمة هي موضع الشبهة فلا دلالة فيها على ما رام الاستدلال بها عليه من الجبر؛ لأنه لم يصرح بالمستعاذ لأجله، وحينئذٍ فهي تحتمل أحد معنيين:
أحدهما: الاستعاذة بالله تعالى من ما يكون وقوعه بالعبد من جهة الله تعالى خاصة كالمرض، والفقر، والعسر، وتقدم موت الأحباب، وغير ذلك، وتكون هذه الاستعاذة كطلب العافية، وهذا واضح.

الثاني: أن يكون معناها كالاستعاذة من السخط والغضب إما إظهاراً للتعبد، وإما لدفع الخذلان ونحوه، ويجوز إرادة كل من المعنيين معاً إذ لا مانع، فأما أن يكون المراد الاستعاذة بالله من أن يخلق فيه المعصية، فيأبى ذلك عدل الله وحكمته، وقد قال في آخر الحديث: أنت كما أثنيت على نفسك، وهل نجد الله أثنى على نفسه بأنه يظلم عباده، أو يأمرهم بالقبائح، أو يخلقها فيهم، بل قال:{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }[الكهف:49].
فائدة [في الاستدلال بالسمع على هذه المسألة]
قال بعض أصحابنا: الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر؛ لأنا لم نعلم القديم تعالى، وأنه عدل حكيم ولا يظهر المعجز على الكذابين لا يمكننا الاستدلال بالقرآن، وصحة هذه المسائل مبنية على هذه المسألة، فإن إثبات المحدث في الغائب مبنية على إثبات المحدث في الشاهد؛ إذ الطريق إلى ذلك ليس إلا أن يقال: قد ثبت أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها، فكلما شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل، وهذه الأجسام كلها محدثة، فلا بد لها من محدث وفاعل وليس إلا الله تعالى، وأما كون إثبات عدله، وحكمته، وصدقه مبني عليها؛ فلأن في أفعالنا ما هو قبيح، فلو كانت منه للزم تجويز فعل القبيح عليه تعالى، وحينئذٍ لا نثق بخبره ولا بصحة نبوة أنبيائه، فكيف يستدل عليها بالسمع والحال ما ذكرنا، وحيث وقع الاستدلال به فإنما هو لتأكيد أدلة العقل وتقريرها، وبيان أن حجج الله لا تناقض فيها، واستظهار على الخصم، وإلزام له بما يلتزمه لأنه موافق في أن السمع دليل هنا، ولأنهم كانوا يزعمون أنه لا دليل لنا في السمع، فأريناهم أن لنا في السمع من الدلائل المحكمات أكثر مما لهم من المحتملات والمتشابهات.

قلت: ولقائل أن يقول لا نسلم أن معرفة عدل الله وحكمته متوقفة على هذه المسألة، بل على ما هو أعم منها، وهو علمه بالقبيح وقبحه وغناه عنه، ونحن إذا علمناه بهذه الصفة علمنا أنه لا يكذب، ولا يظهر المعجز على الكذابين سواء علمنا كون أفعال العباد منهم أم لا، بل لو قيل: إنا لا نعرف كون أفعالهم منهم إلا إذا عرفنا أن فيها قبيحاً، وأن الله لا يفعل القبيح لم نبعد عن الصواب.
وأما قولهم: إن إثبات المحدث في الغائب مبني على إثبات المحدث في الشاهد، فلا يصح إلا لو لم نجد طريقاً إلى معرفة المحدث في الغائب سوى هذه الطريقة، والمعلوم أنه يمكننا إثباته بغيرها كدليل التمكن ونحو قول بعض الأصحاب إن الجسم حصل في جهة مع جواز أن يحصل في غيرها والحال واحد والشرط واحد، فلا بد من مؤثر، ثم نستدل على أن ذلك المؤثر ليس بموجب، فيلزم أن يكون مختاراً، فيثبت المحدث في الغائب بغير طريقة القياس.
إذا عرفت هذا فنقول: لا دليل على منع صحة الاستدلال بالسمع على هذه المسألة، بل قام الدليل على صحة ذلك، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام:38]{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }[النحل:89]{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9]ونحوها ولم يفصل.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أخذ دينه عن التفكر في كتاب الله والتدبر لسنتي زالت الرواسي ولم يزل ، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهب به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)) ونحو ذلك كثير في كلام قدماء الأئمة " ما يؤيد هذا، وقد شحن القاسم، والهادي -عليهما السلام- كتبهما من الاستدلال على هذه المسألة بعينها بآيات القرآن الكريم.

20 / 329
ع
En
A+
A-