فالأول: كالكفارات، فإن سببها الحنث، أو اليمين وذلك من جهتنا.
والثاني: كالدية في قتل الخطأ، فإن سبب وجوبها القتل وهو من جهة الغير، قال السيد مانكديم: ويمكن أن يعد في هذا القسم النظر في طريق معرفة الله لأن سبب وجوبه ربما يكون بدعاءِ داع وتخويف مخوف ونحو ذلك، ويمكن عده من القسم الأول لأنه ربما يكون سببه نظراً في كتاب، أو تنبيهاً من قبل النفس، وهذا هو الظاهر لأن سبب وجوبه هو الخوف من تركه ضرراً، والخوف من فعلنا، وإنما يختلف سببه فتارة يكون من فعلنا، وتارة يكون من فعل غيرنا.
وينقسم الواجب أيضاً إلى ما يضاف إلى سببه كالكفارات، فإنه يقال: كفارة يمين، كفارة ظهار، وإلى ما يضاف إلى وقته كالصلاة، فإنه يقال: صلاة الظهر، صلاة العصر، والفرق بين الإضافتين أن إحداهما إضافة إلى سبب موجب بخلاف الأخرى.
واعلم أن الأفعال الشرعية قد توصف بالصحة والفساد، والمراد به قد يختلف بحسب اختلاف مواضعه، فإذا وصفت العقود بالصحة، فالمراد أن ذلك العقد استوفى شرائطه على ما يقتضيه الشرع فأوجب الملك الذي يحل معه التصرف، وإن وصفت بالفساد، فالمراد أنها لم تستوف الشروط فلم تفد الملك والحل، وأما العبادة إذا وصفت بهما فالمراد أنه يلزمه الإعادة أو لا، وإذا قيل شهادة صحيحة، أو فاسدة فالمراد به أن القاضي يحكم بها أو لا، وليس المراد بذلك كونها صادقة أو كاذبة؛ لأنها قد تكون صادقة ولا يصح الحكم بها كشهادة العبيد، والأب لابنه على قول، وقد تكون كاذبة وتوصف بالصحة، وذلك إذا لزم الحكم بها، وإذا وصف بهما خبر الواحد، فالمراد أنه نقل على وجه يجب العمل به أو لا، ولا يعتبر في ذلك كونه صدقاً أو كذباً في نفس الأمر؛ لأنه قد يوصف بالصحة إذا استوفى شرائط وجوب العمل به وإن كان كذباً في الواقع، ويوصف بالفساد إن لم يستوفها وإن كان صدقاً في نفسه.
نعم وأما القبيح فهو ينقسم إلى صغير وكبير، فالكبير ينقسم إلى ما يكون كفراً، وإلى ما يكون فسقاً، وسيأتي تحقيق هذه الأقسام في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وينقسم أيضاً إلى ما يزول حكمه بالإكراه، وإلى ما ليس كذلك.
فالأول: كل ما لا يتعدى إلى الغير كإظهار كلمة الكفر، فإنه يجوز من المكره لا على جهة الاعتقاد والتدين بل على أنكم كلفتموني ذلك، أو على أن النصارى يقولونه.
والثاني: ما يتعدى ضرره إلى الغير كقتل الغير وما شاكله، فإنه لا يتغير بالإكراه، بل يلزم المكره أن يذكر نفسه بأن عقاب الله تعالى أعظم من عقاب هذا المكرِه، فلو أقدمت على ما أكرهني عليه عاقبني الله عقاباً شديداً، وإن صبرت على ما نالني من المكرِه وفاني الله تعالى أجري بغير حساب، وللقبيح قسمة أخرى، وهي أنه ينقسم إلى ما لا يمكن الانفكاك عنه إلا بأن لا يفعله كالجهل، وإلى ما يمكن الانفكاك عنه بأن يفعله على وجه آخر كالكذب، فإنه يمكن الانفكاك عنه بأن يوقعه على وجه الصدق وكالسجدة، فإنه يمكن الانفكاك عنه بأن يوقعها للرحمن لا للشيطان.
وللأفعال قسمة أخرى، وهي أنها تنقسم إلى مبتدئ ومتولد، ذكره في (الأساس) وحكاه عن (الجمهور).
قال الشارح: وسواء كانت من الله تعالى أو من العباد، وفي غيره أنها تنقسم إلى مبتدئ، ومباشر، ومتعدي، وقيل غير ذلك، وسبب الخلاف في تقسيمها ما وقع من الاختلاف بين المتقدمين والمتأخرين في تحديدها، وفيما يجوز على الله منها، وما لا يجوز، ونحن نأتي بأقوالهم فيها ليتضح الحق، ويظهر المراد، ويزول الإشكال، فنقول: قال (أبو علي)، و(أبو هاشم): المتولد من أفعالنا هو المسبب، وهو الفعل الموجود بالقدرة بواسطة فعل في محلها.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وهو ينقسم عند المتأخرين من أصحابنا إلى مباشر ومتعدي، فالمباشر الفعل الموجود بالقدرة في محلها بواسطة فعل في محلها، والمتعدي الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، والمبتدئ هو ما يفعل بالقدرة في محلها لا بواسطة، وعلى هذا المباشر من المتولد، وقيل: بل المباشر الفعل الموجود بالقدرة في محلها لا بواسطة، والمتولد الموجود بالقدرة بواسطة سبب، وهذا قول المتأخرين، وعليه فالمباشر هو المبتدئ.
وقد روى في الدامغ معناه عن (أبي هاشم)، و(قاضي القضاة)، وقيل المتولد: ما يحل في غيرك، وهو معنى قول بعضهم المتولد الفعل الموجود بالقدرة في غير محلها، وعليه فالمباشر من المبتدئ هو الفعل الموجود بالقدرة في محلها سواء كان بواسطة أم لا، ولا يخفى ضعف هذا القول بقصر المتولد على ما يحل في الغير؛ لأن في المتولد ما يحل في الإنسان كالعلم المتولد عن النظر، وكالحركة الثانية وما بعدها، وقيل: هو الذي إذا وجد سببه خرج عن إمكان تركه، ورد بأن في المتولدات ما يمكن فاعله تركه بعد وجود سببه بأن يكون ثمة مانع من توليد السبب، وقيل: بل هو الفعل الثالث الذي يلي الثاني مثل الألم الذي يلي الضربة، ومثل الذهاب الذي يلي الدفع، وما سوى ذلك فمباشر سواء كان في محل القدرة أم في غيره.
وقال (الإسكافي): كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه والإرادة له فمتولد، وكل فعل لا يتهيأ إيقاعه إلا بقصد، وكل جزء منه يحتاج إلى تجديد عزم، وقصد إليه، وإرادة فهو خارج عن حد المتولد، داخل في حد المباشر.
قيل: ولا وجه له.
وقال (القرشي): المتولد هو الفعل الموجود بواسطة موجبة كالعلم الحاصل عن النظر، والألم الحاصل بالتفريق والمبتدئ مقابله.
قال: وهما يفارقان المباشر والمتعدي مفارقة الأعم للأخص؛ لأن المباشر هو الموجود في محل القدرة عليه، والمتعدي هو الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، فكل متعد متولد ولا عكس، وكل مباشر مبتدئ بحسب الخلاف بين الشيوخ ولا عكس.
قلت: أراد بالخلاف ما تقدم من أن بعضهم يجعل كل مباشر مبتدئ، وهم الذين يحدون المباشر بأنه الموجود بالقدرة في محلها، لا بواسطة وهم المتقدمون، وبعضهم يحده بأنه الموجود بالقدرة في محلها، ولا يشترطون أن يكون بلا واسطة وهم المتأخرون، وعلى هذا لا يكون كل مباشر مبتدئ؛ إذ في المباشر ما هو متولد كالعلم وكثير من الأكوان والاعتمادات، والحاصل أن بعض المتكلمين يجعل المباشر من المتولد وهم من يعتبر الواسطة في حده، وبعضهم يجعله نفس المبتدئ وهم من لا يعتبرها، وبعضهم يطلقه على المبتدئ، والمتولد كما يفهم مما سبق، وعليه (النجري) و(الشرفي)، فإنهما قسما المتولد إلى مباشر ومتعدي كالعلم وتحريك الغير، ثم قسما المباشر إلى متولد كالعلم، ومبتدئ كالاعتماد.
قال (النجري): والمبتدئ لا يكون إلا مباشراً.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : واتفق المتكلمون على أنه لا بد من فرق بين المباشر والمتولد وإن اختلفوا في الفارق، والوجه المقتضي لوجوب الفرق أن الواحد منا لما وجد من نفسه أنه قد يفعل فعلاً لا يحتاج في إيقاعه إلى فعل يقدمه عليه كالحركة المبتدأة، وكالإرادة والكراهة ونحوهما، ويجد من نفسه أنه قد يفعل ما يحتاج فيه إلى تقديم فعل غيره كالعلم المحتاج إلى النظر، والتأليف المحتاج إلى الكون، والألم المحتاج إلى الضرب، والكون المحتاج إلى الاعتماد احتجنا إلى الفصل بين الفعلين في الاسم، فسمينا المحتاج إلى السبب متولداً تشبيهاً بتولد الحيوان، وافتقار الولد في وجوده إلى الوالد، وسمينا ما لا يحتاج مباشراً تشبيهاً بالمباشر للبدن من اللباس لما لم يكن بينه وبين إيجاده بالقدرة حائل كاللباس المباشر، وكل أهل الأقوال ملاحظون لهذا التشبيه، خلى أنما اخترناه هو الأشبه والأقرب. ذكره في الدامغ، وهذا كله بالنظر إلى أفعالنا، وأما بالنظر إلى أفعال الله تعالى فقد تقدم أنها تنقسم إلى: مبتدئ، ومتولد، ومنع أبو علي الثاني لاستلزامه الحاجة إلى السبب، ورد بأنا نعلم كثيراً من أفعاله تعالى واقعاً بحسب غيره كسير السفينةولا تلزم الحاجة إلا حيث كان تعالى لا يقدر بدون السبب، واختلفوا في إطلاق المباشر على أفعاله تعالى، فمنعه القرشي لأن أفعاله تعالى كلها مخترعة.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : يعني المبتدئ منها والمتولد إذ لا يفعل بقدرة، ولا يعتبر في أفعاله محل القدرة، وقيل: إن المتولد من فعله تعالى لا يسمى مخترعاً، وإنما يختص باسم المخترع المبتدئ، وهو ظاهر كلام الإمام (المهدي) عليه السلام فإنه قال: اتفق أصحابنا على أن الفعل المخترع ما وجد لا بالقدرة ابتداء.
قال عليه السلام : ويختص به الباري تعالى، ولا يصح من غيره اختراع، وأجاز الشرفي إطلاق المباشر على أفعاله تعالى، وقال: هو المفعول بلا واسطة، وهو المبتدئ والظاهر منعه لما فيه من إيهام التشبيه، وللفعل قسمة أخرى، وهي أنه ينقسم إلى ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد، وإلى ما ليس كذلك، وسيأتي إن شاء الله.
الفصل الثاني: في تحقيق مسألة أفعال العباد
والكلام فيها يقع في أربعة مواضع: الأول: في ذكر الخلاف، الثاني: في بيان أدلة أهل العدل ورد ما يرد عليها، والثالث: في ذكر شبه المخالفين وبيان بطلانها، والرابع: فيما يلزم على مذهب المخالف من اللوازم الباطلة، وغير ذلك من الحكايات والمناظرات.
الموضع الأول: [إيضاح الخلاف في مسألة أفعال العباد]
اتفق الناس على أن لأفعالنا بنا تعلقاً والعلم بذلك ضروري، واتفق المسلمون على أن لها بالباري تعلقاً ثم اختلفوا في تفاصيل ذلك، فالذي عليه أهل البيت" وسائر الزيدية، والمعتزلة، والقطعية وهم فرقة من الإمامية والخوارج، وأكثر الفرق: أنا المحدثون لأفعالنا حسنها وقبيحها، وأنها غير مخلوقة فينا، وهذا معنى تعلقها بنا، ومعنى تعلقها بالباري تعالى أنه أقدرنا عليها أي خلق فينا قدرة يصح تأثيرها في إيجاد أفعالنا، أو جعلنا على صفة تؤثر في ذلك على حسب الخلاف بين الأصحاب، وخالف في ذلك المجبرة جميعاً، فقالوا: هي من الله تعالى، ثم اختلفوا فقال (جهم بن صفوان) وأصحابه: لا تعلق لها بنا أصلاً لا كسباً ولا إحداثاً، وإنما نحن كالظروف لها، وليس المحدث لها في العبد إلا الله تعالى كالألوان وحركات الشجر، وجعلوا نسبتها للعبد مجازاً كنسبة الطول والقصر إليه، وسووا في ذلك بين المباشر والمتعدي.
وقال (ضرار بن عمر): بل لها بنا تعلقاً من جهة الكسب وإن كانت مخلوقة فينا من جهة الله تعالى، ولم يفرق بين المباشر والمتعدي، وبه قال (الأشعري) في المباشر، فأما المتعدي فالله متفرد به عنده، ومثل قول ضرار حكاه في القلائد والأساس عن النجارية، والكلابية، والأشعرية وحفص الفرد.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وقالت قدماء الأشعرية: المباشر خلق لله وكسب للعبد، والمتعدي يتفرد الله تعالى به، وأما متأخروا الأشعرية كـ(الجويني) و(الغزالي) ، و(الرازي) ، و(أبي إسحاق) فقالوا: بل لقادرية العبد تأثير في إيجاد الفعل كما تقوله العدلية، خلا أنهم جعلوا القدرة موجبة للمقدور فلزمهم الجبر.
وقالت (المطرفية): العباد فاعلون لكل ما لا يتعدى من أفعالهم دون المتولدات والمسببات، فإن الله فاعلها ويسمونها انفعالاً، فعلى هذا فعل العبد مقصور عليه لا يتعدى إلى غيره عندهم.
الموضع الثاني: في ذكر حجج أهل العدل
واعلم أنهم اختلفوا هل العلم بأنا الموجدون لأفعالنا ضروري أم استدلالي، فقال (الأمير الحسين) عليه السلام و(أبو الحسين) ، و(ابن الملاحمي) ومن تبعهم واختاره المقبلي: العلم بذلك ضروري بديهي يعلمه حتى الصبيان، وعليه ابتناء المعاملة والمدح والذم والتعجب، وسائر الأمور المتفرعة التي لا تكون إلا مع صدور موجبها عمن مدح وذم وتعجب منه، والعلم بهذه الفروع ضروري فكيف بأصلها.
قال الأمير (الحسين) عليه السلام : اعلم أن كون العبد فاعلاً لتصرفاته أمر معلوم بالاضطرار لا يقدح في ثبوته الإنكار، فمنكره كمنكر كون دجلة في الأنهار، ونافيه كنافي ظلمة الليل وضياء النهار، وما هذا حاله لا يحتاج إلى نصب دلالة.
وقال (المقبلي) بعد أن قرر أن هذا أمر ضروري: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه إلا أن لإدراكه مقدمة، وهي أن تفرد نفسك لله تعالى.
وقال في (الأرواح): وقد شهد الجميع بأن إنكار الفرق ما بين صاعد المنارة والساقط منها ضروري، فتضمن الإقرار والشهادة بإنكار الجبري الضرورة.
قلت: أراد بقوله أن إنكار الفرق ضروري أنه إنكاره إنكارٌ للضرورة. والله أعلم.
وقال (أبو الحسين): العلم بأنا المحدثون لأفعالنا ضروري لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها والترغيب والترهيب والمدح والذم، ويعللون ذلك بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم محدثون لها، ومحال أن يعلم الفرع ضرورة والأصل استدلالاً، يوضحه أنهم يطلبون الفاعل طلب المضطر إلى أنه يفعل، ويجد الطالب من نفسه العلم بأن المطلوب الذي يحدث فعله، ولذلك يتلطف لاستدعاء الفعل منه، ويعظه، ويزجره، ويعده ويتوعده بحسب الحال، ويتعجب من فعله وييستظرفه، ويعجب العقلاء منه، ويعلل ذلك بكونه فعله، ونجد من أنفسنا الفرق الضروري بين أمرنا بالقيام والقعود، وبين أمرنا بإيجاد السماء والكواكب، فلولا أن العلم الضروري حاصل بأنا الموجدون لأفعالنا لما صح ذلك.
قال (أبو الحسين): والمجبرة يعلمون ذلك، ولكن جحده علماؤهم ميلاً إلى الهوى وتعصباً للأسلاف، وطلباً للرئاسة، وتقرباً إلى السلطان، وليست شبههم أكثر ولا أدق من شبه السوفسطائة، ولم يدل ذلك على أنهم غير جاحدين للضرورة على أنه يمكن صرف خلاف الجميع إلى أنهم علموا ولم يعلموا أنهم علموا، فإنه لا يمتنع أن تطرأ شبهة في العلم بالعلم لا في العلم نفسه، يزيده وضوحاً أنك إذا حكيت مذهبهم هذا لعوامهم الذين لا يعرفون كيفية أقوالهم لأنكروه، ولنزهوهم عن هذه المقالة، بل تجد علماءهم معتزلة في المعاملات، فلا يذمون إلا من ظلمهم، ولا يحمدون إلا من أحسن إليهم، حتى لو رميت أحدهم بحجر فشجه لذمك ولم يذم الحجر، ولوثب إليك وثبة مضطر إلى أنك الذي جرحته، ولو أخذت عليه دانقاً لما سهل فيه، ولخصك من بين الناس بطلبه.
وبالجملة فلو جمعت المجبرة في صعيد واحد ثم رأوا رجلاً يقتل آخر، أو يأخذ ماله لشهدوا أنه قاتله ولما خالجتهم شبهة في ذلك، ولو كان الحق ما ذهبوا إليه لكانت شهادتهم بذلك زائرة.