واعلم أن هذا الذي أوردناه عن القائلين بأن العلم بأنا الموجدون لأفعالنا ضروري، إنما هو تنبيه على ما ادعوه من الضرورة وتنفل ببيان الدليل على دعواهم، وتوصل إلى قطع شبه الخصم وبيان فضيحته، وإلا فالضروري لا يفتقر إلى الدليل.
قالوا: والشبه التي تعلق بها المجبرة لا يجب الجواب عنها وإن قدحت؛ لأن ما قدح في الضروريات لا يلتفت إليه، ولا يعرج عليه للقطع بصحة ما قدح فيه.
وللإمام (المهدي) عليه السلام في بيان كون العلم بذلك ضرورياً طريقة أخرى، وذلك أنه قال: التحقيق أن الذي نعلمه ضرورة هو وقوف أفعالنا على دواعينا ووقوعها مطابقة لها، وهذا لا يدخله تشكيك، وأما كوننا الموجدين لها أم الباري تعالى هو الموجد للداعي إليها، والموجد لها مطابقة له، فذلك يقبل التشكيك لأنه يحتاج إلى تأمل، لكن ينظر هل العلم الحاصل بأنا الموجدون لأفعالنا بعد التأمل متولد عن دليل ومقدمات بعضها لا يعلم إلا بالدلالة أم حصوله بعد التأمل ضروري، كما أن بعض الضروريات تحتاج إلى مراجعة النفس والفكر اليسير.
قال عليه السلام : والأقرب أن هذه المسألة إما من هذا القبيل، أو من باب إلحاق التفصيل بالجملة؛ لأن العلم بها يتفرع على مقدمات ضرورية، فهاتان طريقتان:
الطريقة الأولى: أن نقول قد تقدم أن هذا العلم يفتقر إلى أدنى تأمل؛ لأنه يقبل التشكيك، وأما كونه بعد التأمل ضرورياً، فإنا إذا تأملنا وجدنا من أنفسنا أنه كان يمكننا ترك ما قد وقع منا وإن لم نضطر إلى أنه وقع بحسب دواعينا ولا ينازع في ذلك إلا سفسطي، لكن من قد سبق إليه قبل هذا التأمل شبهة دعته إلى اعتقاد كوننا مضطرين غير مختارين لم ينفعه هذا التأمل بعد ذلك؛ لأن من قد قطع بصحة شيء، أو فساده تعذر عليه النظر فيه؛ لأن النظر لا يصح إلا من مجوز غير قاطع، وهذا هو عذر المجبرة.
قلت: فبهذه الطريقة يكون علمنا بإيجادنا لأفعالنا ضرورياً، لكن بعد أدنى تأمل لا بالبديهة كما قاله الأولون.

الطريقة الثانية: جعل هذا العلم من باب إلحاق التفصيل بالجملة، وبيانه أن العقلاء يعلمون حسن الزجر عن القبيح، والتوبيخ عليه ضرورة وإن اختلفوا في تفسير القبيح، ويعلمون ضرورة قبح زجر الرجل عن طوله وسواده، وقبح توبيخه على ذلك، ثم إنا نعلم ضرورة أن وجه استقباحه كونه مضطراً إليه لا يمكنه الانفكاك عنه، لا وجه لاستقباحه سوى ذلك، ويتفرع على هذه المقدمات مقدمتان ضروريتان يتفرع عنهما العلم الثالث، وهو إلحاق التفصيل بالجملة، وبيانه أن كل ما اضطر إليه قبح التوبيخ عليه ضرورة، وفي أفعالنا ما لا يقبح الزجر عنه ضرورة كالظلم والكذب، فتحصل عن هذين العلمين علم ثالث، وهو أن في أفعالنا ما لا نضطر إليه، والخصم لا ينازع في كون العلم بالمقدمتين الأوليين ضرورياً، وإن نازع في تفسير القبح، وقال إنه صفة نقص، فمطلوبنا حاصل من غير لبس، فإن نازع في أي المقدمتين فذلك سفسطة ظاهرة، وكذا إن نازع في كون وجه الاستقباح الاضطرار؛ لأنا نجد العلم الضروري أنه هو العلة، كما نعلم ضرورة أن العلة في تناول البهيمة العلف شهوتها، والمشكك في ذلك كالمشكك في المشاهدات أنها خيالات لا حقيقة لها.
قال عليه السلام : فهذه هي الطريقة المرضية عندنا، ولا أظن أبا الحسين أراد إلا ذلك، فإن قلت: فما هذا العلم الثالث أضروري هو أم استدلالي؟ أم لا أيهما؟
قال عليه السلام : قد اختلفت أقوال مشائخنا في ذلك، لكن قد اتفقوا على الفرق بينه وبين العلم النظري بأن هذا مبتدئ ليس بمتولد عن النظر، واختلفوا في الموجد له هل هو الباري تعالى فهو ضروري أم أحدنا فليس بضروري، لكنه جار مجراه في أنه لا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة، بل هو كالملجأ إلى إيجاده مهما بقي معه العلمان الأولان.

قال عليه السلام : وأي الوجهين ثبت في هذا العلم أعني كونه ضرورياً يحتاج إلى أدنى تأمل أم كان من باب إلحاق التفصيل بالجملة، فلست أقول إن المجبرة فيه جاحدون للضرورة مكابرون، بل أحملهم على ما قدمت تحقيقه، وهو أنه سبق إلى أوهامهم من الشبه ما دعاهم إلى اعتقاد جهل دافع حصول هذا العلم بعد التأمل. والله أعلم.
وقد استوفينا كلام الإمام المهدي عليه السلام على طوله مع بعض تصرف واختصار؛ لأنه بحث مفيد، ومنهج سديد لم أرَ لغيره مثله، والمسألة جديرة بالبسط والتحقيق، انظر عند أول ما تجد كلام أبي الحسين وأتباعه، فإنك تقول هذا هو الحق الذي لا محيص عنه، فإذا رأيت ما قاله الإمام المهدي عليه السلام من أن الذي نعلمه ضرورة إنما هو وقوف أفعالنا على دواعينا دون كوننا الموجدين لها، فلا بد وأن يدخل في نفسك شيءٌ، ولا تبقى على تلك العقيدة الأولى، فإذا استكملت النظر في أدلة المسألة كلها، وظهر لك ما يرد عليها، وما يجاب به تبين لك الحق عن دليله، فأما بغير هذا فليس إلا من باب التقليد، وإلا لما انتفى أو ضعف بالتشكيك، وهذا عذرنا في تطويل بعض الأبحاث. والله الموفق.
هذا وأما القائلون بأن العلم بهذه المسألة استدلالي، فلهم حجج عقلية وسمعية، فالعقلية كثيرة إلا أنا نذكر هنا أجلاها، فنقول:
أحدها: التفرقة الضرورية بين حركة الساقط والصاعد، والمرتعش، والباطش، والحيوان، والجماد، وهذه الحجة اعترف بها الأشاعرة وتعلقوا بالكسب.
الحجة الثانية: تعلق المدح والذم ونحوهما بالفاعل من حيث أنه فاعل دون شكله، ولونه، وسوطه، وسيفه.
قال (المقبلي): وهذا ضروري، ودان له كثير من الأشاعرة، وفروا إلى الكسب، وقد اعترض بعضهم هذه الحجة، فقال: ألستم تحمدون الله على الإيمان، وهو من فعلكم ومتعلق بكم، وتذمون على الإماتة بالغرق أو الحريق أو غير ذلك.

والجواب: أن حمدنا لله تعالى ليس إلا على مقدمات الإيمان من الأقدار والتمكين والألطاف، وذلك موجود من قبله تعالى، وهو تعالى يحمدنا على فعله كما قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورا ً}[الإسراء:19]، ولهذا قال بعض أصحابنا، وقد أورد عليه هذا السؤال بحضرة بعض الأكابر، فقال: إنا لا نحمد الله على ذلك، وإنما الله يحمدنا عليه، فانقطع السائل، فقيل للمسؤول: شنعت المسألة فسهلت.
قال (القرشي) : وصار الحال في حمدنا له تعالى على الإيمان كالحال في الوالد إذا اجتهد في تخريج ولده، وحسن تأديبه حتى يبدو صلاحه، فإنه يقال: هذا من أبيه، والمراد أنه تقدم من أبيه من العناية والرعاية ما كان سبباً في ذلك، ومثل هذا يقع الكلام فيمن ذم من وضع غيره في النار فحرق ونحو ذلك، فإن الذم لا يقع على الإماتة، بل على سببها.
الحجة الثالثة: أنه يجب وقوع أفعالنا على مقتضى أحوالنا، فتوجد بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا، فلولا أنها من فعلنا لما وجب فيها ذلك، كما لا يجب في ألواننا وقصرنا وطولنا.

قال السيد (مانكديم): وهذه الطريقة هي المعتمدة، واعلم أن كثيراً من أصحابنا يزيد بعد قوله: وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الحال تحقيقاً أو تقديراً، وأرادوا بسلامة الحال زوال المانع، وخلوص الداعي من صارف يساويه، أو يزيد عليه، وأرادوا بالتحقيق فعل العالم المميز لفعله، وبالتقدير فعل الساهي والنائم، فإنهما لو كانا في اليقظة والتنبه لما وجد الفعل، ولا انتفى إلا بحسب الداعي والصارف المحقق عند الجمهور، خلافاً (لأبي الحسين)، فعنده أن دواعيهما وصوارفهما محققة؛ لأن الداعي قد يكون ظناً واعتقاداً، وهما صحيحان على النائم والساهي، وأجيب بأن الداعي فعل فإما أن يحتاج إلى داع آخر من فعلنا فيتسلسل، أو ينتهي إلى داع ضروري، وهو لا يصح لأن الله لا يفعل الظن في أحدنا، وكذلك الاعتقاد؛ لأنه لو فعله في النائم لكان علماً ضرورياً، والمعلوم خلافه، وأما القصد فلا يصح منهما فعله لاحتياجه إلى العلم.
قلت: وفي هذا الجواب نظر، فإنه يلزم مثله في كل اعتقاد وكل ظن، فيؤدي إلى وجوب الحكم بانتفائهما مطلقاً، لأنه إذا انتفى كونهما من الباري تعالى تعين كونهما من العبد، والمفروض أن كونهما منه يؤدي إلى التسلسل، وقصر التسلسل على ظن الساهي والنائم واعتقادهما تحكم، فالأولى إما إثبات الداعي لهما كما سيأتي، أو الاستدلال على نسبة الفعل إليهما بدليل آخر، وهو وقوعه بحسب قدرتهما، ولا يحتاج إلى إثبات الداعي المقدر في حقهما. والله أعلم.
إذا ثبت هذا فاعلم أن هذه الحجة قد اشتملت على أصلين لا بد من بيانهما، وإقامة الحجة القاطعة على كل واحد منهما:

الأصل الأول: أن هذه التصرفات يجب حصولها وانتفاؤها بحسب دواعينا وصوارفنا، ودليله أن أحدنا إذا دعاه الداعي إلى القيام حصل منه القيام على طريقة واحدة، ووتيرة مستمرة بحيث لا يختلف الحال فيه، وكذلك لو دعاه الداعي إلى الأكل بأن يكون جائعاً وبين يديه ما يشتهيه، وهذا يدل دلالة واضحة على أنها موقوفة على دواعينا وتقع بحسبها، وكما تقف على دواعينا تقف على قصودنا أيضاً، وعلى آلاتنا، والأسباب الواقعة من جهتنا، ألا ترى أن قولنا محمد رسول الله لا ينصرف إلى محمد بن عبد الله دون غيره من المحمدين إلا بإرادتنا، والكتابة الحسنة تقف على كمال الآلة من الأقلام وغيرها، والألم يقع بحسب الضرب يقل بقلته، ويكثر بكثرته، فصح حاجة هذه التصرفات إلينا، وتعلقها بنا على الحد الذي ادعيناه، وقد قال الإمام (المهدي) عليه السلام : إن العلم بوقوع أفعالنا بحسب دواعينا وصوارفنا ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال، وإنما الذي يحتاج إلى الدليل هو معرفة أنا الموجدون لها، قالوا: فعل الملجأ يقع بحسب قصد الملجيء وداعيه، ثم لا يدل عندكم على أنه فعله، وسير الدابة تابع لقصد الراكب، ونعيم أهل الجنة تابع لاختيارهم، واللون الحادث عند الضرب يقل بقلته ويكثر بكثرته، وبياض القبيطا يقع بحسب الضرب من جهتنا، وليس البياض فعلنا، وسواد الحبر يقف على أحوال خلط الزاج بالعفص، والحرارة الحادثة عند حك إحدى الراحتين بالأخرى يقل بقلته ويكثر بكثرته، ولا يدل شيء من ذلك على أنه واقع من جهتنا ومتعلق بنا، فكذا في مسألتنا.
والجواب: أما فعل الملجأ فهو واقع بحسب قصده وداعيه، لكن وافق ذلك قصد الملجئ وداعيه، وكذلك الكلام في الدابة، ولذا لو أراد بها الإقدام على السبع أو الحية لأبت ذلك، وأما نعيم أهل الجنة فليس بحسب قصودهم ودواعيهم، ولهذا لو دعا أحدهم الداعي إلى أن يبلغ درجة الأنبياء لما حصل له ذلك، فصح أنه واقع بحسب إرادة الباري تعالى.

وأما اللون الحادث عند الضرب، فإنما هو لون الدم انزعج بالضرب وليس بحادث، وقد ذهب البغداديون إلى أنه متولد عن الضرب، ويبطله أنه كان يلزم أن يولد الضرب في الجماد؛ لأن المحل محتمل، والسبب حاصل ولا مانع، والمعلوم خلافه، فإن قيل: أليس إن الضرب لا يجب أن يولد الألم في الجماد وإن ولده في الحي، فهلاّ جاز مثله في اللون.
قيل: إنما لم يصح في الألم لأن الضرب إنما يولده بشرط انتفاء الصحة، وهذا إنما يتأتى في بدن الحي، وليس كذلك اللون، فظهر الفرق بينهما، وأيضاً لو كان اللون متولداً عن الضرب للزم أن يتولد من أول ضربة، وأن يتولد في ظاهر البشرة، وكذا بياض القبيطا، فإن ذلك اللون ليس بحادث، بل هو لون كان فيه وظهر بالضرب، ولهذا يستعان في ذلك ببياض البيض، وكذلك الكلام في اللون الحاصل عند خلط الزاج بالعفص، والحرارة الحاصلة عند حك أحد الراحتين بالأخرى.
وأما الأصل الثاني: وهو أنها لو لم تكن من فعلنا لما وجب فيها ذلك، فدليله أنها لو كانت من فعل الله تعالى لجرت مجرى الصور والألوان ونحوها مما علمناه أن العلة في تعذره علينا أنه لا يقف على أحوالنا، بل يوجد وإن كرهناه، ويفقد وإن أردناه، وكذلك أفعال غيرنا لما لم تكن من فعلنا لم تقف على أحوالنا.
فإن قيل: حاصل دليلكم أن أفعال العباد توجد بحسب الدواعي والصوارف، وتنتفي بانتفائها، وأنها لما كانت كذلك وجب كونهم الموجدين لها؛ لأنها قد دارت على الدواعي والصوارف وجوداً وانتفاءً، ونحن وإن سلمنا لكم ذلك فلنا: أن نقول دليل الدوران ظني حتى أن بعضهم لم يتمسك به في الفروع الظنيات، فكيف يتمسك به في قطعيات المسائل، ولا مانع من أن يوجد الله أفعالكم عند قصودكم بمجرى العادة.
قيل: لا نسلم أن الدوران لا يفيد إلا الظن، بل قد يفيد القطع اليقين إذا كَثُرَ تكرره واختباره، بل قد يفيد الضرورة كما في سائر التجربيات.

وأما قولكم: لا مانع من أن يوجد الله أفعالنا عند قصودنا بمجرى العادة.
فالجواب: أنه لو كان ذلكم كما ذكرتم لوجب صحة اختلافه، فكنا نجوز وقوعها وانتفاءها، ولا صارف بأن تختلف العادة كما في الحر والبرد، فإنه لما كان طريقه العادة اختلفت لاختلاف البلدان، وهكذا كل شيء طريقه العادة، فإنه يجوز اختلافه كالإحراق ونحوه.
كما روي أن في الحيوانات حيواناً يقال له السمندل يدخل في النار، ويتمرغ فيها فلا تؤذيه ولا يحترق بها، حتى أنه يتخذ من دبره منديل غمر، فكلما توسخ يلقى في النار فيعود أنظف ما يكون.
وروي أن بكرمان خشبة لا تحرقها النار.
قال في (شرح الأصول): وكذلك في مسألتنا لو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا بمجرى العادة لجاز أن يختلف الحال فيها حتى يصدق قول من قال إنه شاهد في بعض البلاد النائية عنَّا من كان يقع فعله منه عند صارفه، وينتفي عند داعيه، ويمكنه نقل الأجسام الثقيلة وهو ضعيف، ولا يمكنه نقل الخفيف منها إذا عاد إلى قوته، وتتأتى منه الكتابة البديعة ولما يعلمها ولا عُلِمها، فلما تعلّمها لم يتأت منه ذلك، ومن صدق هذا المخبر فهو متجاهل، أو غير عاقل.
دليل آخر ذكره القرشي: وهو أن أفعالنا لو كانت مخلوقة عند قصودنا بمجرى العادة لكنا نجد أنفسنا مدفوعة إليها، وخلافه معلوم، وأيضاً لو جوزنا أن تكون من فعل غيرنا وإن وجدت بحسب أحوالنا لجوزنا أن تكون من فعل غير الله تعالى، وقد اعترض الإمام المهدي عليه السلام على أصحابنا في قولهم باختلاف ما طريقه العادة، فقال: بِمَ تعلمون وجوب اختلاف العاديات ضرورة أم دلالة؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، لكن لا دليل لكم على ذلك إلا حكمة الباري وعدله؛ لئلا يلتبس الواجب بالجائز، وهذه طريقة غير مرضية لوجوه:

أحدها: أن عدل الباري وحكمته إنما يثبت إذا ثبت أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، فأما مع تجويز كونها خلقاً فيهم فلا، فاستدلالكم على أنها ليست خلقاً فيهم بما يفتقر إلى العدل والحكمة دور محض لا يخفى عن ذوي نظر.
الوجه الثاني: سلمنا أنه ليس بدور لزمكم أن لا يصح أن يعلم العبد أنه محدث لفعله حتى يعلم الباري وعدله وحكمته، وخلاف ذلك معلوم.
الوجه الثالث: أنا لا نسلم أنه يجب على الله خلف العادات؛ لئلا يلتبس الواجب بالجائز؛ لأن العبد إذا علم أن العادة قد تستمر في بعض العادات لم يكن له القطع بوجوب ما وجده مستمراً، بل يقف على الدليل في الحكم بوجوبه، أو جوازه.
قلت: ويمكن أن يجاب بأنا لم ندع وجوب اختلاف العاديات، وإنما ادعينا جوازه، ودليل الجواز وقوع ذلك كما تقدم، والوقوع فرع الجواز، ويمكن الجواب عن الوجه الأول بأنا لا نسلم توقف عدل الباري على كون أفعال العباد منهم، بل على أنه عالم بالقبيح ووجه قبحه مع غناه عنه وعلمه بغناه، وكيف يتوقف على كون أفعال العباد منهم وفيها ما هو حسن، ولو فعله الباري لم يخرج به عن العدل والحكمة كالإحسان، وغاية الأمر أن بعض أفعالهم من القبائح التي لا يفعلها الباري تعالى لعلمه بقبحها، وهذا لا يتوقف عدله عليه خاصة، وإنما هو بعض القبيح الذي يتوقف العدل على العلم بجملته.
والحاصل أن المانع من فعله سبحانه للقبيح هو علمه به وغناه عنه لا نفس القبيح، فتأمل.
وأما الوجه الثاني: فلم يظهر للملازمة التي ذكرها وجه مع بطلان الوجه الأول وفوق كل ذي علم عليم.
وأما الوجه الثالث: فقد تقدم أنا لا نقول بالوجوب، وقد وقفنا على الدليل فلم نحكم بجواز اختلاف العاديات إلا لوقوعه كثيراً. والله أعلم بالصواب.

فإن قيل: قولكم إن أحدنا محدث لتصرفاته؛ لأنها تقع بحسب قصده وداعيه باطل بالساهي والنائم، فإنهما محدثان لتصرفهما وإن لم يقع بحسب داعيهما وقصدهما، بل لا داعي لهما ولا قصد، فإن قلتم إنهما غير محدثين، وجب أن لا تكون أفعالهما منهما.
فالجواب: أما (أبو الحسين) ومن تبعه فلا يتوجه عليهم هذا السؤال؛ لأنهم يقولون إن الساهي والنائم كاليقظان لا يفعلان الفعل إلا لداع، بناء على أصلهم من استحالة الفعل من دون داع، وأما الجمهور فقد احترزوا عن هذا الاعتراض بقولهم إما محققاً أو مقدراً، ومعلوم أن تصرفهما وإن لم يقع بحسب قصدهما محققاً فقد وقع بحسبه مقدراً؛ لأنا لو قدرنا أن لهما قصداً لكان تصرفهما بحسبه.
وقال السيد (مانكديم): الذي يدل على أن الساهي محدِث كالعالِم هو ما قد ثبت أن فعله يقع بحسب قدرته يقل بقلتها، ويكثر بكثرتها، وعلى هذا فإنه لو كان في منتهى رجله كوز يمكنه أن يحركه، ولو كان بدل الكوز حجر عظيم لم يمكنه نقله ولا تحريكه، وأيضاً فمعلوم أن النائم وهو بالري مثلاً يعتقد أنه ببغداد، وهذا الاعتقاد جهل قبيح، فلا يخلو إما أن يكون من قبل الله تعالى، أو من قبل غيره، أو من جهته، لا يجوز أن يكون من جهة الله تعالى لأنه قبيح، ولا من جهة غيره لأن الغير إنما يعدي الفعل عن محل القدرة بالاعتماد، والاعتماد لا يولد الاعتقاد فلم يبق إلا أنه من جهته.

19 / 329
ع
En
A+
A-