طريقة المؤلف
ومن المفيد هنا الإشارة إلى طريقة المؤلف في تأليفه لهذا الكتاب:
أولاً: أنه حدد في كتابه الهدف من التأليف والغرض من التصنيف، فقال: (فإني لما نظرت إلى ما وسعه الناس من الفنون والعلوم، وتشعب ما انطوت عليه من المنطوق والمفهوم، والإختلاف الطويل العريض بين أرباب النهى والحلوم، وتفكرت فإذا هذا العمر القصير لا يتسع لتعلم كل مستحسنها، فضلاً عن فضولها ومستهجنها، رأيت أن الاشتغال بالأهم منها هو الصواب والمتعين فرضه في محكم السنة والكتاب، وذلك ما لا يعذر بجهله أحد من ذوي الألباب، وهو معرفة الله، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، واتباع ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه، وهذه الوجوه شاملة لمسائل الإعتقاد والعبادات والمعاملات والمأمورات والمنهيات، وغيرها من الآداب ومكارم الأخلاق، وكان كتاب الله هو الكفيل بتلك العلوم النافعة، والمطلع لأنوارها النيرة الساطعة، والنهر الجاري المروي لتلك الحدائق المتدلية قطوفها اليانعة، فصرفت همتي ووجهت عزمي وبذلت جهدي في تدبر آياته، والتأمل لدلالته، والغوص في قعور بحوره، والاستبصار بضيائه وأنواره لاستخراج المهم من المسائل الاعتقادية وغيرها من ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، وجعلت الكتاب العزيز أصلاً ومرجحاً لما طابقه من مختلفات الأدلة، قاضياً على ما خالفه بأنه من تمويهات أهل البدع المضلة، مع الاستعانة بأنظار الأئمة وغيرهم من علماء الأمة، وجمعت ما تحصل من الفوائد وما قيدته من الشوارد في هذا الكتاب؛ حفظاً لها من الضياع، وتقريباً لمن يريد الإنتفاع، لا سيما نفسي الموسومة بالملل عن معاودة النظر وقلة التذكر، لمتفرقات الأدلة على الوجه المعتبر.

وسميته: (مفتاح السعادة، في المهم من مسائل الاعتقاد والمعاملات والعبادة) وأنا أسأل الله أن ينفعني به في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجعله لي لديه عند لقائه ذخرة نافعة فاخرة، وأن ينفع به عباده، إنه المتفضل علينا بصنوف النعم الباطنة والظاهرة.
واعلم أني أضيف إلى الدلائل القرآنية ما يطابقها من الأدلة العقلية والسنة النبوية، والآثار العلوية، والإجماعات المروية، والأقيسة القوية، وأذكر من قال بمدلولها من العترة وغيرهم، وآتي من شبه المبطلين بما عليه عندهم المعوّل والإعتماد، ثم أبين بطلانها بما لا ينكره إلا من غلب عليه الجهل والعناد، وأنسب ما تضمنه من السنة والآثار العلوية إلى أصولها من كتب أئمتنا وغيرها، مع تبيين ما قيل فيها من تصحيح أو تضعيف، وتوضيح ما فيها من المشكل والغريب، تتميماً للفائدة، وخروجاً عن العهدة، ومعاونة على البر والتقوى، إلا أني أقتصر على ذكر هذه الأمور في أول موضع تقع فيه المسألة غالباً؛ هرباً من التكرار، هذا مع فوائد استطردتها، وفروع ألحقتها تستقر بها خواطر المتأملين، وتذعن لحسن موقعها وإيرادها عقول المنصفين)).
ويستطرد قائلاً ـ رحمه الله تعالى ـ : ((مع أني معترف أن الفضل فيه لغيري، لعلمي بجمود قريحتي، وقصوري وتقصيري، إلا أني أرجو الأجر الوافر على جمع الشتيت، وتقرير الدلالة على وجه يفضي إلى البيان والتثبيت))
وأرى أننا من خلال هذه الكلمات الآنفة الذكر نستلهم صورة كاملة عن الكتاب وأهميته، وطريقة مؤلفه، إلا أننا نستكمل هنا بقية عناصر طرق تأليفه، لتكون الصورة أكثر وضوحاً، والجهود أكثر بياناً فنقول:
ثانياً: عقد فصولاً تمهيدية وضّح فيها أهمية القرآن الكريم وفضائله، والعلوم المستخرجة منه، ووسائل فهمه، وتفسير الكتاب والسنة، وكيفية إعمال الأدلة الشرعية والتعامل معها.

ثالثاً: ابتدأ تفسيره بتفسير الاستعاذة، ومن خلال ذكر طريقته فيها نعرف طريقته في الآيات التي بعدها، ومن عادته ـ رحمه الله تعالى ـ أنه يبدأ بذكر عناصر الآية التي تحتاج إلى شرح أو إيضاح، وعلى سبيل المثال:
قسم الإستعاذة إلى أربعة أقسام:
*…الاستعاذة.
*…المستعاذ به (الله جل ذكره).
*…المستعيذ (الإنسان).
*…المستعاذ منه (الشيطان).
ومن خلال هذه الأربعة الأقسام ذكر الأمور المتعلقة بالله تعالى (كرب تجب عبادته) وما يتعلق بالإنسان (كمكلف في الحياة) وما يتعلق بالشيطان (كعدو يجب الحذر منه).
ثم يردف المؤلف بذكر واستقصاء الأحكام والمسائل الفقهية المتعلقة بالآية المراد تفسيرها، فمثلاً في الاستعاذة ذكر.
*…وقت الاستعاذة، هل قبل الصلاة أم بعدها؟
*…شرعية الاستعاذة وحكمها.
*…صحة الصلاة، هل تتعلق بها أم لا؟
*…هل التعوذ في كل ركعة أم في الأولى منها؟
*…هل هي جهر أم مخافتة؟
*…موضع الاستعاذة عند أهل البيت ـ عليهم السلام ـ .
*…هل الاستعاذة لأجل الصلاة، أم لأجل القراءة؟
*…هل يتحمل الإمام الاستعاذة عن المؤتم؟
*…صفة الاستعاذة.
*…خواص الاستعاذة.
رابعاً: أردف كل دليل قرآني بدليل عقلي، وحديث نبوي، أو أثر علوي.
خامساً: ذكر أقوال أهل البيت" في كل مسألة أوردها، وذكر أقوال غيرهم من علماء المذاهب الأخرى.
سادساً: أورد الشُبه التي يتعلق بها المخالفون في كل آية، وأبطلها بعد المناقشة، وذكر الأدلة.
سابعاً: نسب كل نصٍ إلى مصدره، وإذا كان النص حديثاً أو أثراً، فإنه يبين ما قيل فيه من تصحيح أو تضعيف، وبهذا كفانا مؤنة التخريج والتنصيص.
ثامناً: أوضح المشكل والغريب في أي نص يورده.
تاسعاً: التزم المؤلف، وألزم ـ رحمه الله تعالى ـ بأن تكتب الصلاة على النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتابة كاملة، تجنباً للإشارات التي تكتب، ك‍(صلعم) أو نحو ذلك، وقد أوضح ذلك في المسألة الرابعة من الموضع الثاني المتعلق بالبسملة.

عاشراً: إذا أطلق المؤلف كلمة (علامة العصر) فالمقصود به السيد العلامة المجتهد المطلق عبدالله بن الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى سنة (1375هـ) وإذا قال في الرواية: (رواه أئمتنا الثلاثة) فهو يعني ـ رحمه الله تعالى ـ الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، المتوفى سنة (411هـ)، وأخيه الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني، المتوفى سنة (424هـ)، والمحدث الكبير محمد بن منصور المرادي، المتوفى سنة (290هـ).
وإذا قال: (الأربعة) فهو يعني ـ رحمه الله تعالى رحمة الأبرار ـ هؤلاء الثلاثة، إضافة إلى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجاني، المتوفى سنة (479هـ).

فترة التأليف الزمنية
وبالرغم من حفالة برنامجه اليومي، وزخم أعماله المتجددة، وانشغاله بعدد من القضايا، فإنه قد استطاع ـ رحمه الله تعالى ـ أن يكمل تصنيفه بهذه المجلدات الضخمة في زمن قياسي لا بأس به، مقارنة بمواضيع الكتاب، وتكاثر الأعمال، حيث كان انتهائه من المجلد الأول سنة 1365هـ، ومن المجلد الثاني سنة 1367هـ، ومن المجلد الثالث سنة 1371هـ.

السور التي فسرها المؤلف
قد يعتقد القارئ عند رؤيته لهذه المجلدات أن المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ قد استكمل فيها جميع سور القرآن الكريم، ولكنها اقتصرت على تفسير سورة الفاتحة وحتى الآية (102) من سورة البقرة.
ولكنها في مضمونها قد احتوت على جل مواضيع القرآن، وقد حاول المؤلف استكمال أهم المحاور التي ناقشها القرآن الكريم، خصوصاً في القضايا الأصولية، وأورد عليها الأدلة من أكثر سور القرآن الكريم.

ترجمة المؤلف
نسبه
هو السيد العلامة المجتهد الورع الزاهد علي بن محمد بن يحيى بن أحمد بن الحسين بن محمد -الملقب العجري- بن يحيى بن أحمد بن يحيى-الشهيد- بن محمد بن صلاح بن علي بن الحسين بن أمير المؤمنين عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين الهادي إلى الحق علي بن المؤيد رضوان الله عليهم أجمعين. سيد العلماء الأعلام، وبدر أبناء الأئمة الكرام.

مولده ونشأته
ولد بهجرة فلله سنة 1320هـ، نشأ وترعرع في ظل أسرة علوية كريمة تحب العلم، وتشغف مكارم الأخلاق، توفي والده رحمه الله وعمره لم يتجاوز الثامنة، ثم كفله عمه السيد العلامة عبدالله بن يحيى العجري، واعتنى به عناية خاصة إذ نقله معه إلى مشهد الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام بحيدان، وربّاه فأحسن تربيته، وأفاض عليه من علومه ومعارفه.

حياته العلمية ومشائخه
ثم انتقل إلى هجرة ضحيان، ومكث بها فترة ثم رجع إلى صارة، ومن صارة كان ينتقل مطلع كل أسبوع إلى هجرة فلله طالباً للعلوم، عاكفاً عليها بعزيمة صادقة، وهمّة عالية، محققاً لمنطوقها والمفهوم، وكان من مشائخه آنذاك: السيد العلامة علي بن قاسم شرويد، والسيد العلامة أحمد بن عبدالله بن قاسم حوريه، والسيد العلامة عز الدين بن الحسن عدلان، والقاضي العلامة عبدالله بن عبدالله الشاذلي، والقاضي العلامة محمد بن هادي الفضلي... وغيرهم، إلا إن هؤلاء أكثر من لازمهم.
وقد برع في كثير من فنون العلم وبلغ غاية عظيمة في الاجتهاد، بالرغم من العوائق التي كانت تصاحبه أثناء طلبه للعلم. ولنترك ولده السيد العلامة يحيى بن علي العجري يحدثنا عن بداية طلبه للعلوم. قال: كان يتحمل طعامه في آخر كل أسبوع من محله بوادي صاره، ويصعد به الجبال الشاهقة، والطرق الوعرة، ويقاسي المشاق العظيمة مع صبر حسن، وعفة وزهد، وورع وعبادة، معرضاً عن الدنيا، مشتغلاً بالأعمال المقربة إلى الله، صارفاً همته ورغبته في طلب العلم، وتحصيل الفوائد وتقييد الشوارد.
وقال أيضاً: أخبرني رحمه الله أنه كان في ابتداء طلبه أيام بقائه بالهجرة يعود آخر الأسبوع إلى محله في يومي العطلة المعتادة (الخميس والجمعة)، وكان له في أثناء الطريق موضعان يجلس فيهما لتهدئة الأعصاب من وعثاء السفر، أحدهما للدفء والآخر للاستظلال، على حسب مقتضى الحال، وعند جلوسه في أحد الموضعين يجهد نفسه في دراسة مقروءاته في الأسبوع، ويصابر نفسه على أن لا يبرح حتى يتمها.
(الجد بالجد والحرمان بالكسل). لقد أثمر جهده، وظهر جده، وجمع علوماً غزيرة قلّ حاملها.

انتقاله إلى مدينة ضحيان
ثم انتقل إلى مدينة ضحيان، مدينة العلم والعلماء بعائلته، وأخذ عن أشهر مشائخ العلم بها ومنهم: السيد العلامة عبدالله بن عبدالله العنثري، والسيد العلامة عبدالرحمن عبدالله العنثري، والسيد العلامة أحمد يحيى العجري، والسيد العلامة الحسن بن الحسين الحوثي، والسيد العلامة محمد إبراهيم حوريه، والسيد العلامة يحيى بن صلاح ستين، والقاضي العلامة علي بن محمد الغالبي، والقاضي العلامة سالم بن سالم عمر رحمهم الله جميعاً.
وممن أجازه: السيد العلامة عبدالله بن الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي، والقاضي العلامة الحسن بن محمد سهيل.
ولما عرف الناس -بشتى طبقاتهم- فَضْله، وغزارة علمه، قصدوه حسب حاجاتهم، فهذا لطلب العلم، وذاك لحل مشكلاته الاجتماعية، وآخر للفتوى، فكان غوثاً للمساكين، معظماً للعلماء والمتعلمين، حالاً لهم كل الإشكالات العلمية، مصلحاً بين المتخاصمين.

2 / 329
ع
En
A+
A-